بمجرد عودته من صلاة الفجر إلى شقته ببيت مدكور؛ سمع محمد هاشم صراخ أسرته وجيرانه بعدما شعروا بالحريق.. هرولوا إلى الخارج وسرعان ما أصبح الأمر مخيفًا بعدما اشتبكت ألسنة النار في المشربيات والنوافذ الخشبية واحدة تلو الأخرى.
جرى ذلك في إبريل عام 2011 بعد تسجيل البيت في قائمة التراث بعام واحد.
تلك القائمة تابعة للجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وبدأ إعدادها عام 2006 إعمالا بالقانون الخاص بالحفاظ على الطراز المعماري المميز، والمقصود به المباني التراثية وليست الأثرية الخاضعة لقانون الآثار. وعليه؛ فلا يحق لملاك تلك المباني المُسجلة تغيير شكلها دون موافقة، وبالطبع يمنعهم من تخريبها أو هدمها.
شَكل هذا البيت بتصميمه وزخارفه نموذجًا مثاليًا ليُسجل كمبنى ذات طراز مميز. كما أنه واقع بين أبنية الدرب الأحمر الأثرية: سبيل محمد كتخدا الحبشي جنوبا، بقايا زاوية عابدين جاويش من العصر العثماني شرقًا، وجامع الطنبغا المارداني من العصر المملوكي غربًا، والذي رممه مشروع الاتحاد الأوروبي مؤخرًا.
هذا الموقع جعل "هاشم" - المولود بالجمالية - يستأجر شقته به قبل 17 عامًا مقابل 20 جنيهًا شهريًا. فيقول إن "كل شئ كان جيدًا داخله والناس دائمًا تأتي لتزوره وتصوره".
التقط الرجل أنفاسه بعدما تمت السيطرة على ذلك الحريق دون أن يطول شقته. لكنه طال أشياء كثيرة من البيت وسقطت غرفة كاملة من الشقة التي اندلع منها بالطابق الأول، وهي شقة مغلقة تخص أصحابه من الورثة.
يحكي "هاشم" أن هؤلاء الورثة حدثوه وغيره من الساكنين عن رغبتهم في إخلائه وبيعه على أن يعوضهم الحي بشقق أخرى، لكنهم رفضوا جميعًا.
فاطمة مدكور، إحدى ورثة البيت عن جد والدتها، تؤكد في حديثها على تلك الفكرة. فالسيدة التي قاربت التسعين، لم تدخل البيت وشقة والدتها منذ عام 2000، وتريد منذ سنوات الاستفادة منه كونه لا يدر عليهم المال المتوقع؛ كما أنها تراه "خَرابة" – حسب وصفها.
لم يُتهم أحد أو يُثبت أن الحريق بفعل فاعل، وهكذا اعتقد "هاشم" قبل أن يتغير رأيه بمرور الوقت ويرى أنه كان حريقًا مدبرًا.
في العام نفسه الذي احترق فيه بيت مدكور؛ انضم مبنى البوستة الفرنسية إلى قائمة التراث، ومعه نحو 500 مبنى آخر بمحافظة بورسعيد. لكن صاحبه، وهو أحد رجال الأعمال المعروفين، قَدم تظلما ليُخرجه.. فالمبنى الواقع على تلك المساحة الواسعة بـ"الحي الأفرنجي" يمكن أن يمثل غنيمة هائلة.
رغم ذلك؛ غاب عن الأبصار وعن القناة التي كان يطل عليها؛ إذ بُني أمامه عقار حديث شاهق. فَقد المبنى شكله وصار غريبًا حتى إن الساكنين بقربه لا يعرفونه، لكن أحمد البياع الجالس في محله القديم داخل المبنى يعرف الكثير.
يملك "البياع"، صاحب الـ54 عامًا، المحل الذي تشير لافتته بالعربية والإنجليزية إلى أنه يسمى "ماجيستيك" ومختص بتأجير سيارات للسفر والرحلات.. يقول إنه ورثه عن والده، الذي استأجره عام 1940.
ينظر "البياع" إلى سقف محله المرتفع ويشير إلى شقوقه الكبيرة ثم يقول بوجه ينمُّ عن الدهشة: "كنت أتفاجأ كل يوم بتكسير جديد يحدث داخله". ولأن أحمد رجب مفتش للآثار الإسلامية والقبطية في الأساس بجانب كونه باحثًا؛ فيؤكد أن "شكله يدل على وجود تخريب حتى أصبح خطرًا وعَقده (الذي يحمل المبنى فوقه) مكسور".
ذهبت ظنون كل من "رجب" و"البياع" إلى أنه تخريب متعمد لسعي مالكه لإخراجه من سجلات التراث بعد أن رُفض التظلم المقدم عنه.
فيما لم يصل لنا رد من رجل الأعمال المالك حول هذا الأمر.
تلك الحالة تساعد على حَذف المبنى باعتباره فاقداً لمعالمه أو آيلاً للسقوط وبالتالي يَسُهل هدمه؛ لذا يعتمد بعض المُلاك أساليب مثل إشعال حريق أو فتح مياه داخل المباني لتدميرها- بحسب محمد طايل، المحامي المختص بتلك القضايا.
وتجري مراحل ذلك على هذا النحو: "يتقدم المالك بمحضر في القسم بأن المبنى يسقط منه أجزاء ويمثل خطرًا.. فيرسل القسم إخطارا للحي؛ الذي يذهب أحد مهندسيه للفحص ويقدم تقريرا.. ثم يأخذ صاحب العقار نسخة التقرير- سواء أوصى بالترميم أو أكد خطورة البيت- ويرفع بها قضية؛ فينتدب القاضي لجنة قد تكون من أساتذة كلية الهندسة أو خبراء من وزارة العدل لإعطاء تقرير نهائي بخروج المبنى أو بقائه".
ذلك السيناريو؛ أكده محمد أبو سعدة، رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، قائلا إن "هناك أشخاصًا ثبت عليهم تعمدهم التخريب وتمت معاقبتهم، ولاتزال القضايا جارية".
مَثل عقار يتصدر أحد أهم شوارع مصر الجديدة؛ صورة جلية على هذه الأساليب وواحدًا من الوقائع القليلة المثبتة التي تحدث عنها "أبو سعدة".
في صباح يوم 2 مارس عام 2020، كان كردون أمني يحيط بذلك العقار المسجل بقائمة التراث ومرفوض تظلمه.. مسؤولو الحي وأفراد من الشرطة يلتقون حول أنقاض وأكوام من الطوب بعد أن تهدم نصفه دون إصابات.
لم يحدث ذلك فجأة.. فقد نبهت مبادرة المحافظة على تراث مصر الجديدة في بلاغاتها للحي عبر مواقع التواصل الاجتماعي عما أسمته بـ"إهلاك ممنهج بدأ منذ شهور لهدمه". وجد هذا البلاغ صداه في ذلك اليوم عندما تمت إحالة مالكه إلي النيابة العامة والسبب- وفقا للصفحة الرسمية لمحافظة القاهرة - "إجراء التحقيقات معه حول قيامه بأعمال تخريب جزئي".
وبعد يومين من تلك الواقعة، تسلمت النيابة تقريرا للجنة الهندسية، والذي أفاد "أن العقار غير آيل للسقوط وسقط نتيجة عملية هدم متعمد".
يقول رجب زيدان الذي يعمل في معرض أثاث مجاور للعقار منذ 30 سنة إنه "كان أقدم عقارات المنطقة وأجملها قبل أن يتحول كل شيء في لحظة؛ عندما تسلل بضع أشخاص إلى العقار لتخريب أساساته".. حسب روايته لما حدث، والذي يقول إنه كان شاهدًا عليه.
يقر رئيس الجهاز بتجاوزات بعض الملاك، فهم "ينظرون إلى مبانيهم باعتبارها عبئاً عليهم"- حسب قوله. يلقي المسؤولية على الأحياء، موضحًا أن دور الجهاز يقتصر على وضع الضوابط والاشتراطات فقط، وإن وصلت له إخطارات بمخالفات، فيحيلها للأحياء أو يبلغ بها النيابة.
وعلى سبيل المثال؛ قدم الجهاز بلاغًا للنيابة حول "التخريب المتعمد" بإحدى فيلات منطقة الزيتون، المقدم عنها تظلم وتم رفضه. رغم ذلك؛ خرجت الفيلا من القائمة عام 2017 وهُدمت العام الماضي؛ لتصبح أرضها ساحة انتظار سيارات الآن.
أشرف شكري، مالك شركة "كيان" الخاصة بشراء المباني التراثية المميزة، قد أبدى رغبته لصاحب عقار مصر الجديدة (المهدوم جزئيا) في شرائه قبل ما حدث. فأشرف الذي علمته خبرته خارج مصر أن "استثماره في مبان قديمة الآن؛ سيصبح موردًا هائلًا فيما بعد"؛ لم يهمه أن يدفع في هذا العقار الكثير، مثلما أنفق 12 مليون جنيه لترميم ثلاث عمارات فقط بحي مصر الجديدة.
لكن صاحب ذلك العقار لم يستجب له- وفقا لأشرف.
وعندما خرجت واقعة التخريب للعَلن، ذكر بيان المحافظة أنه تم تشكيل لجنة معاينة لإجبار المالك على ترميم الجزء المنهار .. مر عامان، ولم يحدث ذلك – حتى كتابة هذه السطور.
بالعودة إلى إبراهيم صابر، نائب محافظ القاهرة للمنطقة الشرقية، وهو واحد ممن حضروا في ذلك اليوم، قال: "ما أعرفه أن مالك العقار تم حبسه ودفع غرامة، ولم نتابع الأمر".
لكن من المفترض - وفقا لقانون 144 لسنة 2006 - أن يعاقب من يهدم جزئياً أو كلياً المباني المسجلة بالحبس ما لا يقل عن سنة ولا يزيد على 5 سنوات وبغرامة لا تقل عن 100 ألف ولا تزيد على 5 ملايين.