في شتاء 1934، ذهب دكتور "بنجهام" (عميد كلية العلوم بالجامعة المصرية) للمسؤولين بمصلحة خفر السواحل ومصائد الأسماك، حاملًا أوراقًا بها اقتراح أن تخرج "مباحث" في رحلة استكشافية ثانية، لكنها ستكون مصرية خالصة، وفي نطاق أضيق ومدة أقل.
صَدى رحلتها الأولى لايزال عاليًا وسَيطر على مناقشتهم، فتحمسوا جميعًا للقيام بذلك مرة أخرى، شيء واحد فكروا به وهو التكلفة. وفي النهاية، خَصصوا لها 2500 جنيه مصري، على أن يتأجل تطويرها الذي سيتكلف وحده 1500 جنيه أخرى.
البحر الأحمر هو وجهة "مباحث" هذه المرة، ولم يكن جديدًا عليها، لقد مرت عليه في رحلتها السابقة، لكنها لم تتوسع فيه.. وفي ظهر يوم 18 ديسمبر، تحركت باتجاهه، حيث السويس، ثم بوسعيد، وأخيرًا الغردقة.
وفي هذه الرحلة، كان الفريق جديدًا بأكمله؛ عدا عبد الفتاح محمد، الذي أصبح أستاذًا للكيمياء الطبيعية. وربما كان متوقعًا لهم من سيترأس الفريق. إنه دكتور "كروسلاند"، الرجل الذي استضاف "مباحث" وطاقمها في الغردقة خلال رحلتها الأولى، وأعجب بها بشدة.
سُرعان، ما انقضت هذه الرحلة، وجلبت نتائج ومعلومات مثيرة أيضًا عن البحر الأحمر. ولعل الأهم، كان الزخم الذي خلقته "مباحث" برحلتيها، والذي فرض أن ما بعده يجب ألا يكون كما قبله.
فانتهز الفرصة حسين فوزي (عضو رحلتها الأولى ومدير مصلحة مصائد الأسماك)، وعبد الفتاح محمد (العامل المشترك في الرحلتين)، وأسسا قسم علوم البحار بكلية العلوم في جامعة الإسكندرية عام 1948، وهو أول قسم من نوعه في العالم العربي.
لم تكن مفاجأة أن تدخل مصر مجال علوم البحار على متن "مباحث" وبقوة شديدة حتى صار له مناهج ودراسات، لكن المفاجأة هي ما حدث بعد ذلك، تحديدًا عام 1953.
ذهب الملك بلا رجعة. وواصلت مصر مفاوضاتها لإنهاء تبعيتها لبريطانيا تمامًا. تغير وجه كل شيء فيها سياسيًا واجتماعيًا ومؤسسيًا حين حل المصريون محل الأجانب. لكن هذا التغيير لم يأت في مصلحة "مباحث" على الإطلاق.
فانتهت رحلتها مع المجال العلمي بشكل مؤسف، لتعود إلى مهامها القديمة وتنخرط في أعمال التموين والتفتيش.
رَست في الميناء الغربي بالإسكندرية رسوًا غير طيب أدى إلى إهمالها. وفيما بعد، انتقلت ملكيتها إلى وزارة البحث العلمي عام 1965 على أمل استخدامها مرة أخرى في أعمال البحوث، لكنها صارت متهالكة وغير مستعدة لذلك؛ إذ كانت تحتاج إلى تجديد شامل حال دون إتمامه قلة المال.
في العام نفسه، جاء شاب يدعى حسن البنا من محافظته "الدقهلية" إلى الإسكندرية ليلتحق بقسم علوم البحار، الذي أراده بشدة وفضله عن كلية الطب: "أحببت البحر من زيارتنا لرأس البر، ثم قرأت عنه، وبالطبع عن رحلتي مباحث، ففعلت كل ما في وسعي لأكون في هذا القسم".
لكن "مباحث" التي ألهمت "البنا" ودفعته نحو هذا القسم، تموت ببطء في وقت انتبه فيه العالم إلى علوم البحار، فتأسست لجنة اليونسكو الدولية لعلوم المحيطات عام 1960، وخلال سنوات الستينات الأولى، جالت المحيط الهندي 45 سفينة مختصّة في البحوث، حاملة أربعة عشر علمًا مختلفًا، ليصعد نجم دول أخرى كالولايات المتحدة، اليابان، والهند.
مرات عديدة، يمر فيها حسن البنا وزملاؤه على "مباحث" المُهملة والمائلة. ينظرون إليها بعين حسرة وعجز، ثم يمضون في طريقهم ويستقلون مَركبًا آخر صغيرًا مستقرًا أمام القسم، أخد نفس اسمها، وصار مخصصًا للتدريبات العملية لطلاب القسم القلائل، والتي لا تتعدى الشواطئ المحيطة.
ومثلما يفعل القسم، فَعل معهد علوم البحار، الملاصق له بمنطقة قايتباي، والذي أسسه الملك فؤاد قبل رحلة "مباحث" الأولى بـ15 عامًا، فاعتمد على تأجير مراكب كلما خرج في مهمة، ولم يعد يملك سفن بحثية كبيرة.
تغيرت الموازين ولم تأت الرياح بما تشتهي السفن. ويعتبر حسن البنا "أن الفارق كله بين وقت رحلتي مباحث وهذا الوقت يكمن في قلة الشغف والاهتمام، ثم ضعف الإمكانيات، وبالتالي صغرت الأعداد والمهام والطموحات".
قرابة الثلاثين عامًا مرت على هذا الحال، عايشت مصر خلالها ثلاث حروب، ومعها لم تستطع فعل أي شيء لـ"مباحث" أو علوم البحار في المجمل، حتى حلت ذكرى رحلتها الخمسين.
ندوة ضخمة ذاع صيتها في دوائر العلماء والمهتمين، نظمتها اليونسكو في إحدى قاعات المؤتمرات بالإسكندرية إحياءً لرحلة "مباحث" الفريدة؛ وترأسها حسين فوزي بنفسه، وقد بلغ الـ83 من عمره.
بملامح أجنبية وعيون زائغة؛ جَلس أحد الباحثين العاملين في معهد المحيطات ضمن مقاعد الحضور التي شملت 93 من علماء البحار يمثلون دول مختلفة. انتظر الرجل حتى لفظ "فوزي" اسمه في الميكروفون: "توني رايس"، ليصعد إلى المنصة وداخله قدر كبير من التوتر والسعادة.
ناقش "رايس" رسالته بعنوان "تحدي أعماق البحار، رحلة جون موراي/ مباحث إلى المحيط الهندي"، والتي استند فيها على رسالة غير منشورة كتبها القائد "سيويل"، ووضعت في متحف التاريخ الطبيعي بلندن.
إنها فرصة ذهبية بالنسبة لـ"رايس"، حسبما يحكي، فقد تمكن من الحديث إلى حسين فوزي واثنين من العلماء البريطانيين من البعثة الباقين على قيد الحياة، وهما الدكتور جيلسون وماكان، لقد تحول ثلاثة من الشخصيات التي كتبت عنها في الرسالة إلى لحم ودم أمامه.
لكن الشيء الوحيد الذي أحزن "رايس" حينها، هو أنه أثناء حديثهم عن "مباحث" وأهمية رحلتها، كانت السفينة العجوز "في حالة يرثى لها بالميناء" – كما يصفها. وربما عزاه فكرة تحويلها إلى متحف، التي يجري مناقشتها، لكنه سيبدو أملا زائفا.
مصر في الثمانينات كانت تشغلها أشياء أخرى: استفتاء يقر حسني مبارك رئيسا لها بعد اغتيال "السادات"، ثم فترة ولاية ثانية له تستقر فيها الأمور نسبيا، ثم مواجهة مع التطرف والإرهاب، فلا مجال للاهتمام أكثر بالتعليم والبحث العلمي.
3 سنوات بعد الندوة دون جديد يجري في حياة مباحث غير أنها صارت تابعة لجامعة الإسكندرية. استولى اليأس على كل من تحدث عن إنقاذها، لقد "صارت في حالة غرق وليس طفوًا"، بحسب اللواء رضا حلمي (مدير إدارة الإنقاذ بالبحرية آنذاك). لكن يوم جاء وأيقظت من غفوتها الطويلة.
فانتقلت بصعوبة من مكانها بالميناء الغربي إلى أمام نادي اليخت بالميناء الشرقي، وهو أمر تكلف مليون جنيه تقريبا -بحسب عبد السلام شلبي (عميد كلية العلوم وقتها)، لكنها هناك ستكون في مأمن من النوات والتيارات إلى أن تتحول إلى متحف سياحي، المشروع الذي اعتمدت له اليونيسكو 30 ألف دولار كبداية.
تَحمس حسن البنا كثيرًا حين خرج من قسمه "علوم البحار"، ليشهد تلك اللحظة. كان في هذا الوقت مشاركًا في أنشطة بحثية مولتها دول أجنبية والأمم المتحدة للعمل في سواحل البحرين المتوسط والأحمر، تبين له من خلالها كم من دول زاحمت مصر في هذا المجال، وأن بعضها تخطاها.
الصورة التي أراد أن يلمح لها "البنا"، يكملها حديث لخميس عبد الحميد (الأستاذ بمعهد علوم البحار) في ديسمبر عام 1986، والذي يقول فيه: "إن الإمكانيات المادية أكبر عائق أمام مواصلة أبحاثنا. فالمعامل تحتاج إلى تطوير وتحديث وأجهزة.. حتى إن المباني تأكلت بفعل الرطوبة".
ووسط هذا الحال، لم ير مشروع "مباحث" النور أبدًا، حتى أكل الصدأ بدنها الحديدي وابتلعتها المياه في شتاء 1988، العام نفسه الذي توفي فيه حسين فوزي، وهو من رافقها في رحلتها الأولى.
وبينما تتلاشى "مباحث" أسفل مياه البحر للأبد؛ كانت سفينتان حديثتان تسير فيها باتجاه مصر كهدية من اليابان عن طريق الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا).
كان متوقعًا أن معهد علوم البحار هو من سيتسلم السفينتين، فهو بحاجة لهما، لكن على غرار المشاهد السينمائية المفاجئة، تسلمتهما الشركة المصرية للصيد التابعة لوزارة الزارعة!
صار اسمهما "اليرموك" و"سلسبيل"، وعملتا في أنشطة لها لنحو 10 سنوات حتى التفت إليهما معهد علوم البحار. فخاطبت مديرته الوزارة ثم حصلوا على ملكيتهما في نوفمبر 1999، لتنطلق أولى رحلاتهما في يناير 2000، كما ذكرت إكرام أمين (رئيسة المعهد حينها).
وجود السفينتين لم يُنس أحدًا "مباحث" وقصتها، بل العكس هو ما حدث وربما صَعبت المسؤولية على السفينتين الجديدتين، فذكرت جريدة الأهرام عام 2002، "أنه رغم البداية القوية لمباحث، إلا أن ما تم في العقود الأخيرة ما هو إلا جهود فردية وليس خطة قومية". ودعم هذه الصورة يوسف حليم (الأستاذ بقسم علوم البحار): "لقد انتهى عهد مصر بأعالي البحار، وتضاءل دورها لدراسة بضعة أمتار من الشريط الساحلي والبحيرات، لتسبقنا دول كاليونان، تركيا، وإسرائيل".
ويبدو أن عمال السفينتين أنفسهم لم تكن لديهم الطاقة اللازمة للرحلات الكبيرة، فعملت "سلسبيل" واليرموك" بطاقم واحد فقط من البحارة والفنيين بدلا من اثنين، وهو ما تسمح به بالكاد إمكانيات المعهد، وفقًا لخميس عبد الحميد (الأستاذ في المعهد والمشرف على سفن الأبحاث)، وهو ما مَثل ضغطا على الطرفين.
على أي حال، مَضى هؤلاء في عملهم القريب من "مباحث" الغارقة، وعلى الأغلب لم يعلم أحد منهم بأمرها، وعلى الجهة المقابلة منهم، اضطربت الأجواء بمعهد علوم البحار، حيث طالب أساتذة به – في إحدى الصحف بالفترة نفسها- وزير التعليم العالي لإجراء تحقيق فيما أسموه "المخالفات المالية الخطيرة بالمعهد، والتي تابعتها الأجهزة الرقابية".
سنوات الألفينات الأولى عمومًا لم تكن جيدة بالنسبة للمجال، فظهرت مكتبات ومشروعات اقترنت باسم "مبارك" أو زوجته، لكن لم تأخذ علوم البحار مساحة بين كل هذا. وبالتالي؛ فإذا تحدث أحد عن "مباحث"، فمن سيهتم بأمر سفينة غارقة؟، لكن اليونسكو فَعلت وعرضت مرة أخرى على جامعة الإسكندرية إنقاذ ما تبقى منها وتحويلها إلى متحف عائم.
رد فعل الجامعة جاء مفاده "بأنها ستدرس الأمر".
سنوات تالية، انشغل فيها باحثو المعهد بموضوعات التلوث وتدهور الإنتاج السمكي وخطر إلقاء مصدات الأمواج على الشواطئ دون دراسة كافية. فيما، لم تخرج سفينتا "اليرموك" و"سلسبيل" في رحلات بحثية سوى مرات قليلة، قدّرتها سوزان خليف (رئيس المعهد السابقة) بـ12 رحلة بين 1999 وحتى 2012.
ارتبطت قلة الرحلات بأسباب عدة، لعل أبرزها الإمكانيات المادية. فلا تقل تكلفة الرحلة الواحدة عن 100 ألف جنيه وقد تصل إلى مليون جنيه، كما يوضحها عمرو زكريا (رئيس المعهد الحالي). لذا لا يمكن توقع مصير آخر في وقت كانت مخصصات البحث العلمي في مصر لم تتخط 1% من الناتج المحلي، يؤخذ منها 2 مليون جنيه كميزانية سنوية للأبحاث بالمعهد.
شيئًا فشيئًا، تعطلت السفينتان تمامًا لعدم توفر المال اللازم لصيانتهما، بالتزامن مع الاضطرابات التي شهدتها مصر بعد ثورة يناير. وظلتا على هذا النحو لـ8 سنوات، وكأن مصير "مباحث" الحزين سيتكرر.
لكن نجت السفينتان في رأس التين بالإسكندرية، حيث ترسانة القوات البحرية، التي أجرت لهما عمرة شاملة.
تستقر السفينتان حاليا في ميناء الإسكندرية، وعلى بعد 6 كم بالسيارة منهما، يجلس أحمد النمر (مدير معهد علوم البحار بالإسكندرية) في مبنى قديم يجاور قلعة قايتباي المهددة بالغرق جراء التغير المناخي، تحيط به أوراق وتصاريح من جهات عدة. عليه أن يُجهزها لتتمكن "اليرموك" من الخروج من مرساها في رحلة قصيرة نحو البحر الأحمر، هدفها فيها جمع عينات من هناك، ومعرفة آثار التغيرات المناخية على حرارة المياه والكائنات البحرية.
كان الطقس باردًا والبحر غير مضمون استقراره رغم رصده مسبقًا. ومع ذلك، خرجت "اليرموك" وعلى متنها ستة باحثين فقط، يترأسهم وليد الصاوي (أستاذ مساعد بشعبة المصايد بالمعهد)، ويرافقهم نحو 15 بحارًا.
سارت "اليرموك" في البحر الأحمر كما سارت "مباحث" من قبل. لكن مرة بعد أخرى، تعرقل الظروف الجوية طريقها، ومعها يضطر طاقمها الانتظار كثيرًا بسبب كثرة الأمواج والنوات.
ولا مفاجأة في مفاجأة المناخ لـ"الصاوي"، فهو يدرك جيدًا كم صار حادًا ومتقلبًا؛ إذ بات تغير المناخ هو محور عملهم وأولويتهم الآن، فالإسكندرية والدلتا من أكثر المناطق الساحلية عرضةً لخطر الغرق نتيجة ارتفاع مستوى البحر الذي ترتب على علو درجة حرارة الأرض.
في نهاية المطاف، انتهى أمر رحلة "اليرموك" بقضاء 3 أسابيع في البحر الأحمر، عادت بعدها إلى ميناء الإسكندرية. ولم تتجاوز مدد رحلات السفينتين أكثر من ذلك منذ بداية عملهما، بل قد تستغرق يوما أو يومين فقط حسب هدفها، كما أنها لم تبحر أبدًا خارج حدود المياه المصرية، فكما يقول وليد الصاوي، "لم نصل لتلك المرحلة".
وفي المرحلة التالية، سيكتب تقريره المفصل عن الرحلة. وكالمعتاد؛ تسير التقارير في مسار ثابت، يذكره عمرو زكريا (رئيس المعهد): "إذا كانت تخص مشروعًا وجهة ما يستلموها.. وإذا لأ، توضع في مركز المعلومات الخاص بنا.. لتكون موجودة عند حاجة الدولة لتلك المعلومات".
منذ تولى "زكريا" رئاسة المعهد، لم تكن مشكلته في الإمكانيات، التي يقول إنه يمكن تدبيرها، بقدر ما كانت في "الروتين والوقت الطويل ليتمكنوا من الخروج برحلة أو عمل استكشاف". وبالنسبة له، فالوقت هو أهم شئ، لأنه يسابقه للحاق بالدول الأخرى.
يرى أنه نجح في ذلك إلى حد كبير، فبعد أن كانت مصر خارج التصنيف منذ 3 سنوات، فالمعهد الآن – بحسب مؤشر سيماجو (SCIMAGO) المختص بتصنيف المؤسسات العلمية – حاصل على المركز 48 على العالم والـ17 في الشرق الأوسط. لكنه يسعى ليعود إلى المقدمة مثلما كان الحال وقت رحلتي "مباحث".
وفي اعتقاده أنه لو "كنا سرنا بنفس وتيرتها، لأصبحنا رقم 2 على العالم".
بخطوات بطيئة، يدخل حسن البنا، الرجل السبعيني، قسم علوم البحار، وقد صار أقدم أساتذته وبمثابة "أرشيفه" المتنقل. يمر بجانب صور معلقة على الجدران في المدخل، تجسد رحلتي "مباحث" وطاقمها الذي فارق الحياة مثلها.
يلقي محاضرته، ويتحدث فيها عن "مباحث"، السفينة التي عَرفها وقت كان طالبًا بالقسم في منتصف الستينات، لكنه لم يجد بينهم من يعرفها.. يروي لهم قصتها الطويلة، ويبدو الأمر ثقيلا عليه حين يصل إلى نهايتها، إلى الجانب المحزن، وهو أنها غارقة خلفهم تحت أنقاض قلعة قايتباي. قد تمر سفينتا سلسبيل واليرموك فوق رأسها كثيرًا. ولم تشفع كل رحلاتهما عند "البنا"، فيراها "غير مؤثرة".
ينهي محاضرته ويذهب إلى بيته؛ يلقي نظرة على علبة صغيرة يبدو عليها القدم وبها عينات بحرية. لا يريها لأحد ولا يسمح بتصويرها. والسر وراء ذلك، كما يقوله مبتسمًا، "إنها عينات من رحلة مباحث الثانية إلى البحر الأحمر".
كان الأمر مفاجئًا، فعينات "مباحث" غير الظاهرة في القسم عند زيارته، توجد بعضها في بيت حسن البنا!.. يتحدث الرجل عن أن عيناتها تفرقت، وجزء بسيط جدًا من أدواتها موجود بالقسم، كما أن امتلاكه لهذه الأشياء لم يسعده أبدًا، فكان يتمنى جَمعها في متحف.
ثم يقول بنبرة يائسة: "لقد مللت الحديث عن كل ذلك".
النبرة نفسها يمكن استنباطها من كلمات توني رايس، حين خاطبناه عبر البريد الإلكتروني لنسأله عن السفينة، التي كتب عنها تلك الرسالة المعروضة في ندوة الإسكندرية عام 1983. فقبل أن يتحدث عنها، قال: "كنت أتخيل أنني سأكون آخر من كتب عن مباحث".
وبينما يئس الرجلان وغرقت "مباحث" وفكرة إحيائها وتفرقت عيناتها، ينتصب في بهو المركز الوطني لعلم المحيطات بمدينة ساوثهامبتون البريطانية، نموذج لتمثال يصور فارسًا ذا شارب وعلى رأسه خوذة. يشكل هذا التمثال، القطعة المتبقية من سفينة "إتش إم إس تشالنجر"، التي قادها جون موراي منذ 150 عامًا، ويحتفظ متحف التاريخ الطبيعي بلندن بكامل عيناتها حتى الآن.