"كنت خايفه كإني ذاهبة للموت لكن خوفي الأكبر كان من الخطف والاعتداء علي".. مرت أيام على بداية الحرب واشتد القتال بالجنينة سُرقت ممتلكات المواطنين وحُرقت منازلهم واشتد الجوع بهم حتى كاد أن يخطف أرواحهم، وبات المكان الذي تعيش فيه الفتاة العشرينية مهددًا، لتُجبر فيما بعد على الهروب رفقة العشرات من أبناء الولاية الذين خرجوا حُفاة عُراة الرأس، فلم يكن هناك فرصة أمام السيدات للحصول على غطاء لرأسهن، فالموت كان يُحاوطهن من كل مكان.
وصلت "منال" إلى أحد مخيمات اللاجئين على الحدود التشادية السودانية، كانت الفتاة وحيدة لا تعرف أحدًا سوى صديقة لها بالجامعة، والتي قررت العيش رفقتها وعائلتها داخل خيمة صغيرة بالمُخيم، حاولت الوصول إلى عائلتها لكن صعوبة الاتصالات حالت دون ذلك لأيام، لكنّها تمكنت من الوصول إليهم فيما بعد والاطمئنان عليهم، لتحاول الفتاة فيما بعد التأقلم على الوضع الذي أُجبرت عليه وحيدة، "في تشاد كلاجئين الحياة صعبة مع إنها في الولايات السودانية لا تقل صعوبة".
بالأيام الأولى من النزوح كانت الأعداد كبيرة لم تستوعبها خيام المُعسكر الذي وصلت إليه "منال"، حتى أن العشرات منهم أصيبوا بأمراض خطيرة نتيجة الزحام الشديد، ما دفع بعض المنظمات المسؤولة لنقلهم إلى معسكرات أخرى أقيمت تباعًا على طول الشريط الحدودي مع تشاد، بينما استمرت هي باالمُعسكر رفقة عائلة صديقتها.
"قبل الحرب كنا نستعد لاستقبال رمضان قبله بـ15 يوما" في اليوم الأول من الشهر الفضيل، جلست العشرينية داخل خيمتها الصغيرة، تتذكر أيام رمضان الأولى بمنزلها وسط عائلتها، حيث كانت تستعد قبله بعدة أيام، يتم تجهيز المنزل بالزينة، تقوم الأم بشراء الأواني المنزلية الجديدة والأباريق وغيرها من الأشياء التي تُضفي على منزلهم البهجة احتفالاً، كان التجديد يطال كل شيء حتى الأثاث أحياناً كان له نصيب من التغيير.
طعام الإفطار والسحور كان له النصيب الأكبر في استعدادات عائلة الفتاة، فيتم تجهيز الأبريه الأبيض والأحمر أحد أشهر المشروبات التي لا غنى عنها على موائد الطعام في السودان، إضافة إلى تجهيز "الرقاق" للسحور وشراء المشروبات والكركديه وعصير الجونجليز، والذي كان مفضلًا وأساسيا لدى "منال" على المائدة حيث تجتمع العائلة على مدار الشهر.
"ما فيه أي زول هنا هيحتفل برمضان" عادت الفتاة للواقع الذي تعيشه استيقظت من ذكرياتها على صوت صديقتها تُخبرها بأن تستعد لتجهيز طعام الإفطار فقد اقترب موعد الآذان، والذي يتم توفيره بصعوبة نظرًا لظروف المٌخيم الصعبة، المياه أيضًا لا تتوفر كثيرًا، فالطعام محدود ويتم الحصول عليه عن طريق منظمات الإغاثة، بينما البعض يذهب إلى بعض القرى التشادية كمحاولة للحصول على طعام أكثر، لكن الأمر ليس سهلا على هؤلاء أيضًا.
تحصل "منال" رفقة عائلة صديقتها على كمية صغيرة من المواد الغذائية، والتي لا تزيد عن الذرة واللوبيا والزيت والملح، حاولت الفتاة أن تستغل تلك المواد المتوفرة لديها، إضافة إلى بعض المواد الأخرى التي كانت تحصل عليها من جولاتها بين المعسكرات وزياراتها القصيرة إلى القرى التشادية، وتجهيز طعام أول يوم برمضان، كان الأمر صعبًا عليها لكنّها تقبلت الوضع فلا خيار آخر أمامها، "حضرنا نوعين من العصير وعملن عدسية وأيضا عملنا مديدة بالجير".
كانت الفتاة تتجول بين المعسكرات، والتي لا تبعد عن بعضها مسافة كبيرة، تلتفت يمينًا ويسارًا علّها تجد خيمة عليها مظهر من مظاهر استقبال الشهر الكريم، لكنّها لم تجد سوى الألم والمرض الذي ينهش بأجساد العشرات من النازحين، الذين خرجوا من منازلهم قسرًا بسبب حرب فُرضت عليهم، تمر الفتاة وسط بعض الخيام، تتذكر شوارع مدينتها التي كانت لا تخلوا من الزينة وأغاني رمضان وابتهالات المشايخ، لكنها اليوم ليس بها سوى أصوات الدعاء والبكاء الذي يخرج من وسط الظلام، يناجي سُكان الخيام ربهم بأن تنتهي تلك الأزمة قريبًا وأن يعودوا لديارهم سالمين.
لم يكن فقدان منال للطعام والشراب في رمضان هو أكثر من يؤلمها، بل عدم وجود العائلة واللمة كان الأكثر ألمًا لدى العشرينية، فقبل أشهر كانت تجالس والدها وأشقائها وجيرانها وأقاربها على مائدة واحدة داخل منزلها الكبير، يسردون ذكرياتهم سويا يتحدثون عن مواقف جمعتهم يتسامرون ويضحكون، بينما اليوم تُجالس عائلة أخرى احتضنتها بدلًا من أن تبقي وحيدة.
"رغم إن انحرقت كل كُتبي لكن لن أستسلم وعندي أمل إن يومًا ما أكمل دراستي"، منذ الطفولة كان حلم منال أن تُصبح طبيبة، حققت هدفها والتحقت بكلية الطب ووصلت بها للسنة الثانية، لكن الحرب حالت أن تستكمل الفتاة دراستها، فقدت منال كُتبها ومراجعها وأدواتها، لكنّها لم تستسلم ولم تفقد الأمل، ورغم ما مرت به الفتاة وما تعيشه الآن لكنها لا تزال تحلم بأن تنتهي تلك الحرب وأن تعود لعائلتها وجامعتها وأن تُصبح طبيبة ناجحة، لتحقيق حلمها وحلم والدتها منذ الصغر.