فقدان بصر وقوة بصيرة

كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحًا، أنهت داليا عملها داخل مستشفى المدينة، أسرعت بالخروج متجهة نحو جامعتها بغرض إنهاء بعض أوراق السفر الخاصة بها ، فالفتاة كانت تسعى لاستكمال دراستها خارج بلادها، وبينما كانت في طريقها سمعت دوي إطلاق نار وعلى مرمى بصرها شاهدت بعض المارة يصرخون "مات.. مات".

في قرية الضباب الواقعة على الجهة الغربية لمدينة تعز عاشت داليا محمد، الفتاة الثلاثينية التي فقدت إحدى عينيها بسبب الحرب، لكن بصيرة قلبها دفعتها للسير في طريق إنقاذ الآلاف من أبناء قريتها، والذي وصل الحال بهم إلى الموت إما جوعًا وعطشًا أو برصاص الحوثي.

"فقدت أبي في السابعة وأمي وأنا في عمر الـ12" عاشت الفتاة يتيمة الأبوين، جرت العادات والتقاليد في قريتها بعدم تعليم الفتيات، وحتى من تحاول خرق تلك العادات وتتعلم لا تصل إلى المرحلة الجامعية، حتى قررت داليا تحدي هذا الأمر ونجحت في الالتحاق بكلية التمريض، تخصص مختبرات طبية، وباتت نموذجا يُلهم الجميع، بل وساهمت الفتاة الشابة أيضًا في عودة الحياة التعليمية بقوة لقريتها الصغيرة عن طريق تعليم كثير من الأطفال بها.

أنهت داليا دراستها، وبدأت في خطوات الاستعداد لحياتها العملية، وتجهيز الأوراق الرسمية الخاصة بها للسفر إلى القاهرة للحصول على منحة تدريبية لمدة عامين، لكن حدث ما في ربيع العام 2015، غيّر حياة الفتاة الشابة إلى الأبد. تتذكر داليا أول دبابة دخلت إلى مدينتها، وسريعا ما تدهورت الأمور، حيث فرض الحوثيون وأتباعهم حصارًا مطبقًا على المدينة، حينها تطوعت كمسعفة لإنقاذ الجرحى، خاصة في ظل عدم وجود صليب أحمر أو هلال أحمر مفعل يمكن أن يصل إلى مناطق التماس "خط النار" لكنّها قررت القيام بهذا الدور .

"كنت بخرج من قريتي بعد الفجر عشان ألحق المواصلات، الأمر كان صعب في ظل الحرب" نتيجة الحصار المفروض على مدينة تعز والألغام المزروعة في شوارعها بشكل عشوائي، تقطعت أوصال المدينة وتضاعف زمن الانتقال منها وإليها عشرات المرات؛ المسافة التي كانت في السابق تستغرق ربع الساعة، الآن باتت تستغرق ما بين خمس إلى ست ساعات في طرق وعرة لا تخلو من خطورة. فكرت داليا حينها الانتقال إلى المدينة من أجل توفير الوقت والجهد والمال، لكن كان هناك عائق آخر أمامها وهي قريتها الصغيرة التي ستصبح بلا مقدم خدمة صحية إذا تعرضت لقصف أو غيره، كونها الوحيدة التي تقوم بهذا الدور.

في مشهد لم تنساه داليا في أيام الحرب الأولى، وأثناء خروجها من عملها، صادفت في طريقها صاحب عربة توت، أصيب برصاص قناص فسقط أرضًا، صاحب العربة من أوائل الضحايا المدنيين في الحرب. المشهد كان جديدًا على الفتاة، ظلت تصرخ وتبكي حتى ظن البعض أنّ القتيل أحد أقاربها، خاصةً وأنّها حاولت إسعافه، لكنّ الموت كان أقرب.

خرج أهل مدينة تعز في شوارعها يعلنون رفض الحرب والتصدي لسيطرة الحوثيين عليها، وبينما كانت داليا وأصدقاؤها ضمن المتظاهرين، تفاجأت بوالد إحدى زميلاتها يطلب منهن العودة لمنازلهن "قال لي إن الحوثيين لا يفرقون بين المدنيين والعسكريين ولا الرجال ولا النساء"، استمعت داليا إلى نصيحته وهمّت بالانصراف، قبل أن يستوقفها مشهد لا تزال تفاصيله مطبوعة في ذاكرتها.

شاهدت الفتاة طفلاً على الجانب الآخر من الشارع، تسمّر في مكانه ولم يستطع الهروب خوفاً من الرصاص. ناشدت داليا الموجودين أن يطلبوا من الطفل العودة إلى الجانب الآخر بعيدًا عن رصاص الحوثيين، لكن لم تمر سوى لحظات وسقط الطفل مصابًا، أسرعت داليا تجاهه محاولة إنقاذه، في اعتقادها أنّ الجنود لن يطلقوا الرصاص عليها باعتبارها فتاة، خاصة وأنّها كانت في مرمى نيرانهم، إلّا أنّها كانت مخطئة، فحذرها أحد الجنود بعدم محاولتها الاقتراب من الطفل الجريح وإلا ستنال نفس مصيره.

اعتقدت أنّ حديثهم مجرد تهديد وقررت الذهاب وسحب الطفل لإسعافه" في طريقها للطفل شاهدت داليا عدداً من الجنود يتحركون نحوها فقررت أن تسلك زقاقًا صغيرًا بعيدًا عن أعينهم، لكن فور وصولها للزقاق وجدت حجرًا خرسانيا يحتجز الطريق لكنها تمكنت من الوصول للطفل وسحبه لمكان اختبآ به سويا، ظنّاً منها أنّه سيكون أكثر أمانًا ولن تستطع الآليات العسكرية التحرك به.

بدأ الجنود يطلقون النار على داليا والطفل بشكل كثيف، حاولت الفتاة حمايته، ونجحت في ذلك لكنّها تفاجأت بصراخ الطفل بجوارها يقول "عينك عينك"، لتلامس وجهها فإذا بالدماء تغمر يدها وفي كفها سقطت عيناها لتفقد الفتاة عينها اليسرى، بعد محاولات من الأطباء تثبيتها حتى لا يحدث ضمور وأيضًا من أجل الحفاظ على العين الأخرى.

"كنت حاسة نفسي عاجزة وكنت بقول هفضل طول عمري كده" في تلك الفترة اشتد الحصار على مدينة تعز وأغلق خط الضباب، وانعزلت داليا عن أهلها لنحو عام ونصف، لكنّها رويدًا بدأت العودة إلى سيرتها الأولى. شاركت الفتاة في مبادرة توفير الأكسجين للمستشفيات وحضانات الأطفال بعدما تسبب نقصه في وفاة العشرات منهم، وكانت تقوم بتوصيله إلى المدينة بواسطة الحمير والجمال، كما شكلت رفقة عدد من زملائها أقسام طوارئ بالقرب من خطوط التماس لإنقاذ الجرحى "اللي كان بيقع مننا مبنعرفش نروح نسعفه علشان منبقاش الضحية التالية".

بعد سنوات من الفقد والحرب لم تعد لداليا سوى أمنية واحدة، وهي فتح الطرق الرسمية، وإلى أن تنتهي الحرب فالفتاة الثلاثينية تشق طريقها يوميا بين السهل والجبل، من الضباب إلى تعز، تراوغ الموت وتقاوم الحصار .

القصة التالية