في بداية عام 2023، ضرب زلزال قوي تركيا وسوريا، الدمار الأكبر كان بالشمال السوري حيث يقيم "مؤيد"، والذي كان في زيارة أحد أقاربه ليلة الزلزال، وفي الثانية عشر منتصف الليل تقريبًا عاد الشاب لمنزله، أخبر زوجته أنّه يشعر بشيء غير طبيعي، في الرابعة فجرًا كان الشاب على وشك النوم، لكنّه شعر بهزة أرضية قوية لكنّه تمكن من النجاة رفقة عائلته وخرجوا جميعًا للشارع بينما أصيب المنزل الذي يعيشون به بأضرار طفيفة.
مكث الشاب عدة ساعات خارج المنزل تحت المطر الشديد رفقة المئات من أبناء الحي الذين هربوا جميعًا من منازلهم، لكن بعد هدوء الوضع ، قرر "مؤيد" الدخول للمنزل من جديد مع أسرته، رغم الدمار الكبير الذي يحيط به من كل مكان، إلّا أنّه ليس له مأوى آخر سوى الشارع، وأطفاله لن يتحملوا البرد الشديد لذا خاطر بالدخول، بيتنا كله مشقق يعني غير صالح للسكن. بس ما عنا مكان تاني".
لم يُغادر "مؤيد" منزله رغم خطورته لكن الهزات الارتدادية القوية جعلته يتركه قسرًا تلك المرة خروج بلا عودة خوفًا على حياة صغاره، فذهب إلى خاله الذي يقيم بأحد خيام الإيواء على الحدود السورية - التركية والذي يبعد عن منزله نحو 50 كم، مكث لديه أيامًا لكن الخيمة لا تتسع لهم جميعًا، ولأنّ الشاب لا يمتلك القدرة المادية لتوفير خيمة له، ساهم في شرائها بعضًا من رجال الخير، وحصل مؤيد على خيمة في قرية "باتنتة" والتي استقبلت طفله الجديد أمير.
"كان رمضان له نكهة خاصة من سنين اليوم الحرب والزلزال قضوا عليها".. طقوس رمضان اختلفت كثيرًا لدى "مؤيد" في السابق كانت العائلة تجتمع بمنزلهم، الجمعة كان يومًا مقدسًا لتجمعهم كل عام، لم يخلوا الشهر الفضيل من زيارات العائلة والأصدقاء، كان رمضان يتميز بمائدته التي لم يكن هناك مثيلًا لها بالأيام الأخرى، الطفل في عمر الرابعة كان يهتم بقدوم رمضان لأنه سيحصل على لعبة، وسيشارك في مهمة تزيين المنزل، كان الأطفال يسعدون برمضان أكثر من الكبار.
تشتت الإخوة وفقدوا شعور "لمة رمضان"، يعيش "مؤيد" بخيمة صغيرة بينما يستقر أحد أشقائه في ضيعة تبعد عنه نحو 40 كم، شقيقة له تعيش على مسافة نحو 50 كم منه، والده ووالدته نزحوا لمدينة تبعد عنه نحو 200 كم، فيما هاجر شقيقه الآخر إلى ألمانيا، وشقيقته الثانية كانت وجهتها هولندا، قُصفت مائدة الطعام في الحرب فتفرقت العائلة بعدها ولم يجتمعوا مرة ثانية في رمضان، "الخيمة ما بتتسع لعيلتي يعني كيف أنا بدي جيب حدا لعندي زادنا على قدنا".
حتى تجهيز الطعام وتنوعه لم يعد متاحًا أمام الشاب، قبل سنوات وفي منزله بـ"معة النعمان"، كانت الخيارات عديدة أمامه يطبخ ما يشتهي من طعام الإفطار والسحور، لكنّ هذا الأمر بات مجرد ذكرى لـ"مؤيد"، فاليوم، يواجه معاناة في الطهي في ظل منع إشعال الغاز داخل الخيمة خوفًا من اشتعال حريق بها كما حدث في خيام بالقرية، " حاليا نحنا إذا بدنا نطبخ بيكون على الحطب، ما بنسترجي نشعل الغاز بالخيمة"، إضافة إلى المعاناة الأكبر وهي الحصول على الأموال لشراء الطعام.
"ما فيه طقوس ولو حاولنا نزين الخيمة القبر بيضل قبر والخيمة هيا قبرنا".. في بداية النزوح عقب الزلزال لم يستوعب أطفال مؤيد حالهم، رفضوا بشدة التواجد وسط قطعة قماش غير قادرة على حمايتهم من البرد، لكن بعد نحو عام تأقلم الصغار الذين لم تتجاوز أكبرهم التاسعة، الشاب لم ينس الطقس الأهم في رمضان وهو صلاة التراويح، عاد بذكرياته إلى مسجدهم الكبير بالقرية الذي اعتاد الصلاة بداخله، ورفاقه الذين كان يتجمع معهم عقب الانتهاء من الصلاة يتسامرون ويضحكون.
بالمخيم أُنشئت خيمة أكبر بقليل من الخيام المتواجدة، خُصصت كمسجد للصلاة، يذهب إليها الشاب لأداء صلاة التراويح لينتهي من الصلاة ويعود سريعًا إلى خيمته فلا مكان آخر يمكن أن يذهب إليه عقب الصلاة. في رمضان أيضًا اعتادت والدة "مؤيد" وزجته تجهيز الطعام وإرسال هدية منه إلى جيرانهم، وهكذا كان يفعل الجيران معهم، تبادل الطعام كان طقسًا هامًا، لكن بالمخيم لا أحد يجد طعامًا لعائلته حتى يتبادله مع جاره، ومن يتوفر من الطعام القليل للعائلة يكفي فقط لسد جوعهم، "الوجوه شاحبة والأجساد هزيلة من الجوع والبرد، الجميع هنا حزين على حاله".
"ما كنا هيك.. ما كنا هيك.. كان عنا كرامة، الله ينتقم من اللي شردنا".. فكر مؤيد كغيره من الآلاف في الخروج لدولة أخرى، لكن التكلفة مرتفعة فالشاب لا يمتلك دولارًا يدفعه للمهربين، إضافة إلى الخطر الذي يعيشه في رحلة الخروج، "السفر كله تهريب وما بدي أمشي في الغابات أيام وممكن أنقتل من المافيا"، الفكرة التي تجول بخاطره ليل نهار، مصير أبنائه وزوجته بعده في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها، تدفعه دائمًا نحو رفض فكرة الهروب، "لمين بدي أتركن؟ وعند مين؟ مين بده يصرف عليهن".