عودة ممزوجة بالألم

لا يريد باسم الشافعي الرجوع لمستشفى صدر المحلة الكبرى، ليس بسبب الفيروس المستجد، بل رحيل أخيه الوحيد قبل شهرين. لا يستطيع صاحب الـ32 عامًا تخيل المستشفى بدونه، كانا يعملان داخل العزل في مواعيد مُختلفة، يتقابلان في المنزل أحيانًا فيسخران من الوضع، يُخبئ كل منهما خوفه على الآخر، ويشعر أبواهما بالفخر تجاه ما يفعلانه، اتفقا على السفر سويًا حينما تنتهي محنة كورونا، غير أن أحمد تُوفي فجأة، وتبدّدت الأحلام، بات الخوف من كورونا أمرًا هينًا مقابل ما يشعر به باسم الآن.

داخل مستشفى صدر المحلة، اعتاد باسم الشافعي تناسي خوفه، لا حيلة لإخصائي التمريض سوى إبقاء نبرة صوته متزنة، لا يشوبها حُزن، كانت هي وسيلته الوحيدة للتواصل مع مرضى فيروس "كورونا" داخل غُرفة العناية المركزة، يجعلها الشاب مُطمئنة قدر المستطاع، يبتلع قلقه من الإصابة، ضيقه على المرضى الذين رحلوا داخل تلك الغرفة، ووجعه كلما فكر في أخيه الذي عمل ممرضًا بالمستشفى نفسه.

عامان فقط هما فرق العُمر بين باسم وشقيقه الأصغر أحمد، كان باسم في مستشفى طلخا قبل تحويله لصدر المحلة ويصبح رفقة شقيقه العام الماضي، كان ذلك داعمًا لهما، ومع تحول صدر المحلة لعزل "بقت الناس بتشوف إننا أسرة شجاعة عشان والدي ووالدتي وافقوا على حاجة زي كدة".



كان باسم يخرج للمستشفى 3 أيام، فيما يخرج شقيقه 3 أيام أخرى، بات الأمر محط سخرية الشقيقين أحيانًا، يهونان به الفقد: "كنت لما بشوف أصحاب أحمد بقولهم سلمولي عليه والنبي لحد ما أشوفه"، مضت الأيام بين العزل والمنزل، بعضها خفيفًا، وأخرى قضاها باسم بالكاد.

قبل رحيل الشقيق، كان خوف باسم الأكبر عليه وعلى والديه، لم يفكر يومًا أن يحجز لنفسه نصيبًا من القلق "عشان أقدر أشتغل، وبعدين لو انا خايف أومال المرضى نفسهم يعملوا ايه". تفنن باسم في مساعدة الآخرين، بدّل خوفه بالانغماس في العمل. أوقن أن الرعاية الصحيحة للمرضى نصفها الاهتمام بحالتهم النفسية، قرر أن يجعل هاتفه مُتاحًا لمن يريده: "بقى اللي محتاج أشعة في مكان معين يكلمني أسأل له، واللي محتاج مكان في مستشفى نتواصل ونعرف الدنيا"، فيما لم تتوقف حربه خلال عمله الأساسي، أحيانًا يربح المعركة وفي أوقات أخرى ينهزم أمام الموت.


يتذكر باسم الرجل الخمسيني الذي دخل مريضًا بالقلب و"كورونا": "جه المستشفى دخل العناية علطول"، بعد بضعة أيام استعاد المصاب عافيته قليلاً، ظن المحيطون أنه انفلت من الموت لأجل مسمى: "لكن فجأة وأهله حواليه جاله أزمة قلبية".

فعل الشاب ما بوسعه، قدم الإسعافات اللازمة إلا أن روح الرجل أسلمت لخالقها: "دي أكتر حالة فاكر إنها وجعتني أوي؛ لأن ولاده مكانوش مستوعبين"، حتى إن ابنته احتضنت جسده لفترة قبل أن يستطيع الممرضون إبعادها عنه: "كان موقفًا مهيبًا"؛ كل التفاصيل التي عايشها باسم تبقى داخله للأبد، يستعيدها بإلحاح بعد رحيل أخيه "كنت قلقان عليه وهو قلقان عليا محدش فينا كان خايف على نفسه، في الآخر سبحان الله أحمد توفى في سريره، جينا نصحيه مصحيش".


تفكّر باسم كثيرًا في طريقة موت الشقيق "مكنتش معترض، بس قلت لنفسي لو كان جاله كورونا كنت يمكن قدرت أساعده، لكنها أقدار ربنا"، يحمل قلبه آلاف الحكايات عن أخيه، تتنازع الذكريات داخله وتمر به التفاصيل، فلا يصرفها قليلًا إلا انغماسه بالعمل.

قبل وفاة أحمد لم يتحدث الشقيقان أبدًا عن أيامهما في العزل، تبادلا الأخبار الشخصية فقط. بعد الوفاة حصل باسم على إجازة ممتدة "كنت عايز أفضل جنب أمي وأبويا في الظروف دي"، لكن ازدياد الحالات في الفترة الأخيرة عزز قرار عودته، لم يُعارض الأبوان رجوعه، لكنه شاهد الرعب في أعينهما "مش عايزين يفقدوني أنا كمان خاصة إن الموجة التانية مخيفة"، إلا أن باسم يعرف يقينًا أن شقيقه كان سيريد عودته "وغصب عني هشوفه في كل مريض بتعامل معاه، لكن هخدم الناس زي ما هو كان خدوم طول الوقت".