ماليزيا: كيف تم اختلاس المليارات لتصرف على اليخوت واللوحات والحقائب النسائية؟
لندن (بي بي سي)
اختفت مليارات الدولارات من صندوق ماليزيا السيادي الذي كان يهدف إلى مساعدة أبناء ماليزيا، في سراديب النظام المالي العالمي، بحسب المدّعين العامين في الولايات المتحدة وماليزيا. ودخلت هذه الأموال جيوب عدد قليل من الأشخاص كانوا في السلطة، استخدموها في شراء عقارات فاخرة وطائرات خاصة ولوحات فان كوخ ومونيه وتمويل بعض أفلام هوليوود.
وعمّ الغضب العالم لنهب مليارات الدولارات في فضيحة "إم دي بي1" الماليزية، وحققت السلطات في شبكة واسعة من المعاملات المالية في ست دول على الأقل، بدءاً من بنك سويسرا إلى التهرب الضريبي في آيسلند إلى قلب جنوب شرق آسيا.
وأدت هذه الفضيحة إلى الإطاحة بالحزب السياسي الذي حكم ماليزيا طوال تاريخها كدولة مستقلة. كما يواجه بنك غولدمان ساكس، أحد أكبر البنوك في وول ستريت ، تهم جنائية في ماليزيا.
وجميع الأنظار تتجه حالياً للعاصمة الماليزية كوالالمبور، حيث يُحاكم نجيب رزاق، رئيس الوزراء السابق والرئيس السابق لمجلس مستشاري الصندوق "إم دي بي 1 "، في أولى القضايا العديدة المرفوعة ضده.
وترسم مجموعة شخصيات متورطة في هذه الفضيحة صورة لحكاية حقيقية على المستوى العالمي، بدءاً من صحفيين إلى نخبة دولية استفادت منها.
نجيب رزاق
وتحتل قصة رئيس الوزراء السابق لماليزيا نجيب رزاق مركز الاهتمام، فهو الرجل الجريء الذي أنشأ صندوقاً مالياً سيادياً عام 2009، لدفع عملية التنمية الاقتصادية في بلاده، ليواجه هو وأعوانه الساسة بعد سنوات العار والخيبة.
ولفهم نجيب رزاق أكثر، يجب تحليل جذوره، فهو الابن البكر لرئيس وزراء ماليزيا الثاني، عبد الرزاق، وابن شقيق رئيس الوزراء الثالث، وينحدر من أسرة أرستقراطية سياسية. ليصبح أخيراً رئيساً للوزراء عام 2009 ، كرئيس للحزب الذي سيطر على عالم السياسة في ماليزيا لمدة نصف قرن. وكان يبدو أنه تولى مهمة كانت مخصصة له مسبقاً.
درس نجيب المرحلة الثانوية في كلية مالفرن البريطانية ، وهي مدرسة خاصة مرموقة ، قبل أن يدرس الاقتصاد الصناعي في جامعة نوتنغهام في بريطانيا.
وكانت خُطبه عن أهمية الإسلام "المعتدل" تتماشى مع موقف نظرائه الغربيين بمن فيهم رئيس وزراء بريطانيا السابق ديفيد كاميرون والرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.
كانت تطارده قبل ذلك تساؤلات حول دوره في صفقة غواصات أبرمتها ماليزيا مع فرنسا عام 2002 عندما كان وزيراً للدفاع في حكومة مهاتير محمد، وقيل وقتها أن حوالي 130 مليون دولار تم دفعها على شكل رشوة في صفقة وصلت قيمتها ألى 1.2 مليار دولار، وهو ما نفاه نجيب دائمًا.
أثارت حادثة القتل المريع للمترجمة المنغولية التي شاركت في صفقة الغواصات مزيداً من الأسئلة. ومازال التحقيق الفرنسي مستمراً، في الوقت الذي أعادت فيه الحكومة الماليزية الجديدة فتح التحقيق في القضية، إلا أن نجيب يصر على رأيه بأنه لم يلتقِ بتلك المرأة على الإطلاق.
و في يوليو/تموز 2016 ، رفعت وزارة العدل الأمريكية دعوى مدنية زعمت فيها أن أكثر من 3.5 مليار دولار قد اختلست. (رفع المبلغ لاحقاً إلى أكثر من 4.5 مليار دولار).
وأظهرت الدعوى أن الجناة تركوا اسم "المسؤول الماليزي 1" دون الكشف عن اسمه. وقالت النيابة العامة الأمريكية أن وزارة التجارة أكدت لاحقاً أن نجيب رزاق تلقى 681 مليون دولار ، لكن أعيدت معظم الأموال المسروقة.
وتمت تبرئته من جميع الأعمال غير القانونية من قبل السلطات الماليزية أثناء وجوده في منصبه، ولكن بعد هزيمة حزبه المفاجئة في الانتخابات العامة العام الماضي ، تغيرت الأمور بشكل كبير. فتمت مداهمة العديد من شققه وصادرت الشرطة مجموعة من السلع الفاخرة و 28.6 مليون دولار نقداً.
ويواجه حاليا 42 تهمة منها الفساد وغسيل الأموال وإساءة استخدام السلطة. وقد انكر التهم الموجهة له.
روزما منصور
بعد خسارة نجيب رزاق للسلطة، هناك من يشبّه تبذير واسراف زوجته روزما منصور بإميلدا ماركوس (زوجة الرئيس الفلبيني السابق فرديناند ماركوس) وماري أنطوانيت (ملكة فرنسا وزوجة الملك لويس السادس عشر).
وتواجه روزما البالغة من العمر 67 عاماً تهمة غسيل الأموال والتهرب الضريبي، فيما نفت هي هذه التهم.
وكان إنفاقها الهائل للأموال وشراء سلع باهظة الثمن محل نقد وسخرية الكثيرين في مواقع التواصل الاجتماعي في ماليزيا، وخاصة أنها كانت تتجنب الاحتكاك بالناس العاديين.
واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي عام 2018 ، بصور اقتحام الشرطة لشققها ومصادرة ممتلكاتها وزوجها منها صور تحميل عربات التسوق لـ 500 حقيبة يد فاخرة ومئات من ساعات اليد والمجوهرات و 12 ألف قطعة مجوهرات يُقال إن قيمتها وصلت إلى 273 مليون دولار .
ونظراً لوجود عدد كبير من حقائب "هيرميس بركيني"، واهتمامها المفرط بالعلامات التجارية الفاخرة لملابسها، تدقق المحكمة بشكل أوسع في مصدر ثروتها.
مهاتير محمد
إنها قصة عودة سياسية نادرة، فهو في الـ 93 من عمره، إنه الرجل الذي هيمن على السياسة الماليزية كرئيس للوزراء في الثمانينيات والتسعينيات وأوائل الألفية الثانية، وهو يقودها الآن مجدداً.
عاد مهاتير محمد إلى السلطة منهياً مسيرة نجيب رزاق.
وقال مهاتير أثناء حملته الانتخابية في أوائل مايو/أيار 2018 : " أعتذر للجميع عن تولي نجيب السلطة، لأنني أنا من دعمه، وهو أكبر خطأ في حياتي. أريد تصحيح ذلك الخطأ".
وبعد أيام من الحملة الانتخابية، صدم العالم بفوزه على حزبه السابق ، الذي كان يحكم ماليزيا لأكثر من نصف قرن.
وكانت عودة مهاتير مدعاة ترحيب على نطاق واسع بين الماليزيين، وأشاد الكثيرون بجهود حكومتهم الجديدة في تقديم أولئك المتهمين إلى العدالة.
لكن يشير مراقبون سياسيون إلى أن رجل الدولة المسنّ لم يمهد الطريق لنجيب إلى السلطة فحسب ، بل كان قد اتهم أيضاً بالتسلط خلال فترة حكمه الطويلة.
جو لو
يصف محققون ماليون وأمريكيون المصرفي الماليزي من أصول صينية من جزيرة بينانغ المزدهرة والمعروف باسم جو لو، بأنه أحد العقول المدبرة لعملية احتيال في قضية إم دي بي1.
وعلى الرغم من أنه لم يشغل أي منصب رسمي في ذلك الصندوق السيادي، إلا أنه قيل أنه لعب دوراً مهماً في أنشطته.
ويقول الصحفيان برادلي هوب وتوم رايت في كتابهما "حوت المليار دولار" الأكثر مبيعا لعام 2018 والذي يروي مغامرات جو لو في هذا المجال: "جو لو هو الشخص الأهم في "إم دي بي1" وبطل الحفلات الغامضة".
ويقول ممثلو الادعاء في الولايات المتحدة إن جو لو، استفاد من علاقاته السياسية القوية لإبرام صفقات مقابل مئات الملايين من الدولارات على شكل رشاوي.
وأشاروا إلى إنه تم غسل المليارات من الدولارات من خلال النظام المالي الأمريكي في شراء عقارات وأعمال فنية باهظة الثمن، إضافة إلى تمويل أفلام في هوليود. كان لو يجمع بين عالم المال والترفيه والتجارة.
وساعدت الحفلات الفخمة والصداقات مع الملوك العرب والمشاهير الغربيين في صعوده السريع إلى القمة.
ويتكهن الصحفيان في كتابهما، أنه قد يكون لدى جو لو سيولة نقدية أكثر من أي شخص آخر على وجه الأرض.
تيموثي ليسنر
مثّل هذا المصرفي الألماني الأنيق واحدة من أقوى المؤسسات المالية في العالم، غولدمان ساكس في وقت كان البنك يسعى فيه إلى التوسع في آسيا.
وفي أعقاب الأزمة المالية عام 2008 ، جنى تيموثي في جنوب شرق آسيا (ماليزيا على وجه الخصوص) أرباحاً كبيرة للبنك وصعد نجمه ليصبح رئيس مجلس إدارة الشركة الاقليمي.
وكان بنك غولدمان ساكس قد رفض سابقاً التعامل مع جو لو، بسبب شكوك حول مصدر أمواله بحسب ممثلي الادعاء، ولكن علاقات جو القوية مكّنته من الحصول على صفقات تجارية لصالح غولدمان ساكس.
ويُزعم أن البنك حصل على 600 مليون دولار على شكل رسوم عن ثلاث عمليات بيع سندات لجمع 6.5 مليار دولار بين عامي 2012 - 2013.
وقد أقر تيموثي بأنه مذنب في التهم الموجهة إليه بغسيل أموال وانتهاك قوانين مكافحة الفساد من خلال رشوة مسؤولين أجانب.
وطالبته الحكومة الماليزية البنك بدفع مبلغ 7.5 مليار دولار.
وماذا عن المشاهير؟
ضمت دائرة فضيحة إم دي بي1، نجوماً من هوليوود إلى جانب الساسة ورجال المال.
لم يتم اتهام أي من المشاهير بمخالفات على الإطلاق، لكن صلاتهم الاجتماعية برجل الأعمال جو لو كانت موضوع تقارير إعلامية عديدة وكان ذلك من خلال فيلم من بطولة ليوناردو دي كابريو.
إذ قام الممثل الحائز على جائزة الأوسكار ببطولة فيلم The Wolf of Wall Street لعام 2013 ، وشارك في إنتاجه وتمويله كل من رضا عزيز ابن روزما منصور وأخرجه مارتن سكورسيزي، وحاز عنه دي كابريو على جائزة غولدن غلوب المرموقة لأفضل ممثل، وشكر في حفل توزيع الجوائز كل من عزيز وجو لو.
وتعهد دي كابريو بمساعدة السلطات الأمريكية وأعاد لوحة لبيكاسو يقال أنها كانت هدية من جو لو.
الأصدقاء الموسيقيون قاسم دين (المعروف أيضاً باسم سويز بيتز) وأليشيا كيز
كان منتج الموسيقا الطموح سويز بيتز وزوجته النجمة إليشيا كيز ضمن الدائرة المحيطة بجو لو، إذ صور بيتز حفلة عيد ميلاد جو لو الحادي والثلاثين .
ويعود الفضل لمنتج الموسيقا بيتز في تقديم جو لو إلى عالم الفن، حيث يقال أنه اشترى أعمالاً من بينها لوحة لفان كوخ ولوحتين لمونييه بأموال "إم دي بي1".
حفلات مع باريس هيلتون
ويقال أن باريس هيلتون، وريثة سلسلة فنادق هيلتون كانت ضمن دائرة جو لو الداخلية أيضاً عام 2009، وشوهدا معاً في صور سيلفي في عدة أماكن حول العالم، من كازينوهات القمار في لاس فيغاس إلى منحدرات التزلج في ويسلر وغيرها من الأماكن حول العالم.
ميراندا كير وإلفا هسياو
الشيء المشترك بين عارضة الأزياء الأسترالية ميراندا كير والمطربة والممثلة التايوانية إلفا هستاو هو صلتهما بجو لو.
بعد سلسلة من اللقاءات الغرامية (كالإبحار حول أوروبا في 10 أيام)، قام جو لو بتقديم بيانو ضخم من الإكريليك لميراندا كير، التي تتلقى أغلى أجر كعارضة في العالم. بالإضافة إلى مليون دولار وقلادة زنتها 11 قيراطاً من الألماس مع أقراطها.
واصطحب لو المغنية التايوانية إلفا هسياو إلى دبي في رحلة بلغت تكلفتها مليون دولار، حيث تناولا الطعام على شاطئ خاص، وفقًا لما جاء في كتاب "حوت المليار دولار".
صحفيون
لولا عمل الصحفيين الذي استمر سنوات إىل أن تم كشف النقاب عن قصة "إم دي بي1" لبقيت هذه الفضيحة طي الكتمان. فقد فجر الصحفيون قنبلة بعد قنبلة بشأن صفقات الصندوق وأجبرو إ/ دي بي1 على الخضوع للمساءلة القانونية.
كلير روكاسيل براون ، تقرير ساراواك
بدأت الصحفية البريطانية المولودة في ماليزيا بالتحقيق في تعاملات النخبة السياسية في ماليزيا منذ أكثر من عشر سنوات.
وكان موقعها الالكتروني "ساراواك" يركز على التعاملات الغامضة في ولاية ماليزية واحدة قبل أن تتجه إلى ملف "إم دي بي 1" بعد أن أبرم صفقة مشبوهة على حد قولها.
وفي نهاية عام 2013 ، تلقت الصحفية معلومات مفادها أن ابن نجيب رزاق أنتج فيلم "ذئب وول ستريت" وقالت: "بدأت بالبحث أكثر في هذا الموضوع فقط لأنني لم أستطع مقاومة مثل هذه القصة المهمة الواضحة".
بدأت البحث فيها في الوقت الذي لم تكن وسائل الإعلام المحلية الماليزية راغبة أو قادرة على متابعة هكذا قضية.
وفي بداية عام 2015، تلقت براون أكثر من مئتي ألف وثيقة عن مخالفات بنك سويسري من خافيير خوستو الذي أشار إلى إيداع 700 مليون دولار مباشرة في حساب شركة تابعة لجو لو كجزء من معاملات "إم دي بي1".
وبعدها بأشهر، نشرت روكاسيل تفاصيل حساسة للغاية زعمت فيها أنه تم إيداع مبلغ 700 مليون دولار عام 2013 في حساب رئيس الوزراء نجيب رزاق.
وبعد نشرها لتلك المعلومات، أغلقت السلطات الماليزية موقعها على الإنترنت وأصدرت أمراً باعتقالها.
وقالت وقتها: " كان لديّ تواصل مع أشخاص من جميع أنحاء العالم يتصلون بي لتقديم معلومات لها صلة بالملف، وكان هناك أشخاص يلاحقونني أينما اذهب ويلتقطون لي الصور، لذلك كان علي إبلاغ الشرطة"."
توم رايت وبرادلي هوب، وول ستريت جورنال
في عام 2018 صدر كتاب "حوت المليار دولار" الذي يتحدث عن "مغامرات" جو لو وأصبح من أكثر الكتب مبيعاً في ماليزيا.
وكان الكاتبان توم رايت وبرادلي هوب يحققان في مصير أموال "إم دي بي1" لسنوات في صحيفة وول ستريت.
وقال هوب: "كان هناك الكثير من الضوضاء والمعلومات الخاطئة ". فقد أصبحت فضيحة "إم دي بي1" واحدة من أكبر الفضائح المالية في العالم.
وربما كان للكتاب دور في ازدياد وتيرة الضغط عالميا للبحث عن جو لو في العديد من البلدان. وأضاف: " لقد استفاد الكثيرون من كتابنا لفهم وشرح تفاصيل الفضيحة المذكورة بمن فيهم رئيس الوزراء الحالي مهاتير محمد".
توني بوا
يتولى المشرّع توني بوا، وهو وزير مالية ماليزيا دور المدعي ضد القائمين سابقا على "إم دي بي1" في ماليزيا ، والذي دارت حوله تساؤلات مستمرة في ظل حكومة نجيب رزاق الذي كان معارضا له.
وقال لبي بي سي أثناء زيارة لسنغافورة: "نجيب رزاق هو الجاني الأكبر. وعندما يحاول التضليل سأعمل على توجيه الأمور في الاتجاه الصحيح"
وقال بوا، إنه لا يزال يعمل على إصلاح الأضرار التي لحقت بالاقتصاد، ولم يعد هناك المزيد من الخدع، وإنها عملية تطهير الآن واضاف "نحن بحاجة إلى تحقيق النمو الاقتصادي وإغلاق ملف هذه الفضيحة هو جزء كبير من ذلك."
وقد بدأت أولى جلسات محاكمة نجيب رزاق في 3 أبريل/نيسان الحالي، وإذا أدين بالتهم الموجهة إليه، فإنه سيقضي عقودا من حياته في السجن. أما جو لو فلا أحد يعرف أي هو حاليا.
فيديو قد يعجبك: