تتذكر وعد التفاصيل كأنها أمس؛ الصفوف الطويلة لمدنيين يحملون حقائب الرحيل، الخطوات المتثاقلة لمغادرة حلب، لعب الصبية للمرة الأخيرة في المدينة السورية، نظرة المسنين الواهية لما تبقى من بيوتهم، دفء جسد ابنتها بين ذراعيها، ويد زوجها حمزة إذ تحتضن يديها. مازال المشهد يُلقي في قلبها حزنًا، تُحاصرها ذكريات إجلاء أهل المدينة السورية، لكن طُمأنينة تنتشلها فجأة؛ تُدرك أن الحرب سلبت منها الكثير، وفي المقابل أعطتها رفيق العُمر.
منذ اليوم الأول آمنت وعد بالثورة السورية، كانت تدرس الاقتصاد في جامعة حلب وقت اندلاع التظاهرات في مارس 2011، انضمت الشابة لها، انخرطت في العمل السياسي "وقتها قابلت حمزة في إحدى التنسيقيات وكنا نعمل سويا".
قبل الثورة تلخصت أحلام وعد في السفر للخارج لإكمال دراستها، وبمجرد قيام الثورة ألقت ذلك وراء ظهرها. كان حمزة موجودًا في محيط وعد، ليس للعمل فقط "لأنه كان فيه أصدقاء مشتركين بينّا"، اعتبرته زميل، لم تتطور العلاقة إلا عندما تم تضييق الحصار على حلب، إذ انتقلت الشابة للجزء الشرقي من المدينة دون أهلها، واضطرت للعيش في مستشفى حلب لأنها آمنة نسبيًا، وهي المكان حيث يعمل حمزة طبيبا "كنا كعائلة واحدة.. حمزة كان الأخ والصديق والأب".
الحرب تُبدل الحياة، تكشف الجانب القبيح للأمور، وتُمحص الجيد. الفترة التي قضتها وعد في المستشفى كانت الأصعب؛ عشرات يموتون يوميًا، عائلات تُباد، مؤن محدودة وأمل ضعيف في القادم، وعد وحيدة دون أهلها تمر بظروف قاسية "هاي الفترة اللي قربنا فيها أكتر لحد ما قررنا نرتبط في 2014"، لم يتردد الرفيقان في اتخاذ القرار "كنا مدركين إن وجودنا بجانب بعض هو القرار المضبوط"، تعرّف أهلها على الزوج عبر تطبيق سكايب وبدأ التحضير للزواج.
قبل الثورة السورية، كانت وعد ترسم أحلامًا كغيرها من الفتيات "عُرس كبير ومعازيم كتير"، تبدّل ذلك تمامًا "التحضيرات كانت جدا بسيطة وسريعة والإمكانيات شبه منعدمة"، استعارت الشابة فُستان زفاف صديقتها، كان الحضور عدد محدود من أصدقائهم "حفلة صغيرة جدًا لكن بسيطة وجميلة لأن أنا وحمزة كنا نبدأ حياة جديدة سويًا".
في تلك الفترة كانت حلب مُحاصرة، لكن وعد وحمزة حاولا عيش حياة طبيعية؛يستيقظان صباحًا، يذهب الزوج لعمله في المستشفى، فيما ترافقه هي أو تخرج للشوارع لتصور أو تُغطي الأحداث، ثم تعود للمستشفى لُتجري مقابلات أو تُراقب الوضع "كنا عندما نعود للمنزل نُشغل فيلما نشاهده سويا كأي زوجين ونتحدث عن عملنا"، أحيانا كانت وعد وزوجها يجتمعان بالأصدقاء، أو يقضيان الليلة في قبو المنزل أو بالمستشفى خوفا من القصف، لم تتوقف الحياة في حلب يومًا، عكّر الموت صفوها كثيرًا، وجعلتها الحيوات الجديدة قابلة للاحتمال.
في بداية الزواج، اتفق وعد وحمزة ألا يُنجبا، كان إحضار طفل لتلك الظروف أمرًا قاسيًا، لكن عقب 3 أشهر من الزواج "اتفقنا إنه بدنا نستقر بحلب... بالتالي علينا إنشاء حياة هُناك"، غير أنهما اتفقا على أمر آخر لمصلحة الطفل "لو أحد الطرفين قرر الخروج فيجب على الشخص الأخر أخذ القرار أيضًا"، في تلك الفترة ساد الهدوء الحذر حلب "كانت السلع متوفرة في حلب بأسعار أغلى والحياة شبه عادية".
لم يكن حمزة ووعد الوحيدان الذين قررا الإنجاب وقت الأزمة "حلب كانت مليئة بالأطفال.. نراهم يلعبون ونسمع ضحكهم.. ربما وجودهم هو ما هوّن الظروف".
علمت وعد من اللحظة الأولى أن الحمل سيكون مجازفة، خاصة عندما اُصيب جزء من المبنى الذي تُقيم فيه بصاروخ "انتابني شعور أن حياتي وحياة الجنين وزوجي قد تذهب في أي وقت"، اضطرت في بعض الأوقات للبقاء في المنزل بمفردها "كنت اُشغل الموسيقى بصوت عالي كي لا أسمع أزيز الطائرات وكي لا تسمعها ابنتي في بطني".
بشكل دوري وخلال الحمل، خرجت وعد للشارع لتوثق أحوال المدينة، ورغم حُبها للتصوير، مرت بلحظات مُرعبة "بتذكر أثر المذابح على الأرض وركض الناس من حولي لإنقاذ المصابين"، التواجد في تلك الأحداث زرع فيها الفزع "ساعدني الشعور بابنتي وهي تركلني من داخلي، وأنه رغم الموت والدمار هناك أمل سيرى النور يوما ما". الحمل جعل قلب وعد أرق، دفعها وحمزة لرؤية الحياة بشكل جديد، كل شيء بات له معنى أعمق؛ الثورة والحُلم والموت والسعادة التي جلبتها "سما" حين وصلت للدنيا.
علاقة وعد وحمزة أصبحت أقوى كذلك "كنت أنا وحمزة مهما يمر بنا طوال اليوم.. نلعب معها آخر اليوم فننسى"، الولاد كانت عسيرة؛ المستشفى الوحيد بحلب غير مجُهز سوى بالأساسيات، غير أن سما وُلدت مُعافاة، احتفل بها جميع العاملون في المكان كما احتفلوا بزواج الرفيقين من قبل، اعتبرتهم وعد أهلها هي وزوجها، لذا حينما قُتل الطبيب وسيم مُعاذ الذي قام بعملية الولادة، حزن الزوجان كثيرًا.
مقتل الطبيب تزامن مع بدء الحصار على حلب من قبل الطيران السوري والروسي، استمر الأمر 6 أشهر، ضاقت المدينة بأهلها، ضعفت المؤن واُحكم القصف، حوصر الموجودون في مساحة لا تزيد عن 2 كيلومتر، حسبما تحكي وعد "تعرضنا لقصف صباحا ومساءً"، كان الخروج هو الحل الوحيد.
بعد المفاوضات وتحت رعاية الصليب الأحمر الدولي، تم إجلاء حوالي 25 ألف مواطن في حافلات نقلتهم للحدود في ديسمبر 2016، لم تمتلك وعد وحمزة وقتًا طويلًا ليودعا المدينة، جمعت الشابة ما استطاعت "الأشياء التي لها معنى عندنا وليست ثقيلة"، قيل لهم إن الطريق آمنة للخروج، لكن لم يصل الجميع للحدود سالمين، قضت الأسرة 3 أيام في البرد القارس انتظارًا لدورهم في العبور، استرجعت وعد كل التفاصيل دُفعة واحدة؛ كيف التقت حمزة، كيف زيّنا منزلهما سويًا، وكيف تركاه فجأة رُغمًا عنهما، ولولا الإجلاء ما خرجا.
حملت وعد معها المادة التي صوّرتها على مدار الأعوام، سجّلت انطباعات أهل المدينة، وثّقت أوقات الحمل وما بعد ولادتها، وحينما سنحت لها الفرصة صنعت فيلمها الأول "من أجل سما" الذي فاز بجائزة البافتا كأفضل وثائقي ورُشح للأوسكار عام 2020.
يحكي الفيلم مأساة وعد وحمزة وغيرهم، يروي حكاية الثورة التي تحولت لحرب، يسرد تفاصيل الذين قضوا نحبهم، والذين انتظروا النصر، يحتفظ للابنة بقصة لقاء الأب والأم، حُبهما المولود في التظاهرات والمستمر بعد الإجلاء والغُربة "ننتظر الرجوع.. وهادا الحلم الكبير ياللي نعيش فيه".
أزمة حلب
400 ألف شخص
عدد المشردين داخليا في مناطق الحكومة بحلب
35 ألف مواطن
عدد من تم اجلاؤهم من شرق حلب عام 2016
تضرر المساكن
أكثر من 302 ألف وحدة سكنية دُمرت بنهاية ديسمبر 2013
3.07 مليون نسمة
عدد سكان حلب حتى 2013
2,003,671 مليون نسمة
عدد سكان حلب 2021
المصدر- الأمم المتحدة ومنظمات مجتمع مدني