كان عمل الممرض حسيني حامد في مستشفى صدر العباسية يُدر دخلًا أفضل مما كان يحصل عليه في الصعيد، فضّل صاحب الـ33 عاما مواجهة مخاطر كورونا خلال الموجة الأولى كي يُحسن معيشة أسرته، لكنه وقبل شهرين ترك ذلك وراءه، ما عادت القاهرة تُغريه بعدما اُصيب بالفيروس المستجد.
فبراير 2020، تم انتداب صاحب الـ33 عامًا من مدينة طهطا بمحافظة سوهاج للعمل في مستشفى صدر العباسية، لم يتأخر حسيني عن الاستجابة لنداء الواجب، قلة الحالات لم تمنع مواجهة الممرض لعدة أزمات: "أهمها إن المستلزمات الوقائية قليلة من الأول.. ما بالنا دلوقتي؟"، كانت الوزارة توفر في تلك الفترة جميع المستلزمات بكمية جيدة، إضافة لتبرعات البعض: "بحاجات زي الأفرولات الطبية أو الماسكات البلاستيكية للوجه"، لكن سرعان ما اختفت التبرعات مع الوقت بسبب الضغط واحتياج عدد كبير من المستشفيات.
مع ارتفاع وتيرة الحالات، زاد خوف حسيني، ليس على نفسه فقط: "على أهلي كمان هما من سوهاج وكنت بنزل إجازات كل فترة"، قبل أن ينقطع عن الذهاب في أبريل 2020: "بس كوني كنت قاعد هنا وهما هناك ومش عارف أشوفهم دا تاعبني".
منذ تخرجه عام 2005، يعمل حسيني ممرضًا في العناية المركزة: "بنتعرض لمخاطر كتير من زمان"، لم ير الشاب الصعيدي اختلافًا كبيرًا مع "كورونا"، تأقلم سريعًا مع ازدياد الحالات، كان يعمل 12 ساعة متواصلة أو أكثر، يتصل بزوجته بأوقات معينة في اليوم: "عشان أطمنها إني بخير ومفياش حاجة"، كان ذلك الاتصال يزرع فيه الطمأنينة أيضًا، تفنن ألا ينقل لها خوفه، لكن الحال تغير بعدما أُصيب.
قبل عيد الفطر الماضي ببضعة أيام، اشتاق الممرض لأطفاله وأهله، اتفق مع زميل يحل محله؛ ليحصل على إجازة بضعة أيام، كان عليه الخضوع للمسحة قبل مغادرة المستشفى: "عملت مسحتين وطلعوا إيجابي"، أُسقط في يده، فليس لديه أعراض: "وقتها خُفت فعلاً.. بس مش عليا، على عيلتي لو عرفوا حاجة زي كده، كنت مرعوب إزاي والدتي هتستقبل الخبر؟".
انزوى حسيني يومين قبل اتخاذ قراره، اتصل بأحد أشقائه؛ ليخبره، وقع الأمر عليه كالصاعقة، اتفقا ألا يُخبرا والدته أو زوجته وأطفاله، استسلم لما حدث، لملم ملابسه، ترك مكانه في العناية المركزة مُرغمًا وانضم لصفوف المرضى.
الوقت ثقيل، جافى النوم عينيه: "أنا مكنتش بقعد خالص.. بتعب طول اليوم وبنام زي القتيل"، أزعجه التفكير وضايقه الابتعاد عن العمل: "لولا إنه مينفعش أختلط بزمايلي وبباقي المرضى كنت اشتغلت"، لكن أكثر ما كان يخيفه هو ما رآه عند بعض المرضى الذين تعامل معهم "كورونا بيأثر سلبًا على الحالة النفسية للشخص.. ولو استسلم ممكن يحاول الانتحار ودا أنا شفته أكتر من مرة"، حاول مرارًا وزملاؤه التخفيف عن المرضى، يتحدث إليهم أحيانًا، يضحك معهم، ولا ينفك يخبرهم أن كل شيء سيكون على ما يرام.
قضى حسيني وقت العزل بين القراءة وتصفح الإنترنت، تمالك نفسه بالكاد حين كان يسمع صوت ابنته ذي السبع سنوات: "كانت بتقولي بابا لو شُفت كورونا دي اجري وتعالى"، ودّ لو يحتضنها، لكنه حبس الدموع وقال بثبات: "متخافيش أنا كويس"، تعمد وقتها ألا يتصل بزوجته سوى مرة يوميًا كي لا تشك في شيء، يُغير مجرى الحديث إذا ما سألته عن يوم العمل، يكتفي بكلمات قليلة.
خطة الأب لم تسر على ما يرام: "مراتي عرفت بالصدفة من فيسبوك قبل خروجي من العزل بأربعة أيام"، انقلبت الأيام رأسًا على عقب: "بقية العيلة عرفوا وطبعًا الناس كلها اتخضت"، مر حسيني بانتكاسة شديدة لم يقطعها سوى سلبية العينة التي جاءته عقب ذلك؛ ليقرر بعدها السفر لمنزله في إجازة سريعة: "حتى لما روحت كنت خايف عليهم.. وصيتهم محدش ييجي يسلم عليا"، لكن تحذيرات الشاب لم تُنفذ، جاء الأقارب للاطمئنان عليه، أما أولاده فلم يلمسهم حسيني يومًا كاملاً: "روحت استحميت وغيرت الهدوم ومكنتش قادر أقرب من الاتنين الصغيرين، لدرجة فضلوا يعيطوا لحد ما ناموا"، فيما أصرت ابنته الكبرى على انتظاره حتى وقت متأخر: "عشان بس تسلم عليا وتاخدني بالحضن".
لا تنفك الكوابيس تهاجمه، لكن الموجة الأولى بددت كثيرًا من خوفه: "كنت بقول لنفسي أسوأ شيء هيحصل إيه؟ هموت؟، طيب على الأقل هكون بعمل حاجة كويسة"، يتذكر مثلًا اعتاد تداوله مع زملائه: "إحنا نقول إن النايم في أمانة الصاحي.. أكيد ربنا خلاني ممرض عشان فيه حاجة هقدر أعملها".
لم يفكر حُسيني بالتخلي يومًا عن العباسية، ولكن حين خفّت أعداد الحالات عاد لعمله بمستشفى طهطا بسوهاج "ودا كان مؤقت، كنت مفروض أرجع تاني عزل العباسية"، لكن حدث ما لا يسرّ الممرض؛ إذ لم يحصل حتى الآن على كل مستحقاته المالية "ودا أثّر عليا ماديًا"، ورغم أن الخدمة في الصعيد مقابلها المادي أضعف كثيرا من القاهرة "بس على الأقل أكون جنب ولادي في الموجة التانية واتجنب فزعهم عليا"، لم تتعافَ بسملة-8 سنوات- مما حدث في المرة الأولى، تُصر ألا تنام يوميًا إلا بعدما يعود والدها، يتذكر حُسيني كيف دخلت في نوبة فزع بإحدى المرات "عشان نزلت الفجر وصحيت ملقتنيش، افتكرت إني رجعت القاهرة تاني عند كورونا ومطمنتش إلا لما شافتني".