لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

عبدالوهاب المسيري.. «فيلسوف» في الشارع!

عبدالوهاب المسيري.. «فيلسوف» في الشارع!

خيري حسن
09:00 م السبت 14 أكتوبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ذهبت ذات يوم من عام 2005، مع زميل صحفي، لمتابعة فاعلية من فعاليات الحركة المصرية للتغيير «كفاية». والتي كان قد أعلن عنها مسبقًا في ذلك الوقت، وكان مكانها وسط القاهرة. وصلنا إلى ميدان طلعت حرب. وهناك «رن» هاتفه الجوال، فتوقف عن السير بعدما رد بصوت هادئ ثم نظر لي وهو يبتسم. وقال لي: اذهب يا صديقي أنت إلى المظاهرة، أما أنا فسأعود إلى صديقتي التي تنتظرني على المقهى، ثم وضع هاتفه في جيبه، ونظر لي وهو يضحك ويقول: الحب يا صديقي ينتظرني على المقهى. وعاد يلهث وعلى ظهره شنطة صغيرة يضع فيها متعلقاته اليومية، ويغني بصوت أسمعه “الحب كله.. حبيته فيك.. الحب كله. وزماني كله.. أنا عشته ليكى.. زماني كله.

وأكملت سيري حتى وصلت إلى ميدان طلعت حرب في طريقى إلى شارع عبدالخالق ثروت، ومنه إلى مبنى نقابة الصحفيين. على سلم النقابة وجدت العشرات يتجمعون، وبعضهم يغني كلمات أحمد فؤاد نجم «مصر يامّه يا بهية.. يا أم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانتي شابة.. هو راح وإنتي جاية».

بعد دقائق تحركت المظاهرة المحدودة في خط سير محدد في قلب القاهرة، أثناء ذلك لمحت بين الصفوف رجلًا كبير السن. ينحني للأمام قليلًا وعلى وجهه وقار العلماء، وهدوء الحكماء، إنه الدكتور عبدالوهاب المسيري (1938-2008) الكاتب والمفكر والفيلسوف المصري الكبير. المظاهرة تواصل تحركها من شارع عبد الخاق ثروت إلى شارع 26 يوليو ومنه وصلنا إلى شارع طلعت حرب وهناك توقفت المظاهرة. وأُعلن عن انتهاء فعاليتها. تفرق الجميع، فمنهم من عاد إلى بيته، ومنهم من عاد إلى عمله. أما أنا فقد ذهبت إلى المقهى الذي ذهب إليه صديقي «مقهى زهرة البستان». عندما وصلت وجدته يجلس ومعه صديقته تنظر لي في ريبة وخوف وتوتر. أدركت بسرعة سبب ارتباكها.

قلت لها: لماذا لا تشاركين في مثل هذه الفعاليات؟ نظر لي صديقي وقال: «يا عمنا.. إحنا ملناش في السياسة». ابتسمت وقلت له: أظنك على حق.. لا يوجد أجمل من الحب، وفي نفس اللحظة ابتسمت لها وهي تنظر لي بدهشة، وأما أنا فقد كنت اقتربت من الانتهاء مما تبقى معي في كوب الشاي وقلت لهما: اليوم رأيت في المظاهرة الدكتور عبدالوهاب المسيري. هز صديقي رأسه بإعجاب. وقالت صديقته: نعم.. أعرفه.. وأحبه جدًا.. خاصة وهو يغني أغنية «من غير ليه»!

ثم تراجعت للخلف وقالت: لكن أنا أعرف أنه مات منذ سنوات.. أليس كذلك؟ نظر لها صديقي باستنكار واضح وقال لها: أنت تتحدثين عن الموسيقار محمد عبدالوهاب، أما هو فيتحدث عن العالم والمفكر الكبير عبدالوهاب المسيري.

فرددت كلمات لم أسمعها وهي تنظر بعيدًا عنا. وصديقي ينظر لي بغضب.. فوقفت في مكاني وفي يدي كوب الشاي الذي انتهيت منه ووضعته أمامهما وتركتهما وأنا أقول لصديقي: لا تنسَ أن تدفع لي الحساب. مرَّ على هذا اليوم عدة شهور، كنت فيها أتابع الدكتور عبدالوهاب المسيري من بعيد. وأسأل بيني وبين نفسي لماذا ينزل هذا العالم الجليل من عالمه الثقافي والإبداعي والفلسفي إلى الشارع في وقفات احتجاجية يعلن فيها عن مواقفه السياسية.

بعد فترة ذهبت إليه في بيته. كان يسكن في شارع مجاور من نفق العروبة في حي مصر الجديدة. استقبلتني زوجته الفاضلة وأدخلتني إلى الصالة ثم قالت: أستأذنك ألا تطيل عليه.. فهو مريض.. هززت رأسي وأنا ألمح من باب حجرته سريره الذي يتمدد عليه.. وبجواره محاليل طبية. بعد ثوانٍ كنت أمامه. قلت: سلامتك يا دكتور!

ابتسم وقال: الحمد لله. تحدثنا في مواضيع شتى، ثم توقفت معه عند لحظة قراره النزول للشارع في مظاهرات حركة «كفاية» قال: كنت أجلس في بيتي. وفجأة قلت لنفسي.. كيف نترك مصر تورث ونحن جالسين في بيوتنا، ويومها أخذت قراري وانضممت للحركة بلا تفكير.
قلت: لكن النظام وقتها كان شرسًا، وكان أحيانًا ينكل ببعض معارضيه.. وقبل أن أكمل كلامي قاطعني قائلًا: وهل كان المطلوب مني أن أخاف من قوته وبطشه.. يا ابني الأنظمة الضعيفة المهزوزة هي التي تستخدم العنف والبطش.

بعد دقائق دخلت زوجته الفاضلة حتى تذكره بموعد الدواء، وتعطيني فنجان القهوة الذي كنت طلبته قبل قليل.

في هذا اليوم شعرت بأن الرجل يتمنى أن يعيش عمرًا آخر، ليس لأنه يحب الحياة، لكنه يريد أن يعيش من أجل مصر.. لقد عاش الدكتور المسيري عمره كله يكتب الدراسات والمقالات عن إسرائيل والحركة الصهيونية وهو يؤمن بأن الطبيعة الوظيفية لإسرائيل تعني أن الاستعمار اصطنعها لتقوم بوظيفة معينة لأنها مشروع استعماري، ولا علاقة له باليهودية. سألته: يعتقد البعض أن دور المثقف يتوقف عند التوعية فقط والطرح فقط. رد بقوة وغضب: خطأ.. دور المثقف في الشارع، عندما يشعر بأن الشارع في حاجة إلى وجوده! بعد دقائق حضر طبيبه الخاص الذي يتابع حالته. نظر لي الطبيب فعرفت أنه يريد مني مغادرة الحجرة، وقد فعلت.

سلمت على الدكتور المسيري. وانحنيت فقبلت جبهته وودعته، ثم خرجت من باب عمارته أترجل في شوارع حي مصر الجديدة الهادئ، وأتذكر كلماته عن المثقف ودوره في الحياة الثقافية والعامة. عدت إلى وسط البلد للجلوس على المقهى. قبل أن أستقل المترو عائدًا إلى بيتي.. وهناك وجدت صديقي يجلس مع صديقة جديدة له.. ويحدثها عن البنيوية، والمشاريع الثقافية الجديدة، وعن حاضر الأمم في ظل تدهور الحضارات والثقافات.. وهي جالسة أمامه تسمع وتداعب شعرها الطائر على نصف وجهها وأظن أنها لا تفهم شيئًا مما يقوله. في هذه المرة لم أذهب للجلوس معه، وهو لم يدعُني للجلوس. وإن كان قد أشار من بعيد للقهوجي قائلًا له: “شوف الأستاذ يشرب إيه” ابتسمت له من بعيد، ولم أكمل جلستي وتركت المقهى عائدًا إلى بيتي وفي ذهني كلمات الدكتور عبد الوهاب المسيري عن مصر والمثقف والثقافة، والحاضر والمستقبل.

إعلان

إعلان

إعلان