ذات يوم في عام 1982، وبينما كانت الحرب الأهلية تقطع أوصال لبنان، وصل نبأ صادم لشابة لبنانية تُدعى زينب، علمت أن زوجها اختطف بينما كان متوجهًا إلى العاصمة بيروت، لأن الحافلة الصغيرة التي كان يستقلها ذهبت إلى منطقة لم يجدر بهم التواجد فيها لأنهم لا ينتمون لطائفة أهلها.
نقل السائق الخبر إلى زينب، 26 عامًا وقتذاك، وعائلته ثاني أيام الاختطاف، ثم انقطعت أخبار محمد تمامًا، "ما بنعرف وين راحوا، وين أخدوهم، اتعذبنا وبكينا لكن لسه عندي أمل"، ولا تزال حتى الآن وبعد مضي نحو ٤٠ عامًا على غياب حبيبها مُتشبثة بهذا الأمل.
استقل مُحمد وستة شباب آخرين سيارة صغيرة مُتجهين إلى بيروت المُحتقنة بالأحداث الدموية والفوضى الأهلية، وفي الطريق أوقفتهم جماعة علموا أنها تابعة للسياسي سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية وقتذاك، طلبوا من الجميع النزول باستثناء السائق وهددوه عندما حاول التوسط للرجال، وطالبوه بالرحيل فورًا حتى لا يحتجزوه هو الآخر.
ما إن وصل النبأ الصادم إلى العائلة، توجه والد زينب إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن الحادث، فأخبره الضباط أنهم لن يستطيعوا فعل شيء لأنهم لم يبلغوا عن الواقعة مباشرة. كما الابنة كان والدها مُتشبثًا بالأمل، تردد الوالد على كل مكان قد يساعدهم على اقتفاء أثره لثلاث سنوات، "كلهم بيقولوا بكرة هنرد عليك، بكرة هانقولك، وضلينا على هذا الحال سنين".
في صباح آخر أيامه بالمنزل استيقظ الشاب وقطّع بعض الخشب، وتناول الشاي رفقة زوجته، وفي المساء ارتدى قميصه الأبيض النظيف وسرواله الأسود، وذهب لحضور حفل زفاف أحد أقاربه، ووّدع الجميع، واستعد للرحيل، مُتجهًا إلى بيروت بحثًا عن فرصة عمل، تؤمن له دخلاً يسمح لهما بالانتقال من منزل عائلته في بلدة المشرف إرضاء لزوجته، تتذكر زينب أن "النهار اللي هو مشي وراح فيه على بيروت، كان بيقعد يقولي إنه ما تزعلي، وشو بدنا نعمل، وبكرة بدنا نمشي".
بقي البيت كما هو، يحوي الأثاث الذي استخدمه الزوجان في الفترة التي جمعتهما، حتى مرّ على اختفاء محمد ستة أشهر، وقتها قررت عائلته أن تُخلي المنزل وتحتفظ بما به من أشياء، شعرت كأنهم فقدوا الأمل من عودته، لكنها لم تيأس.
بعد مرور عامين على اختفائه طرق أهل محمد أبواب المُنجمين، تقول زينب "راحوا عند ناس بيشوفوا الكف ويقروا الغيب، وأخبروهم أن ضالتهم في إسرائيل"، لم يكذب حماها خبرًا، وأرسل أشخاص إلى الأراضي المُحتلة، ولكنهم لم يجدوا للمفقود أثرًا.
مثل المجنونة تغدو زينب عندما تتذكره، تضحك وتبكي، ذكريات الماضي أصبحت تُشقيها، تُذكرها بالحياة التي خططا تفاصيلها معًا، تدفعها إلى التساؤل عما كان سيبدو عليه الوضع لو أنهما لم يفترقا.
قبل زواجهما بعدة أشهر، كانت تُحدّث زينب نفسها وتُخبر حبيبها بالحياة التي تحلم بها، وعقدا النية على أن تكون مُختلفة عن الجميع، يعملان معًا هي بتفصيل الملابس وهو بأي وظيفة شاغرة يعثر عليها في زمن سيطرت فيه البطالة على أسواق العمل: "كنا عم نحلم إنه نعمر بيت، ورغم أن الحرب شغالة، بس نحنا كنا مبسوطين وعايشين، وكنا بنروح نسهر، ما كان بيحب التنكيد".
تعلّق محمد بزوجته كان واضحاً للجميع، ولم يخجل من إظهار مشاعره تجاهها أمام أهله وأبناء قريته، حتى إن أحد أقاربه طلب منه ألا يُطوق رقبتها بذراعه طوال الوقت، فيرد بفخر "هيدي مرتي ما حدا يتدخل فينا".
تمنى محمد إنجاب طفل وتربيته تربية صالحة كي "يروح الجنة من وراه"، لكنه لم يكن حاضرًا عندما علمت زينب بحملها بابنتهما الوحيدة داليا، ولم يشهد لحظة إنجاب الرضيعة التي أصبحت امتدادًا له في الدنيا.
مرّت الفترة الأولى بعد الإنجاب بصعوبة، كانت قاسية على زينب، ليس بسبب الألم الجسدي، ولكن الألم النفسي الذي شعرت به لغياب حبيبها عنها كان لا يُحتمل، لعشرة أيام لا تستيقظ من نومها إلا لتناول الطعام وتعاطي الأدوية، "كنت مبسوطة ظاهرياً بس من جوه ولا شيء".
رغم ما اتسمت به من صبرِ وجَلد إلا أنها كانت تجزع وتفقد رباطة جأشها في بعض اللحظات، خاصة عندما يتعلق الأمر بابنتها، سألتها داليا عن سبب غياب والدها، لماذا لا يزورها في المدرسة ويتفقد أحوالها هناك كما يفعل باقي الآباء.
استقت داليا معلوماتها عن والدها من خلال حكايات الأهل والمعارف، وحفظت ملامح وجهه من صور تذكارية، وثقت بعض لحظات حياته، ولازمت والدتها طوال عملية البحث، شهدت كافة جهود زينب للعثور على الغائب، وبدورها أطلعتها الأم عن مُستجدات ما يجري، "كنت بخبرها كيف عن نبرم وندور عليه".
خلال رحلة البحث التقت زينب بعدة أشخاص، أبرزهم حنّا خضرة. بعد مرور عامين أو ربما ثلاثة على اختفاء محمد، زار خضرة منزل الزوج المفقود، وقابل والدته وتحدث عن إمكانية تدبيره لمقابلة تجمعهم بسمير جعجع، وأخبرها عن الصندوق الذي يملكه السياسي اللبناني ويمتلئ بهويات المختطفين، والذي ربما يضم هوية محمد، فذهبت معه الأم إلى حريصا، مركز الموارنة اللبنانيين وزعيمهم جعجع، لكن المحاولة باءت بالفشل.
كرر خضرة عرضه مرة أخرى، ولكن زينب رافقته هذه المرة، ذهبت مع الرجل هي وابنتها التي كانت في الثالثة من عمرها، وانتظروا جعجع من الصباح وحتى الثالثة بعد الظهر، وفي النهاية اعتذر عن عدم مقابلتهم لانشغاله مع ضباط إسرائيليين، بعدها انقطعت أخبار خضرة، ولم يعرف عنه أحد شيئًا.
دب الأمل في نفس الزوجة مرة أخرى مع إعلان إسرائيل عن صفقة تبادل أسرى والإفراج عن جثث لبنانيين حملت زينب ابنتها، وذهبوا إلى النبطية، على أمل أن يكون محمد أحدهم، "قعدنا من الصبح لحد 5 مساءً، من غير ولا أكل ولا شرب، وما لاقينا شيء".
عندما لم تجده بين الأسرى قررت البحث عنه بين رفات الشهداء، "قولت لنفسي شو راح يصير؟"، فأخذت نفسًا عميقًا، وذهبت إلى مكان وجود الجثث، لكنها لم تقوَ على استكمال المهمة؛ فالوضع كان مزريًا، والرائحة التي خرجت من أول صندوق لرفات الضحايا أفقدتها وعيها، وطرحتها أرضًا.
لا تزال السيدة التي أكملت عقدها السادس تنتظر أي خبر عن رفيقها، استمرت جهودها للبحث عن زوجها الغائب حتى وقت قريب، زارت زينب مُحامية شهيرة، وقدمت لها تقريرا يضم كل التفاصيل، اتهمت فيه جعجع باختطاف زوجها، أخبرتها المُحامية أنها سوف ترفع قضية ضد السياسي اللبناني المُخضرم، لكن شيء لم يحدث.
طوال هذه الفترة أعرضت زينب عن الزواج، ورفضت عروض العمل والانتقال إلى مكان آخر، والتي كان من ضمنها عرض للعمل خياطة لأميرة سعودية، وحتى هذا الوقت تطلق العِنان لخيالها "بتخيل إنه يمكن أكون قاعدة مثلًا، وييجي عند أمي ويدق عليها الباب، ودقنه هيك وشكله هيك، وييجي يسألها وينها بنتك، وراحت فين، وبعدني بحلم هالحلم، وبعدني بقول يمكن يرجع".