الشيخ محمود الهواري: حادثة الطفلة «جنة» غريبة على مجتمعنا.. وهكذا عالج الإسلام العنف مع الأطفال (حوا
حوار - محمد قادوس:
قال الدكتور محمود الهواري، عضو المكتب الفني لوكيل الأزهر، وأحد خطباء الجامع الأزهر الشريف، إن الأطفال هبة من الله عز وجل، فهو سبحانه وتعالى الذي يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، وهم أمانة في عنق من وهبوا لهم، ومن ينظرون إليهم على أنهم زينة حياتهم الدنيا.
وأكد الهواري أن هذه الأمانة لا بد من بنائها بناء سليما صحيحا نفسيا وبدنيا وعقديا في شكل متكامل منطلق من أسس صحيحة تعتمد على هذا النسق الديني والقيمي والحضاري والتاريخي.
وحول مسألة تقصّر بعض الآباء في حقوق أولادهم، ومن ذلك حادثة الطفلة «جنة» وهي حادثة غريبة على مجتمعنا، تفرض علينا مراجعة سلوكياتنا ومناهجنا وأفكارنا لا سيما تلك التي تتعلق ببناء الإنسان وتربيته.. وإلى نص الحوار:
* هل يمكن القول إن هناك تصورا مغلوطا عن قيمة الأبناء في حياة والديهم؟
ـ البعض يتخيل أنه يمتلك أولاده؛ ولذا فهو يعاملهم بما يحب ولا يسمح لأحد أن يتدخل في هذا الأسلوب، والحقيقة إن الأولاد هبة من الله تعالى، هو الذي يهب ويعطي هذا العطاء، ويستأمن الوالدين بل المجتمع كله عليه، وحين يعيش الناس على أن الأطفال أمانة في عنق الجميع فلا بد من القيام على هذه الأمانة بمراد صاحب الأمانة، وهو الله سبحانه وتعالى.
ـ هل يمكن القول إن معاملة الأطفال بقسوة أو عنف بعيد عن الدين؟
نعم فالإسلام أمر الناس أن يكونوا رحماء، وكثير من نصوص الأخلاق في القرآن والسنة يخص الرحمة بالذكر، لما لها من تأثير عجيب على التنشئة السوية للأطفال؛ فالله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، والإسلام هو دين الرَّحمة، والنَّبيّ-صلَّى الله عليه وسلَّم- هو نبيُّ الرَّحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، فضلاً عن أن حضارة المصريين وقيمهم تشتمل على الرحمة.
وعلى هذا فالقسوة مخالفة صريحة لهذا التراث الكبير من الرحمة.
* كيف يرى الإسلام هذا العنف في التعامل؟
ـ الإسلام دين الرحمة يأبى ويرفض هذا العنف الذي يهدر من آدمية الطفل وينتقص من شخصيته، والآباء والمربون الذين يرون العنف حلا سحريا في تربية الأطفال مخطئون لا شك.
ولو تأملنا بعض النصوص لعلمنا أن الرحمة لا تنزع إلا من شقي، وأن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.
إن الإسلام حين شرع الزواج جعله سكنا ومودة ورحمة يجمع الرجل والمرأة والأطفال في جو اجتماعي طيب يكون محضنا صحيًّا لنبت طيب يظهر أثره في المجتمع، فإذا تشتّت الأسرة وتفرق أعضاؤها فأي فائدة للزواج حينئذ، فالتفرق يسبب الفشل والضياع وعدم تحقيق الأهداف المقصودة، والذي يؤدي إلي التفرّق والتشتّت هو استعمال القسوة والعنف، وهذا مستفاد من قول الله عز وجل-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}
وهذا ينطبق على الآباء، فإذا كانوا بهذا الخلق من الفظاظة والقسوة وغلظ القلب انفضَّ الأبناء من حولهم ولم ينتفعوا بهم عند كبرهم بل ربما أذاقوهم من نفس الكأس الَّتي سقوهم منها وهو صغار، فيكون العقوق، وتكون المآسي الاجتماعيّة والنفسيّة.
أضف إلى هذا كلّه أنّ القسوة والتّعذيب يٌعاقب عليها فاعلها، فقد قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلَّم-: «إن الله يعذب الَّذين يعذبون النَّاس في الدُّنيا» [رواه مسلم].
وهذا الَّذي ينكِّل بأبنائه ويتفنن في القسوة عليهم ضربا وركلا ولطما ولكما وشتما وحرقا أليس هذا من التعذيب الذي يستحق فاعله العقوبة من الله عز وجل؟!
وإذا كان الله عز وجل نهى عن تحريق النَّمل؛ لأنها أمة تسبح، فما الحال بامرأةٍ تلجأ إلى حرق أبنائها في أماكن متفرقةٍ من أجسادهم تزعم أنَّها -بذلك- تربيهم وتؤدبهم ويا لها من تربيَّةٍ وتأديبٍ لا تنتج سوى أجسادًا مشوَّهةً وعقولَا مظلمةً.
ألا يمكن أن يكون هؤلاء فيما بعد مسبّحين عابدين نافعين لأوطانهم إن أحُسن تربيتهم؟!
وإذا كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قد أخبر بأنَّ امرأةً دخلت النَّار في هرَّةٍ حبستها حتَّى ماتت، فكيف بمن يحبس أبناءه ويقهرهم بدعوى التَّربيَّة والتَّأديب؟! ألا يعذّب في هذا الآدمي المكرم؟!
* يبدو أن هناك فرقا كبيرا بين ما تقرّه الشريعة السمحة وما نراه في الواقع، فما هي الخطوات لعلاج هذه الظاهرة من الجهة الشرعية؟
ـ لا بد أولا من تربية الآباء قبل تربية الأبناء لتتغير المفاهيم الخاصَّة بالتَّربيَّة والأبوَّة.
إنَّ الأبوَّة ليست سوطًا يرفع أو قهرًا يمارس أو عنفًا يظنُّ الآباء أنَّ لهم الحقَّ في ممارسته متى شاءوا.
إنَّ الأبوَّة رفقٌ ورحمةٌ وحبٌّ، وبذلٌ وعطاءٌ وإيثارٌ وشفقةٌ وحلمٌ وصبرٌ وسعة صدرٍ ورحابة أفقٍ وعفوٌّ وصفحٌ وتوجيهٌ وتربيَّةٌ وتهذيبٌ بألطف عبارةٍ وأجمل أسلوبٍ.
وهل يتصوَّر هؤلاء أن جلد الأبناء وتعذيبهم وحبسهم وطردهم هو الوسيلة المثلى للتَّربيَّة والتَّعليم والتَّهذيب؟؟ إن تصوَّر ذلك جهل عظيم وخطأ جسيم؛ لأنَّ العنف والقهر والاستبداد لا ينتج سوى الكراهية والعقد النَّفسيِّة والشَّخصيَّة المريضة الَّتي تميل إلى الكيد والانتقام والإيقاع بالآخرين ولو كانوا أقرب النَّاس إليهم ولا ينتظر من مثل هؤلاء أي إبداعٍ أو نهضةٍ أو بناءٍ أو رقيٍّ.
ثم لا بد أن يتعلم الجميع -أبًا كان أو أمًّا أو غيرهم-كيف كانت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال، وقد ضرب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلم أروع الأمثلة على رحمته بالأطفال مما حوته الكتب.
* ما هي الأدوات التي يجب الاستعانة بها حتى تعالج هذه الظاهرة في البيوت؟
ـ هذه المواقف النبوية الجليلة التي نقلتها كتب التراث الراقية تحمل أسمَى وأنبلَ المعاني الإنسانيَّة، وكذلك ما تقرره العلوم الإنسانية علم النفس والاجتماع والتربية، كل ذلك ينبغي أن يكون واضحا أمام الجميع، لا سيما على صعيد الوعْظ والخطابة والتَّعليم، والندوات والمحاضرات، وأن تُدرس هذه المواقف لأبنائنا وبناتِنا في مختلف مراحلهم الدراسيَّة، وكذلك على صعيد الجمعيَّات المتخصِّصة لمكافحة العنْف مع الأطفال، أو مؤسسات رعاية الأسرة وحقوق الأطفال، ففي بيان سيرته الشَّريفة مع الأطفال علاجٌ لمرضى القسْوة والغلظة، وصدق الله إذ قال: «وإن تطيعوه تهتدوا»
وذلك من خلال: الندوات، والمحاضرات، وورش العمل، والدورات التدريبية، ومن خلال فقرات إذاعية ومداخلات تليفزيونية، وغير ذلك مما ينفع الناس ويصحح أفكارهم.
* لكن هذه الرحمة بالطفل هل وضع الإسلام لها حدودا؟
نعم إن رحمة الطِّفل والشَّفقة عليه والرِّفق به لا تعني إهمال تربيته وتأديبه، وترك تعليمه أمور دينه ومبادئ الحلال والحرام، فديننا دين التوازن، فلا هي التربية العنيفة القاسية، ولا التدليل والإهمال الذي يؤدي إلى رعونة وميوعة، وقضية التَّربيَّة تحتاج إلى توازنٍ، فكما أنَّ القسوة تضرُّ، فالتَّدليل الزَّائد وترك الحبل على الغارب والاستجابة لكامل رغبات الطِّفل يضرُّ أيضًا.
والعقوبة قد يحتاج إليها أحيانًا، ولكنَّ العقوبة لا يجوز أن تصلَّ إلى حدِّ التَّعذيب والانتقام، والحرق بالنَّار والمنع منَ الطَّعام والشَّراب وما إلىٰ ذلك من صور امتهان كرامة الطِّفل وسحق شخصيته ولا يكون الضَّرب كذلك على الوجه، فإنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-نهى عن ذلك.
فعلينا أن نستلهم من سيرة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلم هذا المنهج التربوي الصحيح عقديا وصحيا ونفسيا وبدنيا واجتماعيا لينشأ أولادنا نشأة تسعد بها الأوطان فيما بعد.
* ما هو الوقت الكافي لعلاج الآثار الناجمة عن هذه الظاهرة على الأطفال؟
الدعوة إلى الخير لا تنقطع، وليس معنى أننا قدمنا حملة لتصحيح بعض الأفكار أن دور المؤسسات ينتهي عندها، فالأفكار تتغير، والممارسات تتغير، والناس أنفسهم يتغيرون، لذلك الدعوة إلى ممارسة صحيحة لا تنقطع زمانا ولا مكانا ولا إنسانا.
تنوع البرامج، والدورات، والأساليب في كل زمان ومكان بما يناسب الطبيعة والطبع.
* هل يمكن أن تظهر آثار العنف مع الأطفال في مستقبل أيامهم بعد أن يشبوا؟
دعنا نرد على هذا السؤال بسؤال آخر، مع قدر قليل من التأمل: هل شخصية الطفل الذي يمارس ضده العنف تخرج شخصية بعيدة عن العنف أم أنها تكتسب العنف كأسلوب حياة؟ وهل يترك العنف الشديد في شخصية الطفل حبا لأسرته العنيفة أم أنه يقتل الانتماء لديه؟
والأسرة عندي وطن صغير، فلو ترك العنف في نفوس الأطفال كراهية وعدم انتماء لهذا الوطن الصغير، فهل تراه يحب أو ينتمي إلى وطنه الكبير.
فيديو قد يعجبك: