فور تحرك السفينة، تفرق الجميع يمينًا ويسارًا وتداخلت أصواتهم المصرية والإنجليزية مع صوت "طقطقة" الأخشاب. وضعوا حقائبهم في الكبائن الضيقة، ورتبوا الأدوات والمعدات في المنتصف.
بَعدها، اجتمع "فوزي"، الإسكندراني ذو الـ33 عامًا، مع سيمور سويل (رئيس البعثة ومدير متحف التاريخ الطبيعي بالهند) والذي يكبره بعشرين عامًا، و"طومسون" و"ماكان" و"جيلسون" (الأساتذة في جامعة كامبريدج)، وعبد الفتاح محمد (المعيد بكلية العلوم بالجامعة المصرية)، والكابتن ماكنزي (القومندان) لمراجعة محطات الرحلة والمواقع بأرقامها.
أربعون شخصًا على متن "مباحث" الصغيرة، يختلفون في كل شيء، حتى إن ذلك يبدو واضحًا من وجوههم وكلامهم، لكن ربما ما يجمعهم غير السفينة هو أن لا أحد منهم يدرك بالضبط شعوره في هذه اللحظةّ. فهم خائفون ومتحمسون في آن واحد.
في البداية، مروا سريعًا على بورسعيد ثم السويس ثم الغردقة، ونزلوا بالأخيرة لزيارة محطة الأحياء المائية في ضيافة "كروسلاند" (مدير المحطة).
ستترك "مباحث" أثرها في نفس هذا الرجل، وربما تمنى أن يكون ضمن طاقمها، ذلك ما سيظهر لاحقًا.
عدن – باب المندب – 22 سبتمبر
في المساء، اتجهت "مباحث" نحو عدن، ومنها إلى منطقة بحثها الأولى "باب المندب" في البحر الأحمر.
دائمًا ما تكون أولى المحطات هي أصعبها. التوتر ظاهر على الكل سواء الأساتذة المرتدين القمصان المهندمة، أو البحارة عراة الصدر الواضعين "الطاقية" فوق رؤوسهم.. فهي لحظة، يتعرف فيها كل منهم على عمل الآخر. ولا بديل غير أن يمتزج ويتعاون هؤلاء الواقفون على الرافعات ممسكين بالحبال، والآخرون حاملين الأدوات والأجهزة العلمية.
ولم تكن الأجواء حولهم مريحة على الإطلاق، فسطح "مباحث" مزدحم بالمعدات، فامتلأت بأكثر من طاقتها بثلاثة أضعاف، وحملت فحمًا إضافيًا؛ لذا كانوا يتناولون طعامهم على دفعتين لصغر مساحة غرفة الطعام. كما أن تنقّلهم كان صعبًا وخطيرًا في كثير من الأحيان.
وحده حسين فوزي كان يشغله شيء آخر. فيقول في إحدى مذكراته للإدارة بمصر: "كنت أخشى سلوك الموجودين على السفينة.. فقد تجمع أشخاص لا يجمعهم جنسية أو ثقافة أو لغة".
رغم كل ذلك، مرت المحطة الأولى بنجاح، وجُمعت العينات المطلوبة في الوقت المحدد لها. لكن صَادفت السفينة أولى مشاكلها بعد مغادرتها؛ حيث تعطل جهاز التبريد بها وفسدت الأسماك واللحوم وألقوها في البحر. فاعتمد طعامهم لفترة على الخضروات فقط.
وعندما حاول المهندس جرجس (مهندس السفينة) إصلاحه، تنشق غاز "كلورور الميتيل"، وظل نائمًا في حالة تخدير؛ ما اضطر "فوزي" إلى تغيير جدولهم والعودة إلى عدن مرة أخرى، حيث بقى "جرجس" في مستشفاها ثلاثة أيام.
خليج عدن - 2 أكتوبر
أبحرت "مباحث" مجددًا متجهة إلى عدة نقاط في خليج عدن قرب الشاطئ الإفريقي، ومنه خرجت إلى عرض المحيط الهندي، ثم عادت إلى الخليج مرة أخرى قرب شاطئ جزيرة العرب. ولطالما احتاجت السفينة الصغيرة إلى رعاية، فعادوا بها إلى عدن، ليستغل نجارها الوقوف ويصلح بدنها قدر الإمكان، ويأتي مهندس ليفحص "طبلة الونش" التي تلفت نتيجة سرعة لم تتحملها.
صحيح أن الجو كان لطيفًا في هذه الرحلة خاصة في المحيط، إلا أنهم وجدوا مشاق أخرى لقلة الغذاء ورداءته، فكان قوامه لحوم بضعة رؤوس هزيلة من الغنم، أخذوها حية على ظهر السفينة، ليذبحوا منها رأسًا كل يومين.
كراتشي - 10 نوفمبر
تَحمل الطاقم كل هذا. قضوا ليالي صعبة. وبوصولهم ميناء كراتشي (أكبر مدن باكستان)، باتت وجوه العمال المصريين كلها مغبرة بالفحم، لكنهم ظلوا مبتسمين. وقتها تبدد خوف "فوزي" كله تجاه سلوكهم. فيقول إنهم "تحلوا بالصبر وكانوا مطيعين للأوامر ومنظمين وتحملوا سوء الغذاء والمشقة".
كما تناوب الضباط والمهندسون على ورديات كل أربع ساعات بلا كلل. وازداد نشاط المعامل مع جلب المزيد من العينات، حتى إن "فوزي" عمل كثيرًا بيديه؛ لذا اعتبر أن "رحلة عدن – كراتشي هي أكثر الرحلات توفيقًا لهم حتى الآن".
ويقول في مذكرته من هناك: "إذا سارت الرحلات القادمة بهذا الشكل، سيقال إن بعثة جون موراي كانت من أعظم الرحلات وأكثرها نشاطًا وإنتاجًا".
تسارعت وتيرة العمل في "مباحث" عند خليج عدن والبحر العربي، وربما غطى ذلك على مشاعر ساكنيها وتأثرهم بالغربة وفراق أهلهم لشهرين. فالجميع كان ينتظر لحظة الذهاب إلى فراشه ليقتنص بعض ساعات النوم ويستعيد قوته في اليوم التالي.
خليج عمان - 8 ديسمبر
في نهار يوم 8 ديسمبر، أبلغهم الكابتن ماكنزي، القومندان الثلاثيني، أنهم وصلوا خليج عمان، حيث منطقة بحثهم الجديدة حتى مدخل الخليج الفارسي. رست "مباحث" ليلة في مسقط (عاصمة عمان). وكلما وصلت إلى ميناء، جرى عمالها إلى أقرب سوق لينفقوا ما لديهم من مال لشراء طعام إضافي.
لم تستغرق تلك المنطقة منهم سوى يومين، لتقطع "مباحث" عرض المحيط الهندي من الهند إلى إفريقيا، وتعبر خط الاستواء، في منطقة بحث هي الأكبر حتى الآن.. تجاوز عدد محطاتهم بعدها المائة.
نيروبي - 1 يناير
دامت تلك الرحلة 19 يومًا حتى وصلوا إلى "نيروبي" (عاصمة كينيا)، أُجهد البحارة في محاولة رفع البخار للدرجة المطلوبة؛ لأن الفحم الذي زودوا به في توقفهم الأخير كان رديئًا، كما حلت عليهم رأس السنة، ولم يكن مألوفًا لأحد من المصريين قضاء مثل هذه الأوقات بعيدًا عن أهله بل وفي عرض البحر.
شعروا بالغربة بحق كلما مرت عليهم مناسبة، لكن الملفت هو انسجامهم مع الفريق الإنجليزي؛ إذ ذكر "فوزي" أنه سمع ذات يوم من أحدهم عبارة: (متكسوفناش قصادهم) مخاطبًا زملاءه. لكن في الوقت نفسه، وصل إليه تفكيرهم في أمر ترقيتهم الذي وعدتهم به المصلحة قبل سفرهم؛ لذا أبلغ الإدارة بأهميته في كل مراسلاته معهم.
في تلك الأيام، كان "فوزي" مبتهجًا بشدة لحصول البعثة على نتائج علمية مهمة جدًا كدراسة طبقات البحر حتى عمق خمسة آلاف متر، كذلك أحياء الأعماق البعيدة.
لكن سعادتهم لم تدم طويلًا، وانقلب الوضع في ليلة واحدة، إنها ليلة 16 يناير.
في تلك الليلة المشؤومة، ضَرب المرض "مباحث" وأصيب طاقمها واحد تلو الآخر. بدأ الأمر بحالات حمى مختلفة العوارض، وبما أن "فوزي" هو طبيب البعثة، فشخص حالة أحدهم بأنها ملاريا، واشتبه في أخرى، وفعل ما في وسعه لعلاجهما. فيما اشتدت الحالة على اثنين آخرين، ليطلب "فوزي" من الكابتن الذهاب سريعا إلى زنجبار (جزر بالمحيط الهندي تابعة لتنزانيا) ليدخلا المستشفى هناك.
زنجبار - 18 يناير
وفي بحر بارد ومتقلب، كُسر السير الهادئ للسفينة أثناء ذهابها إلى "زنجبار"، فالتيارات اشتدت على "مباحث". استدعى الكابتن ماكنزي خبرته، فتعامل مع الأمر وقلل سرعتها. وعند وصولهم، كان المرض امتد لآخرين.
هناك، استغل "سيويل" (رئيس البعثة) التوقف، وألقى محاضرة أمام جمهور غفير تحدث فيها عن البعثة، وبالطبع عن "مباحث". وقتها، تمنى "فوزي" لو أن البعثة مصرية فقط، ونظموا محاضرات وصورًا سينمائية عن مصر، كما فعلت البعثة الدنماركية على ظهر السفينة "دانا"، والتي زارها في تونس وسمع منها محاضرة عن الدنمارك، لا عن البعثة.
وبعدما انتهت هذه المحاضرة، استكملوا عملهم حول بحر هذا البلد.
فاجأهم مرة أخرى بعد التحرك، مَرض أحد البحارة وأنه يعانى من آلام حادة في البطن. وحين عادوا بعد 6 أيام إلى زنجبار دخل وثلاثة آخرون المستشفى. لم يكن أمر هذا الرجل هينًا، فرأى "فوزي" أنه حتى لو تحسنت حالته، فيمكن أن يتعرض لوعكة أخرى لا حل لها في البحر، لأنها قد تحتاج إلى عملية جراحية، لذا قرر إبقاءه ليعيده أحد متعهدي البعثة إلى الإسكندرية بعد استقرار وضعه، وأبلغ الكابتن ماكنزي أن يختار بديلًا له من زنجبار.
ليس هذا البَحار الوحيد الذي فقدته "مباحث" حين غادرت زنجبار، إنما بقى واحد أخر بالمستشفى، لكنه سيلحق بهم في محطتهم التالية "كولومبو" (عاصمة سريلانكا).
عندما حان وقت الرحلة القادمة، دَب القلق والارتباك في "مباحث"، وكأن حالة طوارئ مفاجئة أعلنت عليها، فاتجهت إلى جزيرة سيشل لشحن فحم إضافي، وتلقى طاقمها "أملاح الكينا" كعلاج وقائي من الملاريا.
كل تلك الاستعدادات لأن بانتظارهم رحلة طويلة أخرى في عرض المحيط، لا بر قريبًا لها، كما أن الرياح لن تكون معهم. وقد أصبحت "مباحث" منهكة بعد عمل خمسة أشهر بلا انقطاع تقريبًا.
كولومبو - 22 فبراير
للمرة الثانية، تعبر "مباحث" المحيط الهندي، وعلى عكس توقعاتهم، مرت بسلام ولم تعقهم الرياح إلا في الأيام الأخيرة، لكنها لم تمنع سيرهم والوصول إلى كولومبو. والأهم أنهم اكتشفوا في طريقهم سلسلة جبلية في قاع البحر، وهي المرة الثالثة التي تكتشف فيها البعثة حواجز جبلية بواسطة جهاز قياس الأعماق الذي يديره "فاركسون" (ضابط الملاحة).
وبينما تحسنت صحة المرضى واستعاد الآخرون صحتهم بعد راحة لأسابيع في المدينة، كانت الحالة النفسية سيئة.
في يوم، مَشى حسين فوزي باتجاه غرف مبيت رجال البحرية كعادته ليتفقد أحوالهم. تحدث معهم، ولم ينجحوا في إخفاء إحساسهم بالضيق تجاه الإمكانيات الضعيفة المتوفرة لهم وسوء التغذية.. صمت "فوزي" أمام أحاديثهم المتناثرة، وبدا أن كل ما يقولوه ليس مفاجئًا له، بل تذكر السفينة الحربية الفرنسية التي رآها في ميناء كولومبو عندما وصلوا، وانتبه إلى صالونها المتسع المزود بالمراوح الكهربائية والموائد.
وجد نفسه يقارن بينها وبين "برطوز" البحرية على ظهر "مباحث" وهو مكان أكلهم ونومهم وجلستهم.. وتساءل في داخله ثم في مذكرته: "هل كان سيكلفنا كثيرًا أن نمدهم ببعض المراوح الكهربائية؟".