لا تنسى دعاء حسين صوت الضجة الشديد خارج غرفة العزل بمستشفى صدر الإسماعيلية، هرعت الطبيبة لترى ما يحدث، فوجئت برجلين يحاولان الاعتداء على زميل لها: "كانوا عايزين ياخدوا والدتهم من العزل ويودوها مستشفى تانية"، حاولت الطبيبة إقناعهما بالعدول عن الأمر "لكن زعيقهم خوّفني ومحدش قدر عليهم"، نفّذ الابنان مرادهما، نقلوها لمستشفى آخر، قبل أن تُتوفى خلال أيام.
منذ دبت أزمة "كورونا"، تعاني طبيبة الجلدية من الكثير، تحاصرها المخاوف، على حياتها وحياة ابنتها وأسرتها. لا يتعلق الأمر فقط بالمرض بل بسلوك بعض المرضى: "إحنا مقدرين ظروفهم بس بنبقى عايزين الناس تتعاون معانا، مينفعش نكون خايفين على حياتنا وحياتهم وخايفين منهم"، تكرر حادث السيدة عدة مرات أخرى في المستشفى، وإن لم يترك المرضى المكان.
لم تكن دعاء تتخيل انضمامها لمستشفى عزل، تخصص الجلدية غير مطلوب هُناك: "لكن لما حصل ضغط في آخر مارس اللي فات تم تكليفي وزمايلي بِده"، ضربت المفاجأة دعاء في البداية: "أنا تخصصي لطيف أصلا ومفهوش مشاكل"، لذا كان انتقال الأم الثلاثينية لمستشفى عزل خيارًا شديد الصعوبة: "أنا مخوفتش على نفسي أد ما خوفت على بنتي"، تبلغ الطفلة 3 أعوام فقط: "لسه مش فاهمة الدنيا، كنت كل ما أروح البيت تجري عليا أهرب منها لحد ما أخد كل احتياطاتي.. إحساس تقيل جدًا".
حين استلمت دعاء عملها بداية الجائحة، كانت الحالات قليلة "ده سمح لي أفهم الدنيا بتمشي إزاي"، كان مكان عملها في الاستقبال، إذ يُقسم الأطباء أنفسهم إلى فِرق ترصد، كل فريق مكون من شخصين: "عادة بيكون طبيب صدر وطبيب تخصص آخر أو طبيب وممرض"، دورهم معرفة التاريخ المرضي وأعراض الحالات ثم عزلهم وإجراء المسحات، رغم صعوبة المهمة: "بس الحالات كانت بسيطة على عكس اللي حصل في مايو ويونيو".
اعتادت دعاء الذهاب للمستشفى يومين في الأسبوع: "كل شيفت 12 ساعة"، لم تكد الطبيبة تلتقط أنفاسها خلال يوم العمل، كان يمر عليها اليوم أحيانًا دون تناول طعام، تحصل بالكاد على بضع دقائق أحيانًا؛ لتطمئن على والدتها وابنتها.
التعرض للإصابة ليس جديدًا على الطبيبة: "لأن في شغلي كجلدية أنا معرضة لده"، تتذكر حين التقطت عدوى بإكزيما الجلد من جهاز كيّ واستغرقها التعافي عدة أسابيع، لكن التعامل مع فيروس "كورونا" مختلف: "ممكن الواحد يموت وساعتها هيبقى محتاج إن أهله يكونوا عايشين كويس من بعده"، عندما تسترجع دعاء التفاصيل، تُدرك أن بدل عدوى الأطباء ما زال 19جنيهًا، وبالزيادة الجديدة، لم يصل مرتبها الشهري إلى 4000 جنيه: "يعني لو دكتور عنده بيت وولاد مش هيلاقوا ياكلوا بمعاشه".
منذ مارس 2020؛ لم تغادر الوساوس نفس دعاء، ما إن تدخل المنزل حتى تتأكد بضع مرات من تعقيم نفسها، تُهاجمها الكوابيس أحيانًا: "وأقعد أسأل نفسي يا ترى كانت الكمامة ملخلخة ولا حاجة؟ يا ترى حد لمسني من غير قصد؟ يا ترى هحس بأعراض إمتى؟"، تتمنى توقف الضوضاء بداخلها، كانت تلجأ لزملائها في مستشفى صدر الإسماعيلية، يتحدثون سويا: "بنصبر بعض"، لم يبتغِ أحدهم الانسحاب رغم أن دعاء دائمًا كان لديها الفرصة: "لأن عندي بنت صغيرة"، لكنها قالت لنفسها: "يمكن أقدر أخدم حد في مكاني وكلنا كنا عارفين إن لو حد انسحب في الموجة الأولى هيأثر على عزيمة الباقيين".
في أكتوبر الماضي، عادت الطبيبة لعملها في الجلدية داخل مستشفى آخر بمدينة القنطرة، أول ما فعلته قضاء أكبر وقت رفقة ابنتها ووالدتها "بعوّض كل اللي فاتني"، تبتسم إذ تستعيد كيف نجت من الموجة الأولى "بستر ربنا"، ما زال الخوف يراودها حتى بعد ترك المستشفى "مش قادرة أتخلص من الوساوس"، خاصة وأنها تسمع عن زملاء لها اُصيبوا رغم عملهم خارج مستشفيات العزل، أما توجسها الأكبر ففي الانتظار "دلوقتي مع زيادة الحالات فانا متوقعة يجيلي تكليف في أي وقت عشان أرجع صدر الإسماعيلية"، فيما لن تتردد عن أداء واجبها كما فعلت المرة الأولى.