4 أيام في محيط الكارثة
كان الأمر أشبه بُحلم. يحمل "داكس وورد" معدات التصوير فوق كتفه، يتنقل بها رفقة اثنين من السكان الأوكرانيين وسائح بريطاني في الأحراش، يتعين عليهم أحيانًا الاختباء لساعات، اتقاءً لدوريات الشرطة التي تمسح منطقة مفاعل تشرنوبل على مدار اليوم، يقضون يومهم بين السير والتصوير، وأخذ استراحة قصيرة للطعام، يُراقبون عدادات جايجر التي يملكونها ليعرفوا نسبة الإشعاع، يأتي عليهم الليل صامتًا، ثقيلًا، لا صوت فيه سوى عواء الذئاب وركض الحيوانات الضارية، لكن المصور الأمريكي لم يكن ليحظى بتجربة أفضل، وفُرصة يوثق فيها تفاصيل مدينة بريبيات المهجورة منذ عام 1986.
منذ ست سنوات، أُخذ عقل "وورد" بتصوير الأماكن الخاوية، تحسس فيها المغامرة والصور المختلفة، فرغم أن الشاب الأمريكي استقر في تايلاند منذ 15 عامًا حيث تخرج فيها ليعمل مُدرسا، "والآن أُحضر دراسات عليا في التعليم"، لكن التصوير ظل هوايته الأجمل، زار المصور الثلاثيني أكثر من 40 مكانًا بين الولايات المتحدة، تايلاند، جنوب إفريقيا وغيرها من الدول، حتى جاءت فرصة زيارة أوكرانيا في إبريل الماضي، وتحديدًا منطقة مفاعل تشرنوبل.
"حدث الأمر بالصدفة".. يتذكر كيف نظم رحلته إلى أوكرانيا، حيث تابع حسابات بعض السكان المحليين لأوكرانيا "كانوا ينشرون صورا لمنطقة المفاعل لم أرها من قبل، يبدو أنهم يتسللون بشكل مختلف عن بقية السائحين"، لم يكن "وورد" يُريد الذهاب للمفاعل كسائح "يقلل ذلك من جودة التجربة، الزيارات المُعلبة تقتصر على رؤية بضعة أماكن فقط، أما التسلل مع السكان المحليين والإقامة داخل المنطقة فلها طعم آخر"، لذا جاء الاتفاق على الرحلة.
الاستعداد لتلك الرحلة لم يكن بسيطًا، فرغم أن "وورد" تعود على زيارة الأماكن المهجورة، لكن قضاء الوقت في محيط تشرنوبل له خصوصية. بدأ الأمر بتحضير عُدة التصوير "أخذت 2 كاميرا، عدة شواحن، ومجموعة بطاريات احتياطية، والكاميرا الدرون"، على المستوى الشخصي لم يفعل "وورد" الكثير "فقط ارتديت أكماما طويلة وبنطالًا طوال الرحلة لتجنب التعرض المباشر للإشعاع، لم يكن هناك محاذير كثيرة سوى قدرة الشخص على التحمل".
تبعد مدينة بريبيات أقل من 3 كيلومترات عن المفاعل، كانت تضم أُسر العاملين في الصرح الضخم قبل أن يُصبح كارثة نووية. حينما أٌعلن الإخلاء في إبريل 1986 ترك الناس كل شيء ورحلوا "كأنهم كانوا فقط موجودين بالأمس"، جعل ذلك صور "وورد" نابضة "متعلقاتهم المترامية أضافت روحًا لكل شيء".
في الرحلات القانونية للمنطقة المنكوبة، لا يُسمح للسائحين بدخول المباني، غير أن "وورد" ورفاقه كسروا تلك القاعدة. على مدار 3 أيام طاف الرجال الأربعة المدينة المهجورة "نمنا أكثر من مرة داخل مبنى خالي"، كان ذلك يُسعد المصور الأمريكي قدر ما يقلقه، فالخطر لم يأتِ من التلوث الإشعاعي فقط "بل السلامة الهيكلية لتلك المباني وهل هي صالحة لدخولها أم لا؟"، في المقابل أيضًا، تعيّن عليهم التجول ليلًا فقط "لنقلل نسبة القبض علينا قدر المستطاع".
ما زال "وورد" يتذكر شعور الصمت الذي اجتاحه داخل مدينة بريبيات، لم يراوده الخوف أبدًا "على العكس، وقعت في حُب الصمت التام في المنطقة، والسلام الذي شعرت به". كان يوم الرفاق الأربعة بسيطًا، لا أنشطة كثيرة سوى السير في الغابات لمسافة تصل أحيانا لـ30 كيلومترًا، واستكشاف الأماكن المختلفة والمباني، والتقاط الصور "وأحيانًا مشاهدة الحيوانات الموجودة من ذئاب والدببة والبوم ونباتات لا يمكننا لمسها".
لم يترك "وورد" شيئًا إلا وثّقه بالكاميرا، التقط صورًا لفصول المدارس التي كساها التراب، الأقنعة الواقية المُلقاة في الشوارع، الدُمى المرصوصة بعناية في إحدى الشقق، مدينة الملاهي التي تبقى منها ساقية ضخمة "لعل صورة تلك الساقية هي الأقرب لقلبي من ضمن حصيلة الصور"، يحكي "وورد" أنه وجّه كشافات حمراء اللون تجاه الساقية والسماء كانت مظلمة إذ لا أضواء محيطة. وفي نفس الوقت كان ضوء النجوم جميلًا "ومجموعة الدب الأكبر تظهر عن يمين الصورة".
حين سافر المصور الأمريكي، لم يكن مُسلسل تشرنوبل الشهير قد أُذيع بعد، شاهده المصور عقب العودة بفترة وجيزة "كانت القصة جيدة وكذلك الممثلون"، لكن ما أبهره حقًا كان التفاصيل "تحديدا النجوم في شوارع بريبيات في المسلسل، ذكرني ذلك بالحقيقة وتجربتي هناك، كذلك الديكورات المستخدمة.. كانت دقيقة كأنهم صوّروا الحلقات داخل بريبيات نفسها".
رغم المغامرة، لم يخفت قلق "وورد" من نسبة الإشعاع الموجودة في المنطقة "كانت قراءات عداد جايجر مطمئنة والنسبة منخفضة"، لم ترتفع قليلًا إلا حينما بات الرفاق على بُعد كيلومتر واحد فقط من المُفاعل المُنهار "لكن النسبة كانت مقبولة أيضًا رغم الخطر"، كان "وورد" على دراية بطبيعة المكان قبل ذهابه، وأحيانًا ما كان يشعر بانقباض في صدره "أحاول وضع نفسي مكان سكان بريبيات الذين أصبحت حيواتهم فجأة مختلفة.. أقنعتهم الحكومة وقتها أنهم سيعودون فتركوا كل شيء.. أمر مُحزن ومرعب" كما يقول.
كان من المفترض أن تستمر الرحلة لأربعة أيام، لكن إصابة السائح الآخر مع "وورد" أنهى الرحلة في اليوم الثالث مساءً. زجاجة مكسورة تسببت في جرح عميق بيد السائح البريطاني "لم يكن معنا ما يصلح له من إسعافات أولية وقد احتاج لخياطة طبية"، اضطر المرشدان للاتصال بالشرطة لاصطحاب الرجل وذلك بعدما ابتعد الثلاثة عنه مسافة كيلو متر كي لا يتم القبض عليهم "صحبته الشرطة لخارج المنطقة حيث تم إنقاذه"، فيما قضى الباقون الليلة الأخيرة داخل المنطقة المنكوبة.
يتذكر وورد الساعات الأخيرة جيدًا، يسترجع آخر غروب داخل الغابات، لا ينسى قطيع الخيول الذي ركض على بعد أمتار منه فجأة، ففي عام 1998 نقل العلماء مجموعة صغيرة من الأحصنة للمنطقة المنكوبة ليروا إذا كانت ستستمر على قيد الحياة أم لا "الآن أصبحت تلك الخيول بالمئات"، أشعر ذلك وورد بارتياح، فرغم الكارثة لا تتوقف الحياة عن دفع الموت هُناك "بت أعلم أن الجنس البشري فقط هو من سيرحل بسبب أنانيته المفرطة.. أما الطبيعة فستجد لها مخرجًا لتظل موجودة وجميلة".