لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

نبوءة يوسف إدريس

نبوءة يوسف إدريس

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 14 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"سوف نتحول إلى مجتمع جاهل، وإن كان بعضه بالشهادة متعلمًا. مجتمع غير واعٍ أو مدرك، أي غير مثقف. مجتمع ليس له صفوة قائدة مثقفة محترمة تتمسك بالقيم، وتدافع عنها، وتدعو إليها. مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلامًا وخمولًا من السماء الملبدة بالغيوم".

تلك بعض جوانب نبوءة الراحل الدكتور يوسف إدريس، عن التحولات المتوقعة في المجتمع المصري والصفوة المثقفة والمتعلمة فيه، التي عرض لها في مقال شهير نشره بجريدة الأهرام في يوليو 1984، تحت عنوان "أهمية أن نتثقف يا ناس".

وقد أثار المقال جدلًا كبيرًا في حينه، وغضبًا من مؤسسة الثقافة الرسمية، وعلى رأسها وزير الثقافة في ذلك الوقت الدكتور "عبدالحميد رضوان"، الذي كتب مقالًا بجريدة الأهرام بعنوان: "مصريتنا حماها الله"، هاجم فيه شخص ورؤية ودعوة الراحل الدكتور يوسف إدريس.

فما هي حكاية هذا المقال الشهير، ومصير نبوءة يوسف إدريس للمجتمع والنخبة المصرية، بعد أكثر من أربعة عقود على تلك النبوءة؟

بداية، كان يوسف إدريس، يهدف من هذا المقال إلى لفت نظر السلطة إلى أبعاد مؤامرة تحاك ضد العقل المصري، وتهدف إلى شل عقل المصريين عن التفكير، وتشجيع التسيب وعدم الانضباط في سلوكهم، وإشاعة الفوضى في وجودهم وحياتهم.

وقال فيه: إن المصريين شعب يُقدس المعرفة والثقافة، وهو شعب متحضر وعميق الصلة بالقيم الثقافية والحضارية العليا. وأكبر دليل على ذلك المكانة الكبيرة التي رفع لها المصريون مهنة الكاتب، وشخصيات فكرية وثقافية مثل طه حسين والعقاد، وأحمد حسن الزيات، والمازني، وتوفيق الحكيم، وحسين فوزي، وأحمد أمين، ونجيب محفوظ، وزكي نجيب محمود، وغيرهم من المفكرين والأدباء.

ثم لفت الانتباه إلى حدوث "تحوّل مرضي" في المجتمع المصري، كان من نتيجته أن انقلب موقف المصريين من الثقافة والمثقفين رأسًا على عقب. وبمقتضى هذا الانقلاب أصبحت كلمة "مثقف" تُقال من أجل التوبيخ والاستهزاء، وصارت كلمة "ثقافة" يتأفف لدى ذكرها الكثير من أهل الحكم والبسطاء.

وقد أرجع بدايات هذا التحول المرضي في موقف المصريين من الثقافة والمثقفين، إلى أعقاب قيام ثورة يوليو 1952، التي دفعت بقطاع عريض من أبناء "الطبقة الوسطى البسيطة" إلى صدارة المشهد الثقافي والسياسي، بعد أن كانت مهمشة.

وقال: إن الثورة التي وفرت لهؤلاء فرص التعليم المجاني، وفتحت لهم أوسع المجالات للكسب المادي والصعود الطبقي، لم توفر لهم الثقافة الحقيقية التي تصنع منهم كائنات إنسانية متحضرة منظمة، تجمع بين الرقي الاجتماعي والاقتصادي والرقي الإنساني والسلوكي والفكري.

ورأى يوسف إدريس أن هذا التحول المرضي قد اكتمل وبلغ مداه في فترة "الانفتاح الاقتصادي الساداتي"، الذي حُلت فيه "صواميل" المجتمع، وفُتح الباب لـ"ثقافة الفهلوة"، وصارت "روح الشعب الثقافية" وديعة غير محافظ عليها في أيدي القطاع الخاص، الذي أحال المسرح إلى كباريه، وأحال مسلسلات التليفزيون إلى وسيلة لإنقاص وزن العقول والاستخفاف بها.

كما أشار إلى أن تلك الفترة شهدت أيضًا، موت دور الكِتاب وموت المجلات الثقافية والعلمية، وتحوُّل الجامعات من دور للثقافة العليا إلى مدارس متوسطة يتخرج فيها أنصاف حرفيين بدرجة بكالوريوس وليسانس.

ثم ختم مقاله بهذا السؤال: هل ليست لدى حكومتنا اليوم إمكانيات ثقافية متاحة لإفشال تلك المؤامرة التي تحاك ضد الإنسان والعقل المصري، وترفع المستوى الثقافي لشعبنا، وتزيد في مستوى وعيه النقدي، وقدرته على الإدراك والتمييز والحكم؟

وكانت إجابته: نعم لدينا إمكانيات كثيرة مثل مؤسسات الثقافة والإعلام الحكومي، وعلى رأسها التليفزيون والإذاعة والصحافة والمسارح والمطابع والهيئة العامة للكتاب والمجلس الأعلى للثقافة، لكن هذه الإمكانيات مُهدرة نتيجة شيوع السلبية وانعدام الضمير وقلة القيم، وتفشي الفساد والمحسوبية، والارتجال في المشروعات والحلول.

تلك خلاصة المقال الشهير للراحل يوسف إدريس، الذي كتبه منذ أربعة عقود ماضية، ليقول إن المجتمع المصري ينحدر ثقافيًا، ومن ثم سلوكيًا وأخلاقيًا بدرجة خطيرة، وإن الغوغائية تسود حياتنا، وإننا ذاهبون إلى كارثة محققة إن لم نجعل رفع المستوى الفكري والثقافي للشعب أولوية قصوى.

ويمكن القول إن نبوءته التي هاجمتها في زمانها مؤسسة الثقافة الرسمية، قد تحققت إلى حد بعيد، وأننا نعيش في أجواء "الكارثة" التي حذرنا هو منها، ونشاهد تجلياتها في كل ما هو حولنا من تشوهات وأمراض فكرية وثقافية وسلوكية، بما يجعل دعوته إلى "أهمية أن نتثقف يا ناس" أكثر حضوراً وأهمية في مرحلتنا الحالية.

فهل تجد دعوة الراحل الدكتور يوسف إدريس من سلطة حكم اليوم أذانًا صاغية؟ أم أن السلطة ترى أن الثقافة بالنسبة لها أولوية غير قصوى في سعيها لتوطيد أركان حكمها، ودعم شرعيتها، ومواجهة التحديات والمخاطر والتهديدات الداخلية والخارجية التي تواجه الدولة المصرية، وعلى رأسها عنف وإرهاب وتدليس جماعات الإسلام السياسي؟

على الرغم من أن معركتنا مع هؤلاء معركة فكرية وثقافية بالأساس، وانتصارنا فيها يعتمد إلى جانب المواجهة الأمنية، على تنمية الوعي الوطني والنقدي والمستوى الثقافي للمصريين.

إعلان

إعلان

إعلان