كانت مهمة الدكتور أحمد الخطيب واضحة، حين أستُدعى لمنصب نائب مدير مستشفى عزل ملوي في المنيا، لم يكن ضمن الفريق الطبي الذي يقدم الخدمة العلاجية لمصابي فيروس "كورونا"، لكنه مسؤول عن تخطيط المستشفى الجديد الذي على عتبة أن يصبح مُخصصًا لذلك الفيروس المجهول.
في مارس جاء التكليف إلى الطبيب في مستشفى صدر ملوي؛ تحويل مستشفى عام إلى عزل والإشراف على التجهيزات، تولى الخطيب رسم خطوط سير المكان برفقة مدير المستشفى: "زي عربية الإسعاف هتدخل منين، العيان هنستقبله فين؟".
أعطى الطبيب أهمية أولى لخريطة تحركات الفريق الطبي داخل المستشفى، أكثر ما كان يشغله هو الخوف عليهم من التقاط العدوى بأي شكل، لذا ركز على تحديد الأماكن الآمنة والخطرة، صار لزامًا عليهم تحديد خطوط سير الفريق الطبي، أي طريق يسلكه للوصول إلى غرف المصابين، وكيفية توفير المستلزمات والأهم: "إيه المكان اللي يقدر يخلع فيه لبسه، وإيه الأماكن اللي مستحيل يعمل فيها كده، وياخد حذره أكثر من اللازم؟".
في الطابق الرابع استقر مكان سكن الخطيب في المستشفى بإحداثياتها الجديدة: "كان من الأماكن اللي نقدر نقعد فيها بأقنعة خفيفة واللبس العادي"، وما إن يستلزم النزول للإشراف على باقي طوابق المكان يرتدي ملابس العزل بأكملها: "رغم إن وظيفتي إدارية بس كنت حابب أبقى جنب الفريق الطبي طول الوقت عشان يطمنوا".
في الرابع من مارس 2020 استقبل المستشفى أولى حالات "كورونا": "كان خمسة مصابين من بني سويف"، ظلت الأوضاع مستقرة قليلًا، إلى أن انتشرت أخبار إصابات الأطباء والممرضين في مستشفيات عزل أخرى، تزلزل الاستقرار النفسي للطاقم الطبي بالمكان: "حصل توتر كبير وبدأوا يقلقوا، قعدنا معاهم وطمناهم وكثفنا كل احتياطاتنا".
لمدة شهرين استمر الخطيب في منصبه الإداري، لكن بعدها عاد مُجددًا إلى عمله الأساسي، طبيب صدر في مستشفى صدر ملوي، كان عليه قبل الشروع في مهمته القديمة التزام العزل المنزلي 14 يومًا للتأكد من عدم التقاطه عدوى "كوفيد-19"، قضى المدة ثم عاد للعمل مُجددًا.
في مستشفى الصدر كان الوضع مختلفًا؛ ملابس وقائية أخف في طبقاتها عن بدلة العزل، عاد للبالطو الأبيض مجددًا فيما صار الطبيب الشاب يتعامل مع المجهول، أدرك أنه في مستشفى العزل كان وضعه أكثر أمانًا: "لأني عارف إنه شخص مُصاب بـ"كورونا"، وواخد احتياطاتي وعارف هتعامل معاه إزاي؟، إنما هنا أنا بيدخل عليا العيان ومعرفش هو عنده إيه؟".
اكتشف الخطيب الفارق، فزادت مخاوفه تجاه الأمر: "لما كنت في مستشفى العزل مكنتش ببقى قلقان بالشكل ده"، داخل مستشفى الصدر يقضي 12 ساعة في التعامل مع المشتبه في إصابتهم بالفيروس التاجي، الجبهة الأولى لمواجهة الوباء وفرز المصابين: "وده كان بيزود المخاطر، خصوصًا إن الأعداد كانت كبيرة ومش متوقع عددها"، في مستشفى العزل كان يعلم عدد المصابين القادمين: "لكن الأرقام هنا مش مستقرة، ممكن أكشف على 50 عيان وأكتر في اليوم الواحد".
من خوف إلى خوف صارت حياة الخطيب؛ حينما عاد لمستشفى الصدر تلبسه القلق على أسرته التي يعيش معها: "والدي ووالدتي كبار في السن، وخصوصًا أبويا عنده حساسية صدر وسكر، بقيت مرعوب عليهم". صار مُقدّرًا أنه قد يُصاب بعدوى "كوفيد-19" في مستشفى الصدر لذا قرر أن يعزل نفسه عن أسرته: "قعدت في دور لوحدي تمامًا، وقطعت التعامل معاهم"، كذلك فعل الأمر مع زوجته وابنه: "قاعد لوحدي لأني عارف إن لو جالي حاجة هما أول ناس هيتئِذوا".
يوميًا يتعامل الطبيب الشاب مع المخاوف، يقرؤها في عيون المرضى المترددين على مستشفى الصدر، حالة من التوتر تسري في الأرجاء في انتظار أن ينطق الخطيب بكلمة تُبرّد قلب المريض: "كله خايف من إني أقوله أنت مُصاب بـ"كورونا""، فيما لا تغيب الحالة نفسها عنه: "طول الوقت خايف أتصاب فأضر عيلتي بأي شكل".
المشاعر لم تتبدل؛ من الموجة الأولى إلى الثانية بل تضاعفت لدى الخطيب بعد هُدنة اعتقد أنها ستدوم "إحنا كدكاترة لما بفتكر اللي حصل في الموجة الأولى بترعب.. فكرة إننا نعيش نفس التجربة مع ضعف الإمكانات مُقلِقة"، لكنه لا يملك سوى الترقب مثل باقي الفريق الطبي.