لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

السياسة والحرب على "رقعة شطرنج"

د. عمار علي حسن

السياسة والحرب على "رقعة شطرنج"

د. عمار علي حسن
09:01 م الخميس 26 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تحلو لكثيرين استعارة لعبة "الشطرنج" في ترتيبات السياسة، وتجهيزات الحرب والتخطيط لها، وهي في هذا ربما تكون أقرب الألعاب التي تؤدي دورها هذا في صمت وبراعة، (1) وإن كانت تقوم بتصوير السياسات الدولية باعتبارها "عقلانية" و"منتظمة" و"هادئة"، وتصوير الحرب كأنها ممارسة بشرية تمضي بإحكام شديد، حيث يتمكن القادة العسكريون من أن يحققوا في ميادين القتال كل ما دار في عقولهم، وفكروا فيه مليًّا، قبل النزال المهول، وهذا أمر فيه الكثير من الخيال.

وقد ولدت لعبة الشطرنج في حضن تصور فلسفي يرى أن "السياسة عقلانية" إلى حد بعيد، إذ

يقال إن ملكاً هندياً يدعى بلهيث أراد اختراع لعبة تعتمد على العقل الصرف بدلاً من لعبة فضلها ملك هندي سابق هو باهبود تعتمد على الحظ والعقل معاً، وهي "الطاولة" أو "النرد"، من منطلق إيمان الملك اللاحق بأن العقل وحده محرك الحياة، فجاء "الشطرنج" معبراً عن فلسفته تلك. (2) وهذا النزوع العقلاني ربما هو ما دفع وزير المالية الألمانية بيير شتاينبروك، الذي تمنى لو نازل نابليون بونابرت في لعبة الشطرنج، أن يرى أن هناك أشياء مشتركة تربط الشطرنج والسياسة، حيث قال: "كل منهما له علاقة بالتخطيط الاستراتيجي حيث يتحرى الشخص موقفه أولاً، ثم يضع نفسه محل الخصم ليعرف ماذا ينوي فعله في الخطوة التالية".

وإذا كان "الشطرنج" هو لعبة الملوك المفضلة، فهو كذلك لعبة العموم التي تمكن خيالهم من التحليق بعيداً عن القاع، لينصبوا أنفسهم، طيلة وقت اللعب، قادة وملوكاً يسوسون الجيوش ويدخلون الحروب ليكسبوها أو يخسروها على رقعة واحدة، وهم في هذا مثل الملوك اللاعبين، يحققون النصر دون أن يروا صور القتل والتدمير والأشلاء التي تصاحب الحروب الحقيقية، أو حتى بعض الألعاب الإلكترونية الحديثة، فإن انتصروا تواضعوا بلا ضوضاء، وإن هُزموا صبروا بلا انفعال ولا احتداد ولا احتقان.

وبذا باتت "لعبة الشطرنج مجازاً متكرراً دالاً على شؤون العلاقات الدولية، تزين الصورة الملتقطة فنياً لملوك وفرسان (شاهات وبيادق) العديد من الكتب أو المقالات البحثية، خصوصاً تلك المتعلقة بنظرية العلاقات الدولية" (3)، كما أنها صارت كـ"لعبة ملكية" هي المفضلة لدى ساسة مشهورين مثل نابليون بونابرت الذي كان يخطط لمعاركه على رقعة شطرنج، ولينين وهتلر وتشرشل وجيفارا وكاسترو وأوباما، كما مارسها أدباء مثل شكسبير وماركيز، ووظفها الأول سياسياً في مسرحيته "العاصفة" حين أضاف مشهداً إليها تقديراً للأميرة إليزابيث التي كانت واحدة من لاعبات الشطرنج الماهرات، فيما أورد الثاني شيئاً عنها في روايته "الحب في زمن الكوليرا"، حين توقف الدكتور أوربينو عن لعبها بعد انتحار صديقه جيرمايه.(4)

وقد تعددت استعارة الشطرنج في السياسة والتخطيط الاستراتيجي، فها هو مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبجينو بريجنسكي يرى العالم باعتباره رقعة شطرنج في كتابه الشهير "رقعة الشطرنج الكبرى: الأولويّة الأمريكية ومتطلباتها الجيوستراتيجية"، الذي يحوي تنظيراً وتحليلاً ونبوءة لكيفية استمرار بلاده مسيطرة على العالم أطول فترة ممكنة، عبر سرد تاريخي أراد من خلاله أن يبرهن على أن الإمبراطورية الأمريكية مختلفة عن غيرها من الإمبراطوريات التي حكمت العالم منذ فجر التاريخ، ثم يعدد ركائز قوتها، وأسرار ظهورها السريع كقطب أوحد في العالم المعاصر، والقوى الأخرى التي يمكن أن تنافسها، والتحديات والتهديدات التي ستواجهها، والأماكن التي سيتعزز فيها النفوذ الأمريكي، والأرض التي ستكون نقطة انطلاقها إلى الهيمنة على العالم، والقوى التي ستساندها في سبيل تحقيق هذا الهدف. (5) وهناك من حاول توزيع أدوار الدول في منطقة الشرق الأوسط بالطريقة نفسها التي تتوزع بها قطع الشطرنج على رقعتها، فدولة تمثل "الملك" وأخرى تمثل "الوزير" وثالثة تمثل "الطابية" ورابعة تمثل "الحصان" وخامسة هي "الفيل"، وهناك من ليس بوسعها سوى أن تكون "بيادق"، ويدور التزاحم والتنافس والصراع بينها على هذا الأساس، بينما تحاول قوى أخرى أن تقحم نفسها على الرقعة، باحثةً عن دور بأي ثمن.

واستعار راي تاكير، من واقع خبرته الطويلة بالشؤون الإيرانية وعضويته في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، لعبة الشطرنج في تحليل السياسة الإيرانية الخفية، خاصة حيال العراق، التي تم تنفيذها بأيدي أحمدي نجاد الذي يمثل جيل العائدين من الحرب، وأستاذه خامنئي، والبراجماتي هاشمي رافسنجاني، والإصلاحي محمد خاتمي، في غفلة من إدارة الرئيس جورج بوش الذي غزا العراق، فسلمه، دون قصد منه، إلى النفوذ الإيراني. (6)

وصور وليام جاري كار، وهو كان ضابطاً بالبحرية الكندية وكاتباً تمت تصفيته وعائلته في ظروف غامضة، الأرض باعتبارها مجرد رقعة شطرنج، تمتد أيدٍ خفية لتحرك ما عليها من قطع في صمت ومكر ودهاء، ليصبح القادة بل الشعوب طوع بنانها، قاصداً بهذه القوة الخفية حاخامات اليهود وجماعات الضغط التابعة لهم في مختلف الدول، مسمياً إياهم بالنورانيين الملحدين، الذين يسعون إلى نشر الفساد والرذيلة، خصوصاً بين الشباب، وإنهاك الأمم، سواء بدفع عملائهم إلى سدة الحكم، أو بنصب أفخاخ لكبار الساسة كي يقعوا في الفساد والرشوة والتزوير، وبالتالي يسهل على هؤلاء المخفيين ابتزازهم، ومن ثم تسييرهم كيفما شاءوا، أو عبر إثارة الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لترهق الدول بالديون والاضطراب والفوضى. ويصل كار في تصوره هذا إلى درجة أنه يعتبر الثورات الكبرى، الإنجليزية والفرنسية والروسية والإسبانية حلقات في مسلسل واحد متناسق ومخطط له من قِبَل المنظمات السريّة العالمية، وأن قادة كبار مثل تشرشل وستالين وروزفلت هم مجرد أحجار على رقعة شطرنج، تحركوا بلا إرادة منهم، مستشهداً في كتابه هذا، الذي استغرق إعداده أربعة عقود، بقرائن تبين تغلغل عائلات يهودية كبرى في صفوف النخب الحاكمة في بلدان عدة لتصبح في طليعتها، وبكتب سابقة منها "برتوكولات حكماء صهيون" وبعض المخطوطات المحفوظة في مكتبات عامة. (7)

بل تعدت استعارة لعبة الشطرنج مسائل السياسة والحرب، حيث تم توظيفها في التعبير عن اللغة ذاتها، وهي بالقطع حامل المجازات الأول. وقد استخدم عالم اللغويات السويسري فردينان دي سوسور كي يقرب قواعد اللغة ومكوناتها إلى الأذهان، متجاوزاً الدرس اللغوي ذا الطابع التاريخي، باعتبارها تطوراً للأصوات، وناظراً إلى اللغة كرقعة شطرنج يتغير وضعها باطراد في كل نقلة يقوم بها أحد اللاعبين، وعندها يمكن وصفها بشكل كامل نحدد فيه وضع كل قطعة في الصورة الإجمالية الماثلة أمامنا، متجاوزين الشكل السابق لها، كما نغض الطرف باستمرار عن نقلاتنا الفائتة على الرقعة ونحن نتقدم في اتجاه تحقيق الهدف وهو "موت الملك" أو خنقه. وقد كرر الفيلسوف النمساوي لودفج فتجنشتاين الاستعارة ذاتها، رابطاً المعنى المفرد لأي اسم بالقضية التي نعالجها في كلامنا أو كتابتنا، ليشترك اللعب واللغة، بوصفها ممارسة اجتماعية، مع الشطرنج في عملية تبادل الأدوار بين اللاعبين، واحترام قواعد اللعبة، وفهم السياق العام الذي تتم فيه. (8)

لكن استعارة الشطرنج في عالم السياسة تبدو أشبه بمغامرة، أو تمرين عقلي خيالي، لأن واقع اللعبة غاية في التعقيد، حيث يخبرنا اللاعب الروسي جاري كاسباروف، الذي احتل عرش بطولة العالم للشطرنج بلا منازع طوال 15 سنة، أن البدائل أو الاحتمالات في لعبة الشطرنج، التي لها أبعاد سياسية وحربية وقانونية وفكرية ونفسية وروحية، تصل إلى 10 مرفوعة 120 من الألعاب المحتملة (10^120)... (9)

لقد كان الشطرنج في سالف الأيام وسيلة مجدية لإرساء دعائم السلم العالمي حين يقبل المتحاربان بنتائج مباراة في هذه اللعبة، إلا أنه سرعان ما نسبت المشاكل السياسية إليها، بعد أن لعبت بها السياسة، وغيرت أهدافها النبيلة أو البريئة إلى استعمار مباشر، أو غير مباشر، للدول والمجتمعات، بل أحياناً إلى استعمار للعقول والأفكار التي تدعو إلى النقيض من هذا. ولم تلبث أن زاحمت لعبة "الدومينو" الشطرنج في السياسة الدولية، قبل أن تتحدث وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس عما أسمتها "الفوضى الخلاقة"، (10) فنظرية الدومينو ظهرت خلال الحرب الباردة، وتقوم على أنه إذا تشابهت دول في نظم الحكم فإن أي تغيير في نظام منها ستتبعه تغييرات متتالية في البقية، في حالة أشبه بتوالي أو تدحرج قطع الدومينو، حيث إن سقوط إحدى قطع الدومينو على القطع الأخرى التي تليها، تؤدي إلى توالي سقوطها في اتجاه واحد. وتم استعمال هذه النظرية في مجال النظم السياسية المقارنة، لتتوصل إلى نتيجة مفادها أن تقدم وتراجع درجة الديمقراطية في دولة معينة ينتشر ويُعدي الدول المجاورة لها. (11)

وربما وجد كاسباروف نفسه أن استعارة الشطرنج في عالم السياسة ليست بهذا الترتيب المحكم الذي كان يدور في ذهنه، فقد حاول اقتحام عالم السياسة بدخوله في منافسة شرسة على الرئاسة الروسية، فلم يجد خصمه مستعداً لمنازلته بالهدوء والعقلانية والحكمة التي تسيطر على لاعبي الشطرنج، إنما أودعه السجن، وأنهى اللعب قبل أن يبدأ، وبذا تبقى الحقيقة المعبرة عن عدم إحكام هذا اللون من الاستعارة هي ما تقوله كارن روس: "يتعذر التنبؤ بالطابع المستقبلي لهذا العالم.. لقد مضى إلى غير رجعة زمن استغفالنا وجعلنا نرى العالم رقعة شطرنج: مخططاً ومفصلاً وواضحاً، بل سوف يتبدى لنا كما هو في الواقع الفعلي". (12)

الهوامش:

[1] لمعلومات مفصلة عن هذه اللعبة وقواعدها، انظر:

Eric Schiller, The Official Rules of Chess, Cardoza Publishing Author,2003,

2 حميد شاكر، "لعبة الشطرنج بين فن التفكير ورقعة السياسة"، موقع "بنت الرافدين"، http://www.brob.org/contact/200911/n14064.htm

3 كارن روس، "الثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الواحد والعشرين"، ترجمة: فاضل جتكر، (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، 2017) الطبعة الأولى، ص: 151.

4 عبدالعزيز الرباح، "الشطرنج.. لعبة مشاهير السياسة وهوس هتلر وغيفارا"، موقع العربية، 25 ديسمبر 2017، https://www.alarabiya.net/ar/sport/other-sport/2017/12/25/%

5 زبجينو بريجنسكي، "رقعة الشطرنج الكبرى: الأولويّة الأمريكية ومتطلباتها الجيوستراتيجية"، ترجمة: أمل الشرقي، (عمان، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، 1997) الطبعة العربية الأولى.

6 راي تاكير، "إيران الخفية: الشطرنج السياسي السري بجمهورية ولاية الفقيه"، ترجمة: مجدي كامل، (القاهرة، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، 2007) الطبعة الأولى.

7 وليام جاي كار، "أحجار على رقعة الشطرنج:"، ترجمة: سعيد جزائرلي، تعليق وتقديم: مجدي كامل، (القاهرة، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، 2011)..

8 هشام خالد، "اللغة والشطرنج"، موقع "إضاءات"، 15 إبريل 2017، https://www.ida2at.com/the-language-and-chess/

9كارن روس، مرجع سابق، ص: 151.

10 د. عبدالله العوضى، "السياسة الدولية: شطرنج أم دومينو؟"، جريدة (الاتحاد)، 28 إبريل 2017.

11 حول هذه النظرية، أنظر:

Frank Ninkovick, Modernity and Power: A History of Domino Theory in The Twentieth Century, The University of Chicago Press, Chicago & London, 1st Edition, 1994.

12 كارن روس، مرجع سابق، ص: 176.

إعلان

إعلان

إعلان