كان الوضع مُربكًا بالنسبة لأحمد حمدان؛ حين طلبت سيدة سورية أن ترى وجه ابنها لتُخفف وحشة المرض، لم تكن تعلم إلى متى سوف تُقيم داخل مستشفى أبو خليفة بالإسماعيلية، بعدما أُصيبت بفيروس كورونا. لم يُكن بُدًا من أن يبتكر المشرف العام على المستشفى، برفقة الطاقم الطبي، وسيلة تُمكّن المصابين من التواصل مع عائلاتهم.
في عهد كورونا؛ لم يكن ثمّة أمل للاطمئنان على حالة المريض داخل مستشفيات العزل، سوى الطاقم الطبي؛ لا تنقطع هواتفهم عن الاتصالات، يُجيبون عن الاستفسارات، يُصبحون الوسيلة الوحيدة للمُصاب للتواصل مع العالم الخارجي، والفرصة الوحيدة لأهله لطمأنة قلوبهم، يُبذلون ما في وسعهم من أجل لحظة سكينة للمُصاب، ونظرة تروي اشتياق الأسرة.
فكّر حمدان برفقة زملائه، لم يكن بُدًا من إدخال هاتفه الجوال إلى غرفة العناية المركزة للسيدة السورية، لكن العائق كان في كيفية حماية أداته الوحيدة للتواصل من أن يمسّها العدوى "فكرنا أن التليفون يتحّط في كيس بلاستيك ويتقفل عليه كويس". بات النظام معروفًا لدى الطاقم الطبي، قبل أن يصعد الممرض إلى الغرفة، يتصل بأحد أفراد الأسرة، يطلب منه الانتظار حتى يتحرك إلى غرفة المريض "بكون أنا وقتها جوة في الغرفة، الممرض/ة بيجيب لي الكيس اللي جواه التليفون، وبيحصل التواصل".
عايش حمدان خلال تلك الفترة، مشاعر إنسانية لا تُنسى؛ أصوات متهدجّة فرحة لأنها استطاعت رؤية والدها المعزول لمدة أسابيع، انفراجة في ملامح المُصاب أخيرًا، حينما طّلت صغيرته عبر شاشة الهاتف "وأحيانًا كان المريض مبيبقاش قادر يتكلم، لكن عايز يسمع صوت أهله، فكنت أنا بتكلم معاهم وهو يسمع ردهم".
في مستشفى النجيلة بمطروح، كانت تُدرك مروة علي، رئيس طاقم التمريض، جيدًا أهمية التواصل "كنا أول طاقم طبي يستقبل صدمة كورونا، لأننا أول مكان استقبل حالات". لم يكن مُعتادًا فكرة العزل تمامًا، ما قبل عهد كورونا لم يكن هناك مانعًا من تواجد الأهالي بجوار المريض، لكن هذه المرة كان الوضع مُختلفًا.
من محافظات شتى كانت تستقبل المستشفى المصابين "فكرة كمان أن الأهالي بعيد كانت قاسية على الطرفين"، لذا حاولت مروة وباقي رفاقها في المكان أن تُصبح هواتفهم في خدمة المصابين "خصوصًا اللي مش قادرين يتكلموا، فكنا بنّوب عنهم في الرد وبنخليهم يسمعوا صوت أهاليهم".
في بداية الحالات في فبراير الماضي، لم يكن المرضى على علم تام بكواليس الوباء الجديد "وده كان وضع العالم كله، عشان كدة في ناس كانت بتفتكر إن أهلهم نسيوهم ومش راضيين يروحوا يسألوا عليهم، فكنا بنحاول نصلح الفكرة دي عندهم، ونخليهم يكلموهم عشان يفهموا الوضع".
كانت ترى رئيس التمريض السابق، كيف يتبدّل حال المرضى حين يسمعون أصوات أحبائهم، لذا تركت ورفاقها بالمستشفى أرقام هواتفهم لطاقم الإسعاف "لأن دي اللحظة الأخيرة اللي أهل المريض بيشوفوه فيها لمدة أسبوعين على الأقل"، يتطوّع المُسعف بترك أرقام فريق التمريض حتى لا ينقطع التواصل بين الأسرة والمُصاب.
على حساباتها بمواقع التواصل الاجتماعي، كانت تستقبل مروة رسائل عِدة، أحيانًا قبل أن تصل حتى الحالات إلى المستشفى؛ ذات مرة فتاة من الإسكندرية هاتفتها عبر تطبيق "ماسينجر" بشكل عاجل، تحكي لها أن والدها في الطريق إلى المكان "كانت مُنهارة وعايزة تطمن عليه، قولتلها أول ما هيوصل هطمنك"، وحين صار قادرًا على التواصل، كانت سببًا في أن تتحدث الفتاة لوالداها.
لا تنسى مروة تلك التفاصيل، رغم مغادرتها لمنصبها في مستشفى النجيلة للعزل، ووجودها وكيلة التمريض في مستشفى مطروح العام "لأن اللحظات دي كنت بحس إني جزء من عيلة أي مريض بييجي عندنا"، ولأنها لمست أثر الغياب على نفسها، حين مكثت في المستشفى أربعة أشهر دون إجازة واحدة لرؤية أسرتها "اللي كان بيهوّن إني بشوفهم وبسمع صوتهم حتى من ورا شاشة، فكنت عارفة إن التواصل مهم، ومينفعش نحرم حد منها".
كذلك يؤمن أحمد حمدان، أن في التواصل النجاة من الألم النفسي، حاول بطرق مختلفة ألا يغيب المصاب عن أهله "أحيانًا خلال مكالمة التليفون، كنا نخلي الحالات الداخلي اللي بتتحسن، تطلع الشباك وتشوف أهلها من ورا سور المستشفى"، أما الحالات التي تُحجز في العناية المركزة، فكان يُراقب أيضًا كيف يتبدّل حالهم بعد استقبال مكالمة "وبعد ما يسمع صوت عيلته، حتى لو مش قادر يرد عليهم، في ناس كانت أخر نظرة له على أهلهم من خلال تليفوناتنا".