لقاء افتراضي

"أول مرة أمي تغيب عن عيني من 60 سنة" - مجدي محمد

انخلع قلب مجدي محمد وأشقائه، بينما تصطحب عربة الإسعاف والدتهما إلى مستشفى ميت غمر العام، بمحافظة الدقهلية، إثر الإصابة بفيروس كورونا المستجد. لم يستطع الابن العودة للمنزل، قضى اليوم بأكمله في الشارع المُقابل للمشفى في انتظار أن تطل الشمس وتحمل معها أخبارًا أدفئ من الليلة الكابوسية.

من الصباح الباكر، دخل الرجل الستيني إلى رُدهة المستشفى مستفسرًا عن وضع والدته، الحاجة فايزة عثمان صاحبة الـ83 عامًا، والتي ترقد في الطابق الثاني. لم يعتد مجدي أن تغيب والدته عن ناظريه "حتى لو دخلت مستشفى، بعرف أبات جمبها"، لكن ثمة إشراقة ملأت قلبه، حينما أخبره العُمال، بأنه يستطيع رؤية والدته عبر الزيارة الإلكترونية في الحادية عشر صباحًا.

"22 مايو بدأنا فكرة الزيارة الإلكترونية بين مُصابين كورونا وذويهم عشان نهوّن على الطرفين" - دكتور محمد شرف الدين

داخل كابينة منزوية في الرُكن الأيمن من رُدهة المستشفى، وُضعت شاشة سوداء، يعلوها كاميرا ويتدلى من جانبيها سماعات للتحدث. بدأت التجربة لأول مرة يوم 22 مايو الماضي، حين فكر الدكتور محمد شرف الدين، وكيل مستشفى ميت غمر العام، في تدبير وسيلة تُدخل السكينة على نفوس مُصابين كورونا وأهلهم.

في الطوابق الثلاثة التي خُصصت لمصابين فيروس كورونا بالمستشفى، يوجد كابينة مُتحركة، تحمل المُعدات نفسها، تدور على كل طابق في يومين مُحددين خلال الأسبوع، من الحادية عشر صباحًا وحتى الواحدة ظهرًا، بالنسبة لوكيل المستشفى فأن التجربة غير مُكلفة لكنها ثمينة عند الأهالي والمرضى "لمست بنفسي إزاي ده عامل فرق عند الطرفين".

على جانبي الكابينة، وُضعت لافتات تشرح الفكرة، فيما تحمل أخرى جدول تنظيم مواعيد الزيارة الإلكترونية، للثلاثة طوابق المُخصصة للعزل في المستشفى، ولكل طابق يومين في الأسبوع، فيما يُصبح الجمعة إجازة.ذهابًا وإيابًا يتردد مجدي على اللافتة، يُطالع الأيام ويجد أن اليوم مُطابق لموعد والدته، تتهلل أساريره، يسأل فتاة عشرينية تقف أمام الكابينة "يعني هعرف أكلمها؟ هتسمعني وأسمعها؟"، فتجيب إسراء عبدالله: "أيوة، هتشوفها كمان".

"أني أعرف أشوف أمي ونتكلم حتى لو من ورا شاشة بتفرق معانا إحنا الاثنين" - إسراء عبدالله

على مدار الأسبوع المنصرف؛ تأتي إسراء عبدالله يوميًا إلى مستشفى ميت غمر العام، منذ استقرت والدتها بالمكان بعد إصابتها بالجائحة، لا تبرح المكان إلا بعد الاطمئنان على صحتها، حتى الأيام التي لا يكون فيها تواصل إلكتروني، إذ تستقر والدتها سعيدة، صاحبة الخمسين عامًا، في الطابق الرابع.

تتطوع الشابة العشرينية في شرح كيفية عمل الزيارة الإلكترونية، حينما تجد زائرًا جديدًا للمستشفى. تحكي له كيف أن لها عظيم الأثر على نفس المُصاب وأهله، تجربة تستمر فقط خمس دقائق وأحيانًا أقل، إلا أنها تمنح الطرفان مدادًا للزيارة المُقبلة.

"في يناير 2021 طبقت وزارة الصحة المصرية قرارًا بمنع دخول الهواتف المحمولة داخل مستشفيات العزل وخاصة غرف العناية المُركزة حفاظًا على خصوصية المرضى".

"أول نصيحة للأهالي إن الزيارة تبقى إيجابية ومفيهاش عياط عشان نفسية المريض" - إيمان أحمد

تتولى إيمان أحمد مسئولية تنظيم الزيارة الإلكترونية داخل المستشفى. في العاشرة ونصف صباحًا، تتواصل مع الأطباء في غرف العزل، تستلم أسماء المُصابين في الطابق المُحدد يومه، تدون الأسماء في ورقة، تتابع مع طاقم التمريض تنسيق وصول الكابينة المُتحركة إلى المرضى بترتيب الكشف الذي تحمله يديها، تفحص الكاميرا، الميكروفون، تتأكد من جاهزيّة كل شيء، ثم تبدأ مُهمتها.

في ترتيب، تنادي صاحبة الـ23 ربيعًا على أسماء المرضى بالترتيب، يتقدّم أهالي كل حالة لأخذ دوره خلال الزيارة الإلكترونية. تدخل إيمان معهم داخل الكابينة، للتأكد من عمل كل شيء، ولمساعدة الأهالي ممن يخوضون التجربة للمرة الأولى "أرجع لورا شوية عشان يعرف يشوفك في الكاميرا"، تقول إيمان لمجدي، حيث تقف أمامه والدته في الجهة الأخرى.

"أمي ماتت هنا، وقلبي كانت متشحطط عليها.. المرة دي جاي أزور صاحبي وابقى جنبه.. كان نفسي الخدمة دي تبقى موجودة أيام أمي، على الأقل كنت ودعتها" - محمد مدحت

بثقل يخطو محمد مدحت إلى مستشفى ميت غمر، بداخلها فقد والدته قبيل أشهر حينما أُصيبت بالفيروس، أقامت قرابة الشهر دون أن يراها ولو لمرة واحدة، رحلت السيدة الأربعينية دون وداعه "كان كل هّمي إنها تعرف إننا مش ناسيينها، وبنيجي هنا كل يوم.. كان نفسي أشوفها لمرة أخيرة".

تهاجمه التفاصيل كلما ذهب إلى المكان نفسه، لخوض تجربة جديدة مع فيروس كورونا، إذ أصاب هذه المرة صديقه الشاب العشريني السعيد نادر، يحاول التماسك قبيل بدء الزيارة الإلكترونية، يعرف مقدار الاطئمنان النفسي وأثره على تخطي التجربة "هو بيفرح لما بنلاقينا حواليه حتى لو من خلال شاشة، إنه يعرف بس إننا مستنيينه يطلع بالسلامة".

"بنستنى يومين الزيارة بفارغ الصبر.. وباقي الأيام قلبنا بيبقى واجعنا عليه" - زيزي السعيد

إلى جوار محمد، ترتكن زيزي شقيقة السعيد؛ تُعيد على مسامع أصدقائه الكلمات الواجب ذكرها خلال الزيارة "مينفعش نعيط.. لازم نبقى ثابتين، هو مستنيينا عشان نديله أمل مش العكس". تحاول الشابة كلما أتت أن تحمل أخبارًا سعيدة لشقيقها، تطمئن على أحواله، في دقائق معدودة تملك الدُنيا "حاجات بسيطة زي إني أقوله ياكل كويس ويخلي باله من حالته النفسية بتفرق معايا ومعاه".

أمام الكاميرا تقف زيزي، تلوَّح بأياديها لشقيقها "يا سعيد أنا شايفاك، عامل إيه يا حبيبي؟ على فكرة أنت المرة دي أحسن من اللي فاتت"، تنتهي سريعًا من كلماتها، لتُبدل الأدوار مع باقي أصدقائه حتى يتسنى لهم جميعًا بزيارته، يطلب منهم الأمن عدم التزاحم وترك مساحة لشخص واحد فقط داخل الكابينة، يخرج محمد مدحت برفقة زيزي بعد انتهاء الزيارة، وقد ارتسمت الابتسامة على شفاه "الفكرة دي اللي خلتني أقدر أضحك في المستشفى هنا".

"أنا جاي من المنصورة وكان نفسي أشوف أمي النهاردة.. هي كويسة؟" - خالد أحمد

عقارب الساعة تقترب من الواحدة ظهرًا، لا تُنادي إيمان أحمد باقي أسماء المرضى. بلهفة يتقدم خالد أحمد برفقة أهالي أخرين، يسألون عن مصيرهم خلال زيارة اليوم، يأتيهم الرد أن المريض يحتاج إلى راحة ولا يمكن إجراء زيارة اليوم.

يتملّك القلق من قلب خالد، رغم أنه مر بتلك التجربة من قبل خلال الأسابيع الماضية، منذ حُجزت والدته فوقيّة، صاحبة الـ65 عامًا "على حسب الحالة ممكن يبقى في كلام وممكن لاء، في أيام بتفتح الكاميرا أشوفها بس وأمشي"، لكن هذه المرة لم يكن هناك خيارات "كان نفسي أكلمها وأصورها لعيالي، نفسهم يطمنوا على جدتهم". يُعيد التساؤلات على المسئولة عن الأمر "بس هي كويسة صح؟".

"وزيرة الصحة أشادت بتجربتنا، وهيتم تعميمها على باقي المستشفيات" - محمد شرف الدين

أمام الكابينة، يأتي من حين لأخر الدكتور محمد شرف الدين، صاحب الفكرة، يطمئن على سير الأمور، لا يقف كثيرًا "بنحاول نحافظ على خصوصية المريض، وميبقاش واقف أمام الكابينة غير أهله وبس"، فيما يستفسر بنفسه حول ردود الفعل عن التجربة، والتي دائمًا تأتي بالإيجاب، أما في حالة تساؤلات لعدم وجود أحد المرضى خلال الزيارة "بنفهم الأهالي إن أولويتنا راحة المريض، وإنه مش بالضرورة حالته وحشة، لكن بيبقى لسة واخد دواء أو الكلام والحركة في اللحظة دي ممكن يضره".

يسعد وكيل المستشفى حينما يلمس أثر التجربة على نفوس المرضى، وكذلك ذويهم، فيما كانت الإشادة من المسئولين أيضًا بنجاح التجربة، إذ افتتح الدكتور سعد مكي وكيل وزارة الصحة في الدقهلية، التجربة في مايو الماضي، فيما تواصلت وزيرة الصحة، الدكتورة هالة زايد مع شرف الدين وباقي الفريق "وقالت لنا إن التجربة هيتم تعميمها على باقي المستشفيات".



العودة للمقدمة