"لما حسينا حالنا طولنا والله خجلنا من الناس" أقامت عائلة رنا رفقة أقارب لهم بالمحافظة الوسطى، لم يمكثوا إلا أيامًا قليلة حتى شعروا أنّ عليهم البحث عن مكان آخر، خاصة وأنّ الحرب جعلت الجميع يعيش ظروفًا صعبة لذا طلبت العائلة الخروج، لتستقر في رحلة نزوح أخيرة داخل خيمة في مخيم إيواء بالمحافظة الوسطى يستقرون بداخلها إلى اليوم.
رمضان هذا العام لم يكن كسابقيه على الفتاة العشرينية وعائلتها، فالتواجد داخل خيمة في ظل حرب إبادة وتجويع جعل بعضهم يتمنى لو لم يأت رمضان، طقوس الثلاثين يومًا تبدلت أحوالها، في السابق كان الشهر يمر وسط تجمعات العائلة وزيارات الأصدقاء وتناول أشهى الأطعمة، اليوم رحل جزء كبير من العائلة وتشتت الأصدقاء حتى الطعام لم يعد متوفرًا " أنا فعليا لأول مرة في حياتي أكون مش عايزة يجي رمضان".
"احنا كنا عيلة بنجنن".. في منزل العائلة بمخيم جباليا الأعوام السابقة خاصة بعد زواج الفتاة، كان رمضان يأتي وسط تجمع الفتاة رفقة عائلة زوجها في أول يوم، يتسامرون ويضحكون كانت حياتهم بسيطة هادئة، أجواء رمضان كانوا يستعدون لها قبل نحو شهر من قدومه، يجددون محتويات المنزل لتناسب بهجته، يعلقون الزينة في المنزل وخارجه يشترون الفوانيس لإدخال السرور على قلوب الأطفال، يشترون أنواع عدة من الطعام والمعلبات لتناولها بالإفطار والسحور، "كنت عالفطور لما بدك تقومي تحطي مليون صنف عشان تاكلي. سبحان الله صح الوضع المادي بغزة صعب بس رمضان كان يجي خيره معه".
اليوم، تبدل الحال قُصفت الدار وتشتت أصحابها بين أرجاء القطاع، استقرت رنا وطفلاها وزوجها داخل خيمة صغيرة في دير البلح، فيما نزح ما تبقى من العائلة بأماكن مختلفة، مع قدوم شهر رمضان وفي أيامه الأوائل كان الوضع صعبًا على الفتاة التي لم تسلم من أسئلة ولديها عن الشهر الفضيل، والطقوس التي اعتادوا فعلها في السابق.
تبدأ "رنا" يومها في رمضان بالخيمة في وقت مبكر، من أجل الوصول إلى دورات المياه والتي ليس من السهل الوصول إليها، لتعود بذاكرتها إلى رمضان الماضي، حيث كانت تستيقظ على موعد آذان الظهر، تنتهي الفتاة من تلك المهمة لتبدأ في مهمة أكثر صعوبة وهي الحصول على المياه في ظل ندرتها، وبعد ذلك تسعى لتوفير الطعام من أجل تجهيز الإفطار لزوجها وأبنائها، والذي يكون في الغالب من "المعلبات"، السلع الوحيدة المتوفرة في القطاع
"ابني بيحكيلي ماما هاد رمضان اللي كنا نجيب فيه عصير كتير، بحكي له يا ماما ما معنا مصاري نجيب عصير".. طفلا رنا اللذان لم يتجاوزا العاشرة من عمرهما، يدركان جيدًا معنى قدوم شهر رمضان، حيث الطعام والعصائر و والبهجة والزينة واللعب بالشارع، الأشياء التي يفتقدونها بالخيمة، ومع تكرار الأسئلة حول لماذا لم يعد لدينا هذا الشيء؟، تأتي إجابة الأم المعتادة: "ما معنا مصاري للشراء"، في محاولة دائمة لإقناعهم أنّهم في وضع غير معتاد، حتى أنّ أحد الصغار اتهم الأم أنّها لم تعد تُحبهم كونها لم تجلب لهم ما يشتهونه من طعام وألعاب التي اعتادوا عليها خلال الشهر الكريم.
الفطار والسحور بالخيمة وجبتان لا خلاف بينهما كثيرًا، فالمعلبات هي الطعام الوحيد على المائدة منذ بداية الحرب، حتى أنّ زوج "رنا" حاول الذهاب للسوق مع بداية الشهر، لشراء علبة مربى أو حلاوة وكمية صغيرة من التمور لأطفاله، لكنه عاد محملا بخيبة أمل كبرى، بعد مشاهدة الأسعار، ما دفع الفتاة لمحاولة إقناع صغيرها بأنّهم لن يتناولوا سوى المعلبات، والتي قبل أسابيع قليلة تسببت في إصابتهم بأمراض حتى أنّ الأطباء منعوا "رنا" من تناولها لكن لا خيارات أخرى سواها، "احنا عنا خمس شهور منعرفش شو يعني اللحمة".
الأزمة لم تكن في الطعام والشراب فقط، بل تجمع العائلة كان طقسًا هامًا تفتقده رنا حمادة وعائلتها الصغيرة داخل خيمتهم بالدير، فالصغيران لم يدركا حتى اللحظة أنّ عمهم "حسن" الذي يفضلان تناول طعام الإفطار معه، ويرافقانه لصلاة التراويح بالمسجد، استشهد رفقة زوجته وابنته، حتى أنّهم خلال الأيام الأولى من الشهر كثر حديثهم وسؤالهم عن عمهم "حسن" ومتى سيأتي لتناول الطعام معهم وقضاء يوم في رمضان ولو داخل خيمتهم الصغيرة، "أنا كيف بدي أفهم هذا الطفل، كيف بدي أقنعه إنه مستحيل تشوفه بعد اليوم".
في لحظات الضعف تتمنى رنا حمادة لو أنّها لم تُنجب أطفالًا، في ظل المعاناة التي يعيشها صغيراها بسبب حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال، خمسة أشهر تعيشها الفتاة وعائلتها في ظروف مأساوية، اعتقدوا أنّ هذا الأمر سينتهي قبل قدوم رمضان، وأنّهم سيقضون الشهر المبارك بمخيمهم ولو جلسوا على أنقاض منزلهم المهدوم، لكن جاء رمضان دون عائلة وزينة وطعام وشراب وصلاة تراويح بالمسجد المفضل لديها، جاء رمضان ولم يخرج صغارها لمشاهدة الألعاب النارية والذهاب للملاهي كعادة كل عام، جاء رمضان وكأنّه لم يأت على رنا حمادة وأسرتها.
لم تكن رنا وحدها من تبدّل حالها بالشهر الكريم، الوضع لم يختلف كثيرًا مع الشاب مدحت حجاج صاحب الثلاثين عامًا، والذي يعيش حاليا داخل مخيم لجوء بمنطقة المواصي، إحدى المناطق التي زعم الاحتلال أنّها آمنة وطلب من أهالي القطاع النزوح إليها.
كان الشاب يعيش بحي الشجاعية شمالي القطاع رفقة زوجته وأبنائه الثلاثة، مع بداية حرب السابع من أكتوبر خرج الشاب من منزله لأداء مهام عمله الصحفي، وظل نحو 38 عامًا بعيدًا عن أسرته، لكن وفي ظل اشتداد القصف على منطقتهم قرروا النزوح للجنوب.
بداية رحلة نزوحهم كانت لمنطقة دير البلح، استقروا في خيمة بالمدينة الصغيرة لنحو شهرين، لكن الظروف كانت بالغة الصعوبة على الشاب وعائلته التي خرجت من المنزل بملابسها فقط، حتى معداته الصحفية خسرها بالكامل وبالتالي خسر عمله ومصدر رزقه الوحيد.
وبعد نحو 50 يومًا، اجتاح الاحتلال المنطقة التي يقيم بها الشاب وأسرته، وقصفها بغارات عنيفة اضطرته للخروج منتصف الليل نحو منطقة المواصي القريبة من الحدود المصرية الفلسطينية.
"في أول يوم رمضان لم نشعر أنه رمضان نهائيا، بل أنني أكثر من مرة أنسى أني صائم"، أسوة بغيره من المواطنين المحاصرين بالقطاع، فإن مدحت يواجه أزمة في توفير الطعام، بالرغم من أنّه لا يتمكن إلا من توفير المعلبات فقط، والتي من المفترض أنّها تدخل ضمن المساعدات لكنّه يشتريها من ماله الخاص، فالشاب صرف على الطعام الأموال التي ادخرها لسنوات من عمله خلال أسابيع فقط، بل إن الأمر ازداد صعوبة مع بداية شهر رمضان.
في السابق كان الشاب وعائلته يتجمعون على مائدة السحور أشبه بتجمعهم على الفطار، لكنّهم اليوم وبداخل خيمتهم الصغيرة من بداية الشهر لم يتناولوا السحور سوى مرة واحدة فقط، لم تقتصر معاناتهم بالخيمة على عدم توافر الطعام فقط، لكن آذان المغرب نفسه لم يعد متاحًا لهم سماعه، نظرًا لأنّ أقرب مسجد على مسافة بعيدة، حتى أنّ الشاب وجيرانه بالمخيم ينتظرون حتى سواد الليل ليتناولوا الطعام والشراب.
في السابق كان مدحت يمتلك طقوسًا خاصة في هذا الشهر، يصلي الفجر ويتلوا القرآن للشروق يذهب إلى عمله، ويعود منه إلى السوق لشراء احتياجات الإفطار، يساعد زوجته بالمنزل في تجهيز الطعام، يجلس مع عائلته يتسامرون ويتناولون الحلويات التي اشتهر بها أهل غزة في رمضان، تلك الأحداث أصبحت مجرد ذكرى للشاب، في الخيمة لا يوجد سحور يٌصلي الفجر ويبدأ يومه من السادسة صباحًا بالبحث عن المياه، وفي العاشرة يذهب للسوق للبحث عن أي طعام يشتريه لصغاره.
خيمة مدحت كغيرها من خيام أغلب نازحي القطاع، تخلوا من مظاهر شهر رمضان، الشاب اعتاد سابقًا أن يشتري فانوسًا لصغارة، لكنّه اليوم، لا يمتلك كهرباء حتى لتشغيله، كما أنّ أولوياته تغيرت كثيرًا فبسعر الفانوس يمكن أن يشتري خضروات للصغار يتناولونها بدلا من المعلبات، التي يتناولونها منذ بداية الحرب.
البحث عن الطعام وسط الخيام هو الذي يسيطر على تفكير مدحت حجاج خلال شهر رمضان وغيره لأنه الأهم بالنسبة إليه، ساقه القدر إلى "تكية خيرية"، حصل منها على إفطار بسيط يكفيه وصغاره لمدة يومين، على أن يُعاود من جديد البحث عن ما يتناوله صغاره الذين يعيشون أيضًا على ذكريات رمضان التي عاشوها خلال سنوات عمرهم الماضية، والتي اختفت تمامًا هذا العام وسط خيمة صغيرة يقضون بها أيامهم الصعبة على أمل العودة إلى منزلهم من جديد.