لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

المستقبل والميديا.. والسؤال العتيق: "أين ترعرعت سيدتي؟"

د.هشام عطية عبدالمقصود

المستقبل والميديا.. والسؤال العتيق: "أين ترعرعت سيدتي؟"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 22 نوفمبر 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

سيبدو الأمر حاضرا منذ زمن بعيد، وذلك عبر تقديمه في مشهد سينمائي دال وبارع عن كيف يكون الإعلام رديئا، فبينما تمضي الراقصة "لعبة" لتدخل أحد الملاهي في فيلم لعبة الست -بطولة نجيب الريحاني وتحية كاريوكا- وحيث يمضي تابعا للبطلة "لعبة" شخص يسير خلفها ويطلب أن يجري حوارا معها، يلح كثيرا ويقول: "فلتسمح سيدتي" وهي ترفض فيصر، حتى تضطر أن تسمح له بالجلوس "على مائدتها"؛ لينتهي هذا الماراثون بالتعبير الأشهر عن الأداء المهني الهابط بسؤاله لها: "أين ترعرعت سيدتي؟".

لقد عبر هذا عن مساحة من الأداء الصحفي والإعلامي، كان لها انتشار في فترة إنتاج هذا الفيلم –عام 1946- وامتد هذا بشحوب أو بروز وفق سياقات الأزمنة ليصنعا طرفين في الميديا، أولهما الذي يعتبر الذيوع والانتشار لا يقتضي بالضرورة جهدا مهنيا، ونموذج آخر يبدو مترفعا يصفه البعض بالمحافظة والنخبوية، التي هي بالضرورة جافة متفلسفة ومتعالية عن الحياة اليومية وعادياتها.

وهكذا تم لصق "الدلالة السلبية" بمصطلحي المتعة والإثارة عند أي حديث عن كونهما ضمن مقومات الحالة الإعلامية الناجحة، ليتم فورا استحضار النموذج الصحفي السيئ، وليتم تأطيرهما باعتبارهما خرقا لنخبوية الأداء الإعلامي، دون التنبه أن المفهومين ذاتهما هما من بعض شؤون البشر وداخل سياق أحوال الإنسان في الحياة وأن المهم هو المقصود بهما وكيف يتجسدان أداء ومهنة في موضوعات وتقديمات إعلامية.

وقد أثر بالسلب داخل هذا السياق احتكار البعض لفهم ما يريده الجمهور، فذاعت مقولة تم استيرادها خارج زمنها بأن من يبتغي الانتشار والتوزيع عليه أن يتبع فلسفة أداء يكون فيها الخبر أن يعض الرجل كلبا، أي أن كل ما يخص العادي والمألوف من شؤون الحياة اليومية، هو خارج ما يهم القارئ الذي هو وفقًا لذلك أسير نهمه وتربصه كذئب للنميمة.

هل يجدر القول بأننا صرنا في عصر معولم تخفت فيه رويدا معرفة الفرد بالشؤون والقضايا القريب منها قبل البعيد، فأسلم نفسه –مضطرا- لروايات مختلفة متباينة بدون وعي أو استسهالا، هي "ذات قصد" بالضرورة يقدمها "آخرون" بعيدون جغرافيًا عن كل ما يحيط به، وحيث أثير موجات بثها يحتشد أدلجة ودعاية وتحريضا، بعد أن خفت أو بهت تأثير ودور وسائطه الإعلامية لأسباب متعددة في سرد وتقديم متنوع للوقائع العادية واليومية، وقد ازداد هذا الاعتماد بعد أن اتسع نطاق ما يحيط بالفرد ولم يعد يمكنه منفردا أن يحيط به خُبرا أو يستطيع عليه صبرا، وهنا بالتحديد يبدو النفوذ المهول للسوشيال ميديا قراءة ونقلا وتأويلا وتأثيرا مختلطا.

إن إعادة الاعتبار لتغطية أحوال الناس العادية وثقافاتهم ومعايشهم وأحوالهم وفنونهم ومتعهم الطيبة هي مجال النفاذ نحو تواصل معهم، وقربا منهم، ثم الثقة التي يتأسس عليها كل شيء، تلك التغطية المهنية التي تربط الناس بالإعلام وتوفر أيضا لوسائل الإعلام رئة التنفس والبقاء، فيكون حاضرا حين الاحتياج له، محليا وإقليميا، فاعلا لا ساكنا، مبادرا لا رد فعل، ولا يعني ذلك – كما يتصور -البعض أنه بالضرورة إعلام الشكاوي والسلبيات، وهنا يكمن فصل المهنية العظيم، عن كيف يتحقق ذلك في مناخ من توازن يبرز المتفق عليه والضروري مع إمتاع العرض والتقديم.

هذه هي ماكينة ضخ ونجاح المهنة الإعلامية ومقومات استمرارها في العالم، الإبداع في توازن لا تطغى عليه الغرائبية أو البعد عن مدار الواقع تحليقا، فينتهز البعض ذلك وقد بدت العداوة من أفواه شاشاته.

ولنكن واضحين تماما ونحن نقارب المسألة: هل اختفى من إعلام الكون التحميل والقصد والغرض يوما، وهل منع "التحيز" المصنوع من انتشار وذيوع فضائيات إعلامية إقليمية ودولية، لكنها براعة "التحميل" واحتراف المهنة إذ يتوافران أداء، لقد انتهت من عالم الميديا أفكار روجها البعض طيبا أو ناقلا ساكنا عن "الحياد" دون الوعي بأن الإنسان كائن يختار ويتحيز ويصنع ذلك منذ أن تدرك عيونه وآذانه الحياة ثم يمضي بذلك، وأنه يستعاض عنه بلفظ لطيف جذاب اسمه المهنية، التي وفق هذا العرف تمكن الميديا من أن تختار طرفا في شأن جدلي يجيد ويبرع في تبرير وجهة نظر، وانتقاء آخر يفشل ويخيب حتى في عرض موقفه بتماسك، وهكذا ومهنيا يحدث التوازن فخيم اللفظ، ليس ما يهمنا هو صراع الألفاظ بل واقع العمل واستراتيجيات الأداء الإعلامي في بناء روابط القرب من الناس والثقة والتأثير.

فلتنظر ما شاءت لك عيونك وهي تجول في الأثير والفضاء وعبر الشاشات والمنصات، ولتسأل في وداعة: لماذا يتم ضخ كل تلك الاستثمارات والإنفاق من ميزانيات الدول غربها وشرقها على مشروعات إعلامية، احترافية ومؤثرة يديرها أكفاء، لا تنطق بلغة دولها ولا تتوجه لسكان جغرافيتها، إنه الإعلام إذ يكون ضمن استراتيجية الدول قوة ونفوذا وتأثيرا وامتدادا، يحمل رسائلها ويثبت أفكارها وثقافتها وتفسيراتها وتصوراتها للأحداث، وهذا لعمرك من بديهيات حاضر الزمان.

إعلان

إعلان

إعلان