"إذا غرقت سنغرق جميعًا"
"إذا غرقت سنغرق جميعًا"
أمطار قليلة تسقط على الإسكندرية بينما الجو حار على غير المتوقع. كان هذا الطقس مناسبًا لـ"إبراهيم" ليخرج بمركبه في بحر منطقة المكس ويصطاد، لكنه في الوقت نفسه ذكره بالتدابير التي عليه أن يأخذها الأيام المقبلة، فالشتاء قادم.
إسكندرية شتاءً، ساحرة، هادئة، ومثيرة، هكذا بَدت دائمًا، ولكن صورتها الشتوية الآن ليست رومانسية لهذه الدرجة.
صار بحرها هائجًا ومناخها أكثر غرابة من أي وقت سابق، بل يكون من الشدة بحيث يوقف الحياة إلى حد كبير ويعطل الدراسة والأعمال، وبالأخص عَمل إبراهيم محمد، الذي يملك مركبًا للصيد والنزهة، وقد بات المناخ صيفًا وشتاءً هو عدوه الأشرس.
مساء كل ليلة، يُمسك "إبراهيم" هاتفه ويتابع بدقة حالة الطقس والبحر واتجاهات الرياح، ليقرر ما إذا كان سيخرج بمركبه في اليوم التالي أم لا. وعادة ما يأتي قراره بالإلغاء، لأن المناخ ببساطة ليس في صالحه.
قَضى "إبراهيم" عشرة أعوام من عمره - البالغ 42 - في حرفة الصيد. اعتمد في بدايتها على النشرة الجوية لمعرفة أحوال الطقس الذي سيلقاه في الصباح، أو على خبرته، فيقول: "كنا نرى السحب وشكل السماء، ونتوقع كيف سيكون الجو اليوم؟". لكن المناخ لم يعد سهل الفهم والتوقع بالنسبة له كما كان، خاصة في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
ينتظر الرجل حتى يأتي يوم مناسب ومستقر. يغَادر بيته في منطقة الدخيلة عند السابعة صباحًا، حاملًا معطفًا تحسبًا لانقلاب الجو. يمَشي باتجاه مرسى المراكب في المكس (غرب الإسكندرية)، حيث البيوت الخشبية القديمة وسوق الصيادين، ومشروع ميناء المكس الجديد الذي يتكلف مليارات الجنيهات.
هنا رائحة السمك تفوح من كل جانب، زحام، وعوادم صادرة عن مراكب الصيد الكبيرة، التي يجلس بها صيادون يرتبون شباكهم أو "الغزول" – كما يطلقون عليها.. يأخذ "إبراهيم" من وسطهم مركبه وأدوات الصيد وينطلق بها إلى الداخل، إلى نقاط أبعد كثيرًا.
يمَضى "إبراهيم" بمفرده في هذا اليوم؛ إذ لم يجد زبائن ستذهب معه للنزهة، وهو شيء بديهي له في توقيت المدارس؛ إذ لم نضف عليه ارتفاع الأسعار الذي صار يتحكم في كل قراراتنا، فالشخص الواحد يَدفع لإبراهيم 130 جنيهًا على الأقل.
نحو 20 كيلو مترًا ابتعدها "إبراهيم" عن مرساهم باتجاه سيدي كرير، لكي يجد أسماكًا. مَرر في طريقه معلقة تشبه السردين ليجذبهم بها، ثم ألقى صنارته، لعلها تخرج له شيئًا.
في سابق الأيام، لم يكن قلقًا إلى هذا الحد؛ إذ كان يصطاد من محيطه القريب ما بين الـ10 والـ15 كيلو جرام من الأسماك. وكما يتذكر، كان سمكًا ذا ملمس خشن وكبير الحجم، خاصة في الشتاء.
لكن الحال تَبدل معه تمامًا. قلَّ السمك وساء نوعه، ولم يتجاوز متوسط ما يحصل في اليوم ثلاثة كيلوجرامات، يبيعها لزبون أو تاجر ما بين 60 – 70 جنيهاً للكيلو في المتوسط، ويأخذ جزءًا لأبنائه الخمسة.
تلك النتيجة غير المرضية لـ"إبراهيم" ربما متوقعة. فقد تغير المناخ على مدار سنوات طويلة ليشعر هذا الرجل بنتاجه الآن، ذلك وفقا لطارق الجزيري (أستاذ علوم البحار)، الذي يوضح أن أنواعاً كثيرة من الأسماك هجرت من أماكنها المعروفة لتغير درجة الحرارة، وتسببت ثلاثية المناخ والملوثات والصيد الجائر في قلة عددها.
ظن "إبراهيم" أنه يعرف البحر جيدًا، منذ بدأت علاقتهما حين كان طفلاً يهرب من المدرسة مع شقيقه للصيد، قبل أن يشتريا مركبين ويتحول الأمر معهما إلى حرفة.
لكنه تَغير ولم يعد كما كان يعهده، حيث علت نواته وأمواجه، وزاد منسوبه شيئاً فشيئاً، ومن المتوقع أن يزيد أكثر نتيجة ارتفاع درجة حرارة الأرض وذوبان الجليد القطبي. كل ذلك خلق الصورة المغايرة للإسكندرية على أنها "المدينة المهددة بالغرق جراء تغير المناخ".
أثناء إبحار "إبراهيم"، ظل يسجل نقاطًا على خريطة إلكترونية ويميزها بألوان. يَعرف المغزى من وراء كل لون، فهذا يدل على أنها منطقة رياح شرقية، وأخرى غربية، وثالث يظهر له أن هذه منطقة مرتفعة وقد تكون خطرة.
في كل مرة تقريبًا، تتغير نقاطه وخطته، تحديدًا في الصيف؛ حيث تزداد اتجاهات الرياح المعاكسة لمسيره. لم يكن ذلك فعله الوحيد ليحمي نفسه من مناخ الصيف الذي يزداد حرارة. فأقام المظلات فوق مركبه، وأصبح يتشارك في استخدام الثلج مع السمك، ليضعه فوق رأسه ووجهه حتى لا يمرض.
ورغم أن مكسب "إبراهيم "أكثر وفرة في الصيف، لكنه في المقابل ينفق على شراء "الجاز" أكثر كلما زادت تحركاته أو "السرحات" – كما يطلقون عليها. فيكلفه "الجركنين" منه 450 جنيها بعد أن زاد سعره مؤخرًا، كما أنه بحاجة إلى تغيير زيت كل عشر "سرحات"، وهذا وحده يتكلف نحو 500 جنيه أخرى.
انتهى الصيف وسرعان ما يلحقه الخريف ليفسح الطريق أمام شتاء يشغل تفكيره الآن، فهو يخيم عليه كغمامة من عدم الاستقرار.
لا رحلات نزهة ولا خروج للصيد سوى مرات قليلة، حتى المراكب لم تقو على مواجهة مناخ الشتاء، فيسرع الصيادون بها للاختباء في "خندق المكس" الضيق، الخندق الذي اشتهر بمرور المراكب فيه وسط البيوت القديمة في مشهد مصري مشابه لآخر إيطالي في فينيسيا، قبل أن تخليها المحافظة عام 2018، لأنها "مناطق خطرة"، فتغير مظهره وأصبح مخبأ للمراكب من المناخ العنيف.
يقول "إبراهيم": "إن لم نفعل ذلك بأقصى سرعة تتكسر أمامنا واحدة تلو الأخرى من شدة البحر".
ودون أن يدري، أصبح في صراع مع الشتاء ومناخه. يأخذ لأجله بعض الإجراءات الاستباقية كتقليل نفقاته، تأجيل تغيير زيت المركب، عدم تخزين "جاز" وتقليل المسافات ليحافظ على المتبقي منه، ومحاولة تسديد أي دين عليه، لأنه يعلم أن في الشتاء ستزداد الأمور سوءًا.
ومثلما يفعل "إبراهيم"، تسعى الحكومة لأخذ إجراءاتها الاستباقية أيضًا للتكيف مع تغير المناخ، تحديدًا في المناطق الساحلية المعرضة للخطر.
من فترة لأخرى، يقوم معهد علوم البحار بتنظيم فعاليات لتوعية الصيادين بضرورة استخدام نوع جيد من الوقود وتقليل انبعاثات المحركات بصيانتها وعدم إلقاء الملوثات، وفقًا لطارق الجزيري (الأستاذ بالمعهد). لكن ذلك لم يصل إلى "إبراهيم"، الذي يعرف بعض الأشياء بحكم خبرته فقط.
ومع غروب الشمس، يعود إلى المرسى مجددًا، حاملًا ما استطاع اقتناصه من البحر.. يلقي السلام على الصيادين بالمراكب المجاورة، هؤلاء المتمسكون بالمهنة في وقت هجرها زملاؤهم نهائياً لقلة السمك. يجمع "إبراهيم" بين أسبابهم جميعًا للبقاء، فهو لا يحمل مؤهلا للعمل في مهنة أخرى، حيث اكتفى بالإعدادية، كما أن الصيد هو "إدمانه وغوايته" – حسبما يصفه.
لم يسمع "إبراهيم" عن تغير المناخ في العالم لكن سمع ما يخصه، وهو غرق الإسكندرية! دون أن يدرك الصورة وتفاصيلها المرعبة. فلا يعرف أن التقديرات تشير إلى أنه بحلول عام 2100 من المتوقع أن يرتفع منسوب البحر المجاور له بمقدار متر واحد؛ ما يمكن أن يسبب كارثة لمدينته.
طارق الجزيري، باعتباره أستاذًا في هذا الشأن، لايزال مطمئنا لأن الارتفاع لايزال معقولًا (3 ملم تقريبًا في السنة)، لكنه لا يستبعد وقوع الكارثة في المستقبل البعيد، ويعمل وزملاؤه على وضع سيناريوهات وحلول لها.
يبتسم "إبراهيم" ساخرًا من الأمر، ثم يقول: "طيب، إن غرقت سنغرق جميعًا".