"المحصول لم يكفِ العيش"

في نهار أعلن فيه الخريف بدايته، يَشق "جمعة" طريقه وسط أرضه المزروعة "أرز"، الذي لايزال يحصده. يُمسك بأطرافه ليجد قوامه ذابلا بلون غامق. في تلك اللحظة، لم يكن "جمعة" سعيدا بهذا الطقس البارد، بل غاضبا من تبعاته، فقد ضرب محصوله، الصاروخ، هكذا يطلقون عليه، مرض جديد، لا يدرك أسبابه، لكنه يري أمامه عدوا جديدا في رزقه.

على بُعد نحو 170 كم من مكان "جمعة" بمركز أبو حمص في البحيرة، جَلس محمد فهيم في مكتبه بوزارة الزراعة، بوصفه مديرا لمركز معلومات تغير المناخ ، يكتب على صفحته بموقع "فيسبوك" نصائح موجهة للفلاحين للتعامل مع تقلبات الخريف. وما إن فرغ من ذلك، رَفع رأسه ليقول إن "مَرض الأرز يعود بالتأكيد إلى التذبذبات الجوية".

حَال محصول الأرز ليس استثناءً من الأضرار التي طالت المحاصيل الزراعية نتيجة تغيرات المناخ في السنوات الأخيرة. فصار المزارعون يحبسون أنفاسهم في انتظار انتهاء الموسم بسلام ودون مفاجآت. عارضهم المناخ كثيرًا وتبدلت الثمار، والنتيجة تأثير على غذائنا، وعائد قليل لصاحبه ربما لا يكفي حتى مصاريف زراعة الأرض.

يتكئ جمعة دميس على فأسه ليحرث أرضاً ليست له. فالرجل الستيني لم يعد يَحصد المتوقع ولا يربح المُعتاد من أرضه؛ حيث إنها أخرجت له مؤخرًا ثلاثة أراديب أرز (الواحد يساوي 300 كيلوجرام) بدلاً من الطن تقريبًا، فالباقي خَرب بفعل المرض؛ ما دفعه للعمل باليومية في غيرها لينفق على أسرته المكونة من خَمسة أفراد.

لا بدائل أو عمل آخر لشخص مثل "جمعة" في البحيرة المتخذة من "السنبلة" شعارًا لها، كتعبير واضح عن أن الزراعة حرفتها الأولى؛ إذ تضم أكبر مساحة أراضٍ زراعية في مصر، تصل إلى مليون و600 ألف فدان، ويمتلك منها "جمعة" نصف فدان ورثه عن والده، ليعمل بها لأكثر من أربعين عامًا.

لكن تغير المناخ يَدفع بقوة تلك الأراضي الخضراء نحو الغرق، ومن عليها نحو النزوح؛ حيث إن ثلث الدلتا مُهدد بذلك جراء التغير المناخي وزيادة منسوب البحر نتيجة لارتفاع درجة حرارة الأرض، وهو ما صَرح به بشكل صادم محمد عبد العاطي (وزير الموارد المائية والري السابق) في أواخر العام الماضي، كذلك أشارت إليه تقارير وزارة البيئة.

فالبحيرة التي تعانق البحر المتوسط والنيل معًا، وتقدر مساحتها بنحو 10 آلاف كم مربع، هي جزء من دلتا النيل ذات الأراضي المنخفضة أو "غير الأصيلة" – حسبما يسميها طارق الجزيري (الأستاذ بمعهد علوم البحار)، لأنها تكونت نتيجة رواسب الفيضان، والتي لم تعد موجودة بعد بناء السد العالي؛ لذا فطاقتها لا تتحمل ارتفاعاً أكثر لمنسوب البحر.

لا يعرف "جمعة"، وهو واحد من 6 ملايين شخص هناك، شيئًا عن كل ذلك أو حتى سمع عن "تغير المناخ" بمفهومه المزعج، رغم أنه يشعر بكل تغيراته بل ويرى أثرها على محاصيله: القمح، الأرز، والذرة، فكما يقول: "يمكن أن ترتفع الحرارة فجأة في الشتاء أو تأتي أيام حارة صباحًا وباردة ليلاً، وهو شيء لم نعتده في الماضي".

تَحقق ذلك ربما بصورة ملفتة في شتاء 2010، يوم أظهر المناخ بداية تغيره لـ"جمعة" واختلط الصيف بالشتاء. فارتفعت درجات الحرارة بشكل مفاجئ، ليسجل الصعيد أكبر انخفاض في محصول القمح، ومن بعده الدلتا بنسبة -8.2%. وصنفت وزارة البيئة هذا الحدث "أنه من الظواهر الجوية المتطرفة".

ولم يعد ذلك الشتاء الغريب الوحيد؛ إذ بات صقيع هذا الفصل ينقضي أسرع من المعتاد، حتى إنه في عامي 2018 و2021، لم تستوفِ أشجار الزيتون احتياجاتها من البرودة، فانخفض إنتاجه ما بين 60% - 80%، بحسب شاكر أبو المعاطي (رئيس قسم الأرصاد الجوية بمركز البحوث الزراعية).

والزيتون، وفقاً لخبراء الزراعة، يحتاج أن تنخفض الحرارة إلى 10 درجات لعدد معين من الساعات طوال الشتاء حتى تتهيأ الشجرة للدخول في موسم النمو التالي. الأمر نفسه حدث للمانجو العام الماضي، وانخفض إنتاجها بنسب قاربت الـ30% بفعل الحرارة الشديدة غير المعتادة في مارس، والتي أدت إلى تدمير أزهارها.

بخلاف نقص الإنتاجية، فهناك مشكلة أخرى تتعلق بجودة المنتج، وفقًا لمحمد فهيم (رئيس مركز معلومات تغير المناخ بوزارة الزراعة)، إذ يذكر على سبيل المثال فاكهة الصيف التي قال البعض إن طعمها متغير أو مُسممة، وبتحليلها لم يتبين ذلك، وكل ما في الأمر هو حلول موجات حارة بقوة لتضر بها وقت زراعتها.

وبالتالي، صارت الزراعة، التي مثلت قوام الاقتصاد المصري لقرون، في مرمى بصر تأثير تغير المناخ الذي يزداد قسوة وجبروتاً.

معظم الفلاحين، ومنهم "جمعة"، كانوا يرون الشتاء الماضي الأفضل في برودته نسبيًا. توسموا فيه خيرًا ليعوضهم عن خسائر سابقة. لكنه باغتهم بأخبار سيئة من ناحية أخرى.

فذات يوم بارد، أسرع "جمعة" ليفحص سنابل القمح، ليجده مصابًا بما يسمى "الصدأ الأصفر" الظاهر بوضوح على سطح الورق، تبدلت معالم وجهه في لحظة، وفي النهاية، خَرج من ذلك الموسم بـ5 أرادب بعد أن كان عددها يصل في مواسم فائتة إلى 13 أردب.

باعها "جمعة" للحكومة بأسعار التوريد المحددة، والتي تراوحت بين 865-885 جنيهاً للأردب الواحد، بزيادة 8% عن العام السابق. لقد أولتهم الحكومة اهتمامًا مضاعفًا هذه المره لتعويض النقص الحاصل في الاستيراد جراء الحرب الروسية الأوكرانية. تلك الحرب التي ألقت بظلالها السيئة على مصر، المستورد الأكبر للقمح، والتي تستهلك نحو 18 مليون طن سنويًا، وتنتظر من البحيرة أن تسد منها حوالي مليون طن.

وإن كانت سببت تلك الحرب ارتباكًا لدول بأكملها، فقد هبت كالعاصفة لأشخاص مثل "جمعة"، لتزيد همومه إلى جانب ما يفعله المناخ به. فانخفضت قيمة الجنيه أمام الدولار وارتفعت أسعار كل السلع تقريبًا، ومعها السماد الذي يشتريه لأرضه، فوصل سعر "الشكارتين" المدعمتين، اللتين يحصل عليهما من الجمعية الزراعية، ما بين 245–260 جنيها للواحدة – حسبما يروي.

وكالمعتاد لم تكفه تلك الكمية، فيشترى باقي احتياجاته من السوق السوداء، والتي بلغ سعر الواحدة بها 450 جنيها، أغلبها ذات أنواع رديئة وتضر بالمحصول. لكن لا حل آخر أمامه، ولا وجود لإرشاد زراعي يحذره منها، مثلما لم ينبهه للمناخ وكيف سيتعامل معه؟.

وعلى هذا الحال غير المستقر، وبموارد قليلة؛ بدأ الرجل موسم الصيف، الذي ارتفعت فيه الحرارة والرطوبة إلى حد يفوق الاحتمال، وهو أمر غير مستحب أيضًا لكل المحاصيل. فيتطلب ذلك منه مزيداً من المياه القادمة من الترع، والتي يصل عددها حولهم إلى 819 ترعة بطول 4 كم مربع، تمتلئ جوانبها بالقاذورات.

يشكو "جمعة" برفقة أخيه "عبد النبي"، الذي يمثل الفلاحين هناك، من نقص الماء اللازم لري محصول الأرز، والحقيقة أن المشكلة أكبر من حديثهما المتبادل. فباتت مصر تعاني مشكلة شح المياه، التي تخنق مصادرها عوامل عدة كزيادة السكان لأكثر من 103 ملايين نسمة، التلوث، وبالطبع تأثير تغير المناخ وارتفاع الحرارة.

في المساحة المحيطة لبيت "جمعة" وأخيه، يَجري مشروع حياة كريمة (المبادرة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي بهدف التطوير). ثمة محطة صرف صحي منفذة حديثًا، وعمليات حفر وبناء لا تهدأ. ينظر محمد فهيم (رئيس مركز معلومات تغير المناخ بوزارة الزراعة) لهذا المشروع بنظرة متفائلة على إنه سيهتم بالمراكز الزراعية، لأن الإرشاد الزراعي – في رأيه – "دوره محدود جدًا أو يكاد لا يظهر".

يحاول "فهيم" أن يعوض ذلك الغياب قدر إمكانه، فيرسل معلومات ونشرات للمزارعين بأكثر من وسيلة كالرسائل أو من خلال منشورات صفحته على "فيسبوك" ليوعيهم بما عليهم فعله للتعامل مع المناخ وتغيراته المتلاحقة.

واحدة من رسائله الأخيرة كانت موجهة بالأخص لـ"جمعة" ومزارعي الدلتا، المتوقع أن تهطل عليهم الأمطار بغزارة، وعليهم في هذه الحالة وقف الري، وتصفية المياه من الأراضي حتى لا تتشبع التربة بشكل زائد، وإضافة بعض المركبات، وتغطية مناشر الأرز.

تلك الطرق والمُركبات يعرفها كل المزارعين، لكنهم لا يعرفون توقيتاتها، حسبما يرى "فهيم"، فكل ما له علاقة بتغيرات المناخ بمثابة أمور حديثة عليهم وربما غامضة، لا تنفع معها خبراتهم المتوارثة.

لكن "جمعة"، الذي لم يتلق تعليمًا سوى في "الكُتاب"، لم تصل إليه كل تلك المعلومات، فهو حتى لا يملك هاتفًا ذكيًا.

كلما مر الوقت، زادت المشاكل المحيطة بالمناخ، وتضافرت عوامل تزيد من معاناة الفلاحين. فعلى إثر ما فعله المناخ بالأرز، يفكر "جمعة" هذه الأيام في احتمالية الغرامة التي ستوقعها عليه الجهات الحكومية لعدم توريده تلك الكمية الضئيلة من محصوله، الغرامة التي يمكن أن تصل إلى عشرة آلاف جنيه.

يتساءل: "ماذا أفعل عندما يتأخروا في استلامه مني قرابة شهر ونصف الشهر؟".

تنتج محافظة "جمعة" وحدها 650 ألف طن أرز سنويًا، ويحصل التاجر على الطن منه بـ8500 جنيه، في مقابل 6800 يدفعها الموردون الممثلون لوزارة الزراعة – وفقًا لـ"جمعه" وأخيه "عبد النبي" – لكن الكمية التي خرج بها الرجل لم تسمح له ببيعها لتجار هذه المرة، إنما وضعها في بيته ليأكلوا منه.

وفي خضم كل هذه المشاكل، لايزال يتمسك "جمعة" بأرضه وحرفته، التي ورثها عن والده مثل أغلب القرويين. في حين سافر ابنه، الحاصل على دبلوم زراعة، إلى الإسكندرية، ليصبح عاملا باليومية، تاركًا ثلاثة أبناء وزوجة يعيشون مع والديه.

لم ير الابن دخلاً مجديًا أو فرصًا مغرية في حرفة والده. وربما تؤيد نظرته للأمر عدة تقارير ودراسات، حيث إنها لم تتنبأ بمستقبل جيد للزراعة في ظل التغير المناخي، وبالأخص محاصيل "جمعة". فمن المتوقع أن تتوغل المياه عالية الملوحة في مساحات شاسعة من الدلتا، ما سيزيد من احتمالية عدم قدرة الأراضي القائمة على الإنتاج في السنوات المقبلة.

وإن لم يدرك "جمعة" كل المخاطر المتوقعة، فقد أصبح متوقعًا لديه وغيره من المزارعين أن خير الأرض يقل والقادم لن يكون أفضل. فيتمنى وجود معاش تأميني يسنده، الأمر الذي تحدث مجلس الوزراء عن إمكانية تطبيقه، العام الماضي، وينادي به دومًا حسين أبو صدام (نقيب الفلاحين)، فيقول "إنه بات من الضروري عمل صندوق تكافل لمساعدة هؤلاء وقت حدوث أزمات خارجة عن إرادتهم بسبب المناخ".

إلى جانب ذلك، ثمة حلول عدة تجري مناقشتها لتغيير سيناريو النهاية البائسة، والصمود في وجه المناخ قليلا، بعضها قد بدأ مبكرًا كمشروع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) الذي يعتمد قوامه على ما يسمى "الممارسات الذكية مناخيًّا".

ربما لا يعكس الواقع فهمًا من الفلاحين لتلك الحلول حتى الآن. وما زالت تدور المعركة الافتراضية بين الفلاح والمناخ، ويقف فيها الأول وحده دون مرشد أو داعم.

لذا يراهن محمد فهيم (رئيس مركز معلومات تغير المناخ بوزارة الزراعة) على توفير مزيد من الحقول الإرشادية لإقناع الفلاحين بالممارسات الجديدة، وهي نقطة في دائرة تتصل بأخرى، حيث إنه أمر مكلف على الدولة؛ لذا هي بحاجة إلى تمويل الدول الغنية المسببة لمشكلة تغير المناخ من خلال انبعاثاتها العالية، والتي لم تشارك فيها مصر إلا بنسبة ضئيلة لا تتعدى 0.71%.

هذا هو المحور الأهم في مناقشات مؤتمر قمة المناخ في شرم الشيخ COP27، والذي لم يصل إلى مسامع "جمعة دميس" مثل الحلول السابقة أيضًا، التي تبدو معقدة بالنسبة له.

فيقول: "أكثر من أربعين سنة في الزراعة، وورثت كل خبراتها عن والدي، كيف سأغير ما اعتدنا فعله الآن؟".


الحكاية التالية