ما حكم تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأولياء الصالحين؟
تجيب أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية:
شيئان لا بد من التأكيد عليهما قبل الجواب على هذا السؤال:
أولهما: أن الخلاف الوارد في هذه المسألة ونظائرها من جنسها خلافٌ سائغ لا يترتب على الأخذ برأي معين منه كفر وإيمان، فمآل الخلاف في مثل تلك المسائل إلى صحة أحد الأقوال وضعف المقابل، وهذا شأن الظنيات، والغفلة عن هذا الضابط تؤدي إلى خطأ التصور والحكم.
ثانيهما: أن مجرد التسليم بكون تلك المسألة من قبيل الظنيات التي لا تتمخض الأقوال فيها إلى الكفر والإيمان، مع عدم بحثها في إطارها الخلافي الذي بُحِثَت فيه بين الفقهاء؛ يؤدي أيضًا إلى خطأ في الحكم.
وتقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور صالحي الأمة نوع من التبرك بهم، وأجازه غير واحد من العلماء إن قُصِد به التبرك، لا إن قُصِد التعظيم، وهذا هو المعتمد عند الشافعية، نصَّ عليه غير واحد من علمائهم، يقول النووي في المنهاج: «والتزام القبر أو ما عليه من نحو تابوت ولو قبره صلى الله عليه وسلم بنحو يده وتقبيله بدعة مكروهة قبيحة»، جاء في حاشية الشرواني على تحفة المحتاج: «قوله: (وتقبيله) أي: تقبيل القبر واستلامه وتقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء، نهاية ومغني.
قوله: (بدعة... إلخ) نعم إن قصد بتقبيل أضرحتهم التبرك لم يكره كما أفتى به الوالد رحمه الله، فقد صرَّحوا بأنه إذا عجز عن استلام الحجر يسن أن يشير بعصا وأن يقبِّلها، وقالوا: أي أجزاء البيت قبَّل فحسن. نهاية. قال ع ش -أي الشبراملي-: قوله م ر -أي الرملي في النهاية- بتقبيل أضرحتهم ومثلها غيرها كالأعتاب. وقوله: (فقد صرحوا... إلخ)، أي فيقاس عليه ما ذكر. وقوله: (بأنه إذا عجز... إلخ)، يؤخذ من هذا أن محلات الأولياء ونحوها التي تقصد زيارتها كسيدي أحمد البدوي إذا حصل فيها زحام يمنع من الوصول إلى القبر أو يؤدي إلى اختلاط النساء بالرجال لا يقرب من القبر، بل يقف في محل يتمكن من الوقوف فيه بلا مشقة ويقرأ ما تيسر، ويشير بيده أو نحوها إلى الولي الذي قصد زيارته أي ثم قبَّل ذلك.
واعتمد شيخنا ذلك، أي ما تقدم عن النهاية وع ش، وقال البصري بعد ذكر كلام النهاية المتقدم وذكر السيوطي في التوشيح على الجامع الصغير أنه استنبط بعض العلماء العارفين من تقبيل الحجر الأسود تقبيل قبور الصالحين. انتهى، أقول: في الاستنباط المذكور مع صحة النهي عما يشعر بتعظيم القبور توقف ظاهر، ولو سلم فينبغي لمن يقتدى به أن لا يفعل نحو تقبيل قبور الأولياء في حضور الجهلاء الذين لا يميزون بين التعظيم والتبرك، والله أعلم». [3/ 175، ط. دار إحياء التراث العربي].
والدليل على جواز تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأولياء الصالحين: ما ورد من جواز تقبيل الحجر الأسود واستحباب ذلك، فقد بوَّب البخاري: باب تقبيل الحجر، وأورد فيه حديثين عن عمر بن الخطاب وابنه، وبوَّب مثله أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والدارمي وغيرهم، فعن عمر أنه جاء إلى الـحَجَر فقبَّله فقال: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
فقد استنبط بعض العلماء من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من في تكريمه وتشريفه تعظيم لله عز وجل ويرجى البركة والمثوبة بتوقيره ومحبته، من آدمي وغيره، ودخل في ذلك كتب العلم والمصحف الشريف وقبور الصالحين، وقد ذكر الحنفية -وهو المذهب عند الحنابلة- جواز تقبيل المصحف؛ تكريمًا له، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ المصحف كل غداة ويقبِّله، ويقول: عهد ربي ومنشور ربي عز وجل، وكان عثمان رضي الله عنه يقبِّل المصحف ويمسحه على وجهه. [راجع: رد المحتار 5/ 246، ط. إحياء التراث، وكشاف القناع 1/ 137، ط. دار الفكر].
وقال النووي في التبيان: «وروينا في مسند الدارمي بإسناد صحيح عن ابن أبي مليكة أن عكرمة بن أبي جهل كان يضع المصحف على وجهه ويقول: كتاب ربي». [التبيان في آداب حملة القرآن (1/191) ط: دار ابن حزم، ط:3].
وقال البدر العيني: «وقال شيخنا زين الدين:... وأما تقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرك، وكذلك تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم فهو حسن محمود باعتبار القصد والنية، وقد سأل أبو هريرة الحسن رضي الله تعالى عنه أن يكشف له المكان الذي قبَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو سرته- فقبله تبركًا بآثاره وذريته صلى الله عليه وسلم، وقد كان ثابت البناني لا يدع يد أنس رضي الله تعالى عنه حتى يقبِّلها، ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أيضًا: وأخبرني الحافظ أبو سعيد بن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيل منبره، فقال: لا بأس بذلك، قال: فأريناه للشيخ تقي الدين ابن تيمية فصار يتعجب من ذلك، ويقول: عجبت، أحمد عندي جليل يقوله؟ هذا كلامه أو معنى كلامه؟ وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصًا للشافعي وشرب الماء الذي غسله به، وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة؟ وكيف بآثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ ولقد أحسن مجنون ليلى حيث يقول:أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجـدارا وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا.
قال المحب الطبري: ويمكن أن يستنبط من تقبيل الحجر واستلام الأركان جواز تقبيل ما في تقبيله تعظيم الله تعالى، فإنه إن لم يرد فيه خبر بالندب لم يرد بالكراهة، وقد رأيتُ في بعض تعاليق جدي محمد بن أبي بكر عن الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الصيف أن بعضهم كان إذا رأى المصاحف قبَّلها، وإذا رأى أجزاء الحديث قبَّلها، وإذا رأى قبور الصالحين قبَّلها. ولا يبعد هذا والله أعلم في كل ما فيه تعظيم لله تعالى». [عمدة القاري 9/ 241، ط. دار إحياء التراث العربي].
وما نقل عن الإمام أحمد من تقبيل قبر النبي، نقله عنه ابنه في العلل، قال: «وسألته -السائل عبد الله بن أحمد بن حنبل والمسؤول هو والده- عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتبرك بمسه وتقبيله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز؟ قال - يعني أحمد بن حنبل- لا بأس بذلك». [2/ 492، ط. دار الخاني بالرياض].
ولا يقال: إن جواز التقبيل لابد فيه من توقيف؛ لأن قول عمر رضي الله عنه: ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك معارَض بما روي عنه من تقبيل المصحف، وبما روي عن غيره كما سبق، ولا توقيف فيه، ولعل ما قاله عمر رضي الله عنه رأي له وأنه لا توقيف في مثل ذلك، فالأمر واسع، وقد رد الإمام الذهبي على مَن قال: لِمَ لَم ينقل عن الصحابة تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال معلِّلًا: «لأنهم عاينوه حيًّا، وتملوا به، وقبَّلوا يده، وكادوا يقتتلون على وضوئه، واقتسموا شعره المطهَّر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخَّم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن فلما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل، ألا ترى كيف فعل ثابت البناني؟ كان يقبِّل يد أنس بن مالك ويضعها على وجهه ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم».
ثم أورد توفيقًا عجيبًا بين المجوِّزين والمانعين فقال: «وهذه الأمور لا يحرِّكها من المسلم إلا فرط حبه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو مأمور بأن يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه وولده والناس أجمعين ومن أمواله ومن الجنة وحورها، بل خلق من المؤمنين يحبون أبا بكر وعمر أكثر من حب أنفسهم.
حكى لنا جندار أنه كان بجبل البقاع فسمع رجلًا سب أبا بكر فسل سيفه وضرب عنقه، ولو كان سمعه يسبه أو يسب أباه لما استباح دمه، ألا ترى الصحابة في فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: لا، فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير، لا سجود عبادة كما سجد إخوة يوسف عليه السلام ليوسف، وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم والتبجيل لا يكفر به أصلًا، بل يكون عاصيًا، فليعرف أن هذا منهي عنه، وكذلك الصلاة إلى القبر». [معجم الشيوخ الكبير للذهبي 1/ 73، ط. مكتبة الصديق بالطائف]. فالأمر دائر مع فرط المحبة والشوق.
ومثل هذا التوفيق قاله ابن حجر الهيتمي في رسالته: تحفة الزوار إلى قبر النبي المختار، فبعد أن ذكر قول المحب الطبري في جواز تقبيل القبر النبوي، قال: «وهذا محمول أيضًا على من به استغراق في المحبة، وشدة الشوق الذي يحمله على الشغف الذي يحصل للمحب قد يستغرقه حتى يكون ما يفعله لا يُلام عليه، فإنه قد تعتريه حالات لا يطيقون دفعها إلا بأن يحدث منهم فعل ذلك».
ثم قال: «وقول ابن حجر والطبري –أي: في جواز مسح القبر النبوي- بالجواز لا ينافي الكراهة، فإنه يجوز فعل الشيء وهو مكروه، أو يحمل فعلهم ذلك على الاستشفاء كما حكي عن ابن المنكدر رضي الله عنه أنه كان يصيبه الصُّمَات، فكان يضع خده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فعتب عليه في ذلك فقال: إنه يصيبني خطرة فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو يحمل على التبرك، فإنه حكي عن المنكدر أنه يأتي موضعًا من المسجد في الصحن فيتمرغ فيه ويضطجع، فقيل له في ذلك، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع -أراه قال: في النوم-. والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم، والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته صلى الله عليه وسلم، فناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم بل يبادرون إليه، وناس أناة وتارة يتأخرون، والكل خير». [ص26- 28، ط. دار الصحابة للتراث بطنطا].
وقد يوجَّه النهي عن تقبيل القبر النبوي بأن النهي عنه تأدبًا، فليس له علاقة من قريب أو بعيد بمسائل الإيمان والكفر، وقد نقل ابن حجر عن الحليمي عند الكلام على آداب زيارة القبر النبوي قوله: «يكره إلصاق البطن والظهر بجداره، وكذا مسحه بيده وتقبيله والسجود عليه، بل من الآداب أن يبعد عنه كما كان يبعد عن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان حيًّا» [تحفة الزوار ص20]، فالنهي عن ذلك من قبيل الآداب فلا مدخل للكفر والشرك.
وأورد ابن حجر أخبارًا في جواز تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأورد عن يحيى بن سعيد شيخ الإمام مالك رضي الله عنه أنه لما أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا. ثم قال: «قال ابن جماعة: وهذا يبطل ما نقل عن النواوي من الإجماع على ترك ذلك. وقال السبكي: إن عدم التمسح بالقبر الشريف ليس مما قام الإجماع على تركه، فإنه ورد في رواية أن مروان بن الحكم رأى أبا أيوب الأنصاري يلزم القبر فأخذ برقبته فالتفت إليه فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ولي الأمر غير أهله فانتظروا الساعة))، وقد ورد أيضًا أن بلالًا لما قدم لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم أتى القبر الشريف فجعل يبكي ويجزع وجهه إليه». [تحفة الزوار ص21، 22].
وعلى ذلك فتقبيل القبر الشريف وقبور الأولياء الصالحين جائز تبركًا، ونهيب بالمسلمين عدم التفرق بسبب الأخذ برأي معين في هذه المسائل، فالعمل على لمِّ الشمل آكد وأوجب.
والله تعالى أعلم.
فيديو قد يعجبك: