كل ليلة، تنسج مها أبو الكاس ووريف قاسم الأحلام، يتخيلان قطاع غزة دون الحرب، تبني الزوجة خططًا أجمل؛ لا وجود فيها للقصف الإسرائيلي، لا اختباء داخل أقبية المنازل، أو حقائب مُجهزة للهرب في أي لحظة، يتوق الرفيقان لحياة عادية، تحمل حتى قدرًا من الرتابة والملل.
في قطاع غزة تختلط الأدوار، يبذل وريف ومها جهودًا ضخمة للحفاظ على استقرار الأسرة، يساعدان بعضيهما رغم اختلاف عمليهما وجنسيتهما، تناوبت عليهما الحروب غير أنهما ما أفلتا أيديهما، ظلا على العهد "هو بني ادم صلب.. والمواقف هي اللي بتحدد مدى قوة الارتباط، وهدا الشيء اللي انا ووريف محافظين عليه، يعني زي ما بيقولو في السراء والضراء".
عام 2012 هرب وريف من مدينة حلب السورية لغزة، رأى الموت مرات عديدة في وطنه، تمنّى لو يفر لمنطقة أكثر أمانًا، إلا أن الظروف لم تسمح له، كان الشاب غاضبًا "مكشر وممتعض، بحكم انه دولة جديدة ومجتمع غريب عليه، ومكنش متوقع ان الظروف في غزة تكون بهذه الطريقة"، تغيرت نظرته للأمور مع الوقت، حين قابل مها.
تعمل مها مُراسلة صحفية لقناة فرانس 24، أرادت أوائل 2013 عمل تقرير عن نجاح السوريين في المطاعم بغزة "ساعتها قابلت وريف لأنه شيف بأحد الأماكن.. ولفت نظري الاسم ولما سألته قاللي إنه معناه النسيم العليل".. حينما زارت مها المطعم للمرة الثانية زادت مساحة الحديث بينهما، قبل أن يطلب مقابلتها بشكل شخصي "وقال لي بدي أتعرف عليكي لأني عايز ارتبط بيكي"، أحبت مها صراحة وريف لكنها خافت كذلك، رفضت المقابلة عدة مرات ووافقت في النهاية، تضحك الشابة متذكرة ذلك اليوم "اتفاجئت إنه جايب الوالدة، وكان موقفي كتير مخجل، لأني ما كنت حاكية لأمي، وقال لي انا بلغت الوالدة عشان اقدر احكي معاكي دون خوف".
عادات وتقاليد مها ووريف متقاربة، أدركت ذلك مع اللقاء الأول، سأل والدها عنه في منطقة سكنه بغزة، فيما تمسك الزوج بضرورة إحضار أحد معه ليتقدم لخطبتها "ماكنش معه حدا من أهله فجاب أصحابه وجه البيت"، لم يكن والد مها متطلبًا، استثنى الشاب من التفاصيل المادية المرهقة، حتى "إننا معملناش عُرس كبير.. أهل وريف مكانوش موجودين وانا ما بحب الأعراس"، تم الزواج في مايو 2014 بصورة بسيطة "مجرد عشا مع العائلة واتصورنا على البحر".
يعلم وريف طبيعة الوضع في غزة "هو جاي من حرب.. بالعكس أحيانا بحس إنه عارف الحرب أكتر مني حتى"، عقب شهرين من الزواج اشتعلت القدس الفلسطينية بسبب حرق مجموعة من المستوطنين للطفل محمد أبو خضير في صيف 2014، قامت الحرب بين الاحتلال وحركات المقاومة الفلسطينية بغزة في يوليو "هنا بدأت الأمور شوي تختلف.. بدأنا نتضغط".
لدعم النفسي دستور العلاقة بين وريف ومها "انا بحب عمل وريف وهو بيقدر شغلي وبيساعدني". عندما اضطرت مها لتغطية الحرب في غزة، كان الخطر مُضاعفًا "كوني مواطنة وصحفية"، انتقل الرفيقان لفندق لأنه أكثر أمنا من المنزل، أحيانا اضطرا للنوم في مكتب القناة، غير أن مها لم تشعر يوما بامتعاض وريف "الأشخاص المرتبطين عن حب وقناعة، بيكونوا عارفين إنهم هايمروا بمطبات في حياة، مطبات حلوة، ومطبات ممكن تكون مزعجة وصعبة كتير".. لم يتوقف الأمر حد ذلك، قرر الزوج النزول رفقة مها للشارع والتغطية.
"كان بيلازمني زي ضلي، رجلي على رجله طوال الوقت حتى في مسيرات العودة"، خافت مها في البداية من تواجد وريف معها "عشان ميتعرضش لأي أذى أو ضرر"، وفيما بعد أصبح قلبها أكثر اطمئنانًا عندما يترافقان.
حين تحكي مها عن وريف، تتهادى كلماتها واصفة إياه، نقاطهما المشتركة والاختلاف "هو بيتوتي متلي واحنا الاتنين بنحب الموضة ونتابعها"، فيما ولّد اختلاف اللهجة بعض المواقف المضحكة "الكلام الحلبي كان صعب جدا عليا، لا يمكن انسى انه اول يوم اتجوزنا فيه كنت بسأله على شغله قالي كوهاك، ماعرفتش ايه ده، قالي كوهاك يعني هناك"، احتاج الاثنان وقتا ليعتادا المصطلحات، لكن مشاعرهما باتت أكثر ألفة، خاصة حينما وضعت مها ابنتهما.
الحرب طحنت أحلام وريف بغزة؛ دمر قصفٌ مطعمه، وأكملت الأزمة الاقتصادية عليه "افتتح كذا مطعم وما نجح المشروع فاضطر يقفله"، حرمه ذلك من الدخل الثابت، لكن أعطاه خبرة وعرفه سكان غزة "إنه شيف سوبر ستار". الأيام في القطاع كثيرٌ منها ثقيل، لكن وريف ظل يسند مها حين تحتاجه، يستيقظ قبلها في بعض الأيام ليتابع الأخبار، يوقظها إذا وقع أمر جلل، يساعدها أحيانًا في البحث ويُمسي هو قلعة تختبئ فيها حين تضيق ظروف العمل، كما حدث في أغسطس 2014.
كانت مها تقوم بدورها كمراسلة في غزة، وقتما انطلق صاروخ من مكان قريب "ساعتها جيش الاحتلال بعت لكل الجهات الصحفية إنه المراسلين يخلوا أماكنهم"، تحفظ الزوجة التفاصيل لأن تلك الليلة وافقت عيد ميلادها "قضيناها في قبو مبنى خوفا من القصف وحصلت مجزرة في رفح"، لم يتوقف الأذى؛ ففي اليوم التالي اقتطعت بعض المواقع العبرية فيديو أثناء تغطية مها وروّجوا أنها تفضح أماكن انطلاق الصواريخ من غزة؛ كادت تتعرض لمساءلة قانونية "ناس اتهموني بالخيانة والعمالة.. كان فيه ضغوطات لأني غزاوية قبل ما أكون صحفية"، طغى التوتر على حياتها في هذا الموقف وأخرى لاحقة، ولم يهون الأمر دائمًا إلا وجود وريف.
في منزلهما ومع كل حرب أو تصعيد، يستعد الرفيقان لأي احتمال، يضعان كل أوراقهما الرسمية وبعض الملابس والأغراض الأساسية في حقيبة، ويتركانها قُرب الباب "الشبابيك دايما مقفولة ببيتنا، موبايلتنا والأجهزة الهامة مشحونة طوال الوقت وطبعا الأدوية والإسعافات الأولية جاهزة"، أحيانا تشعر مها بالأسى تجاه وريف "إنه يهرب من بلد حرب فيضله مستقر ببلد تانية فيها حرب"، بينما يفاجئها ثباته كل مرة "انا في الحرب ما بنام، وكنت أروح لوريف ألاقيه عادي، مابقدرش استوعب هادا، وبحس بالحزن لأنه بالتأكيد شاف أشياء أصعب كتير"، لم تختلف تلك التفاصيل مع كل حرب تمر بغزة، من بداية زواجهما وحتى الحرب الأخيرة في مايو 2021، التي أدت لمقتل أكثر من 243 مواطن وإصابة الآلاف.
في مايو الماضي كانت مها تقوم بعملها المعتاد كمراسلة صحفية، وحين اشتعل أزيز القصف باتت الصعوبات مضاعفة "أصعب حرب مرت عليا، خاصة وان بنتي صار عمرها اربع سنين ونصف تقريبًا، كانت بتفهم وتستوعب وبتخاف من أصوات الانفجارات والقصف والاستهداف"، كان الإرهاق مضاعفا، اضطرت الأم للتنقل طوال أيام القصف الأحد عشر بين المكتب والشارع لتغطية الأحداث " كنت أطلع على الشغل وابات برة البيت، والبنت مع والدها وتكون بتعيط وخايفة وتصير تسألنا.. كنا نقول هادا عُرس وزفة وهايدي ألعاب نارية"، ورغم أن الأم والأب يعملان على تأهيلها نفسيًا "لكنها إلى الآن يفزعها أي صوت مرتفع متل أيام الحرب بالضبط".
قضى الزوجان والابنة تلك الأيام في غرفة واحدة "لحتى إذا إجانا قصف بنموت سوا.. ظروف كتير قوية وصعبة" لكنها لم تزد علاقتها بزوجها إلا ثباتا وقربا "وهايدا أمر منطقي لأن وريف شخص قوي".
أحيانًا يقص وريف على مها تفاصيل حياته بحلب، يصف لها المدينة ويحدثها عن عائلته، تلمع عينيه حُزنًا وحنينًا "بس هو إجا على غزة بحقيبته فقط وأثبت نفسه.. الشخص اللي يترك كل شيء مدمر ويبدأ من جديد بالتأكيد قوي"، لا يملك الزوج للأسف حُرية الحركة بسبب جواز السفر السوري "وإنه كمان ما معه جنسية فلسطينية".
لم تسلب الحرب أماني الزوجين وإنما علقتها، لا يتمنيان سوى مرور الأيام بسلام "وبنحلم بأمور واقعية: إنه الكهربا تفضل 24 ساعة، إنه نسافر إجازة والمعابر تنفتح، إنه يبطل فيه حروب وتصعيد".
المصدر- وزارة الأشغال الفلسطينية - وزارة الاقتصاد الوطني - الأونروا - تقرير التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة 2020