لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"ورد مسموم".. محاولة تأويل ما لم يُقل، لكننا شعرنا به

د. أمل الجمل

"ورد مسموم".. محاولة تأويل ما لم يُقل، لكننا شعرنا به

د. أمل الجمل
09:00 م السبت 30 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أعتقد أنني مثل عدد غير قليل وقعنا في حيرة إزاء علاقة تحية وصقر عبدالواحد في "ورد مسموم" أولى تجارب المخرج أحمد فوزي صالح في المجال الروائي بعد فيلمه الوثائقي، "جلد حي"، الذي حقق له صدى جيدًا وسمعة فنية طيبة.

ربما نجح البعض في فض الاشتباك بعد عدة مشاهد أكدت بوضوح أنهما ليسا زوجين أو حبيبين وإنما تربطهما علاقة إخوة، وربما خرج البعض الآخر وما زالت الحيرة تُطوقه أو يتساءل عن شبهة عُقدة ليبيدية فرويدية، ومن المحتمل أن طرفاً ثالثاً لم تُخالجه تلك الحيرة، ولم يعترف بأي التباس من أساسه.

رغم ما سبق، فلا بد من توضيح أن هذه الحيرة بدرجاتها لم تُقلل من أهمية الفيلم، ولم تخصم من بنائه الدرامي، بل كانت تُضيف إلي رصيده خصوصا أنها تمنحنا مساحة للتأمل ومحاولة الفهم طوال قيام المخرج بالحفر المتوالي العميق تحت طبقات جلد الشخصية وداخل أعماق تحية، رغم أنها لا تنطق إلا بكلمات قليلة طوال الفيلم.

بناء مرتكزات الالتباس؟!

لماذا بدت العلاقة بين تحية وأخيها صقر عبدالواحد غامضة وكأنها تُحيل إلى تأويلات متباينة خصوصا في الستة عشرة دقيقة الأولي من الفيلم. لأن نظرات تحية كانت توحي بأن صقر هو حبيبها، أو أنهما حديثا الزواج، بداية من نظرتها له في الصيدلية بعد أن علم أنها جرحت إصبعها وهي تُعد له الطعام. كانت نظراتها تشي بأنها الحبيبة الولهانة السعيدة بحماية رجلها.

صحيح أنه يمكن تأويلها أنها نظرة إعجاب بالأخ الذي يحميها ويتحمل مسؤوليتها لكن البناء المتوالي للمشاعر يمنحنا الفرصة للحيرة ولا يحسم الأمر ويفتح ثغرات للشك.

علي سطح المنزل تأتي لقطة أخري تُثير طاقة متجددة من الغموض وتؤكد الالتباس، فالأخ يحمل أثقال الحديد ليُقوي عضلات ذراعيه بينما يُنصت لحديث زميله عن السفر إلى إيطاليا. هنا تتبدل نظرات تحية كأن شيئاً أغضبها أو أرقها. تتبدل ملامحها بينما كانت تحمل الألواح الضخمة الخاصة بدباغة الجلود، هنا تُنفث عن غضبها من موضوع السفر بجملة: "الناس اللي على السطح لازم يتعلموا يشيلوا حاجتهم، فيقوم أخوها بسرعة برفع الألواح عنها قائلا: كنتِ قولي لي وأنا أشيلها عنك". هنا نرى تلك النظرة ذاتها، ابتسامة الإعجاب، أو الهيام المتواري.

اللقطة الثالثة عندما يدخل صقر البيت ويسأل عن الأم، بينما تحية تقف لتطبخ بجوار الحمام، وتظل نظراتها تطلع إليه بحيرة حيث تواري خلف الستارة ليستحم، كأن وجوده يؤرقها، ويُحرك فيها شيئاً، وربما كأنها ترغب في قول شيء ما لكنها مترددة.

نضيف إلى ما سبق نظرتها الصارمة الحانقة للممرضة بالمستشفى التي رأتها وهي تُملي علي صقر آخر رقمين في هاتفها. فلو علمنا أنه طوال الفيلم الذي يبلغ زمنه السينمائي ٧٠ دقيقة لم نر لقطة واحدة لتحية وهي تنظر لأي رجل آخر بإعجاب مثلما كانت تنظر لأخيها، لو تأملنا نظرات تحية وكأنها لا تري في الرجال الآخرين رجولتهم، لتأكدنا من أهمية ومغزى لقطة رابعة للبطلة تُضفي مزيداً من الالتباس علي تلك العلاقة رغم معرفتنا - المؤكدة لاحقاً - أنهما إخوة.. حيث نرى تحية وهي تقطع البازلاء الخضراء وعلي وجهها ابتسامة ظريفة كأنها شاردة - في هيام هامس- مع كلمات الأغنية تقول: "الحب عذاب…".. بينما الأم تراقبها بملامح صارمة تحمل معني الترصد وعدم الرضا، وكأن هناك شيئاً خفياً، شيئاً لا نعلمه أو تم الاتفاق ضمنياً على عدم البوح به. نقول ربما.

أما المشهد الأكثر تأكيدا للالتباس والغموض - رغم أنه وللمفارقة المشهد ذاته الذي نتأكد من خلاله أنهما إخوة - فيبدأ عندما تكون تحية راقدة بجوار الباب ويدخل صقر ليلاً، فتنهض في أعقاب ذلك، وكأنها زوجة كانت تنتظر حبيبها. تتأمل في حذر أنفاس أمها النائمة على الكنبة المقابلة في ترقب، ثم تدخل إلى الحمام. نسمع صوت تساقط مياه الصنبور. تخرج بشعرها المبلل وكأنها اغتسلت ثم تدخل غرفة صقر وتواصل تجفيف شعرها وتسويته بينما هو عارٍ ويهم أن يرتدي فانلته فتخبره في المرآة: "ابعد عن الشيخ يحيى واللي معاه". فيكون رده: "على فكرة، اتعرفت على واحدة".

هنا تتغير ملامح تحية، للغضب أو الضيق. ثم نراها - بكاميرا المخرج - في الأيام التالية تتنصت على أحاديث أخيها الهاتفية، ثم تفتش لاحقاً في هاتفه عن رقم الفتاة وتطلب لقاءها بحديث خشن كأنها منافسة لها أو ضرة أخذت منها زوجها.

إذا كانت تصرفات تحية مع أخيها وحصارها له يمكن تفسيرها بأن مرجعها الخوف عليه من مخاطر السفر، لكن رد فعلها إزاء ارتباطه عاطفياً يُؤكد عشقها لأخيها أو هوسها به، أو ربما رغبتها في الاستحواذ عليه. والأمر هنا لا يمكن تفسيره بأنه يتعلق بالماديات أو أنه المسؤول عنها لأنها هي التي تتولي مسؤولية فتح البيت والإنفاق عليه فهي تعمل طوال العام بينما الأم والأخ يعملان فقط لمدة شهرين أو ثلاثة، وهو بدوره ما يُفسر لماذا كانت هي - وليس الأم - التي تقوم بتوزيع أنصبة اللحم أثناء تناول الغداء علي "الطبلية"، وهو المشهد ذاته الذي يشي - إلي جانب مشاهد أخرى - أن الأخ يريد أن يتحرر من ذلك الأسر، ولا يحتاج هذا الفائض من الحب بدليل أنه ينقل جزءاً من نصيبه إلي طبق الأم، بنظرة ذات مغزى، ولا يُفكر في إعادة قطعة اللحم إلى طبق تحية التي لم تضع قطعة واحدة أمامها وكأنها منحته نصيبها كما تفعل الأمهات والجدات في الريف والمناطق الشعبية.

أنانية الحب وصناعة السطوة

بعد ذلك المشهد الذي نتأكد من خلاله أنهما إخوة وليسا زوجين وبعد تصريح صقر لها بأنه تعرف على فتاة، بعدها مباشرة نرى لقطة لتحية تدفع فيها أنبوبة الغاز بقدمها وهي تسير في ممر ضيق جدا يكاد يتسع فقط لمرور شخص واحد حيث الجدران مرتفعة خانقة وكأنها محاصرة، وكأن مخرج الفيلم يسعى لتأكيد حالتها النفسية في المشهد السابق الذي تحولت فيه ملامح وجهها إلي الضيق والتكشير في وجه أخيها والذي ظل سمة مميزة لها في المشاهد التالية - ربما باستثناء أربع لقطات فقط - وكأن وجود فتاة أخرى في حياة الأخ كان بمثابة الهزيمة والانكسار، ما يؤكد ذلك أسلوب سيرها بين المقابر وهي تجر قدميها فنكاد نسمع زحف الأقدام على تراب المقابر، وهي تجمع الورد الأحمر الذي أوشك على الذبول في دلالة رمزية واضحة.

"مش عاوزة غير إني أكحل عينيَّ بك طلعة كل شمس".. جملة تقولها تحية لأخيها صقر والتي قد تشي بروح متصوفة، وارتباط عاطفي متين يبلغ حدود العشق الصوفي، ربما على غرار العشق الإلهي، والذي تؤكده كلمات الأغنية الصوفية بنهاية الفيلم: "ليه تمنع الأحباب،،، المُتيم راح، هائم ولهان،،، خادم الأحبة".

قد يبدو ظاهرياً أن جملة تحية السابقة تفض اشتباك اللبس والغموض حول علاقتهما، وقد تُفسر لماذا تُكرس تحية نفسها وحياتها لأخيها بهذا القدر من التفاني والعطاء والتضحية، لكنها على صعيد آخر أيضاً - إلى جانب لقطات أخرى عديدة - تقول بشكل موارب أن هذا الحب مُفرط في الأنانية، وأن النساء بذلك يُشاركن في استمرار سطوة المجتمع الذكوري وعدم خلخلة بنائه، أنهن مَنْ يخلقن من الرجل سُلطة تتحكم فيهن، ويمكن التأكد من ذلك لو استبدلنا شخصية تحية بشخصية أي أم، أو أي زوجة تقوم بنفس السلوك وتحمل نفس القدر من العواطف القوية الجياشة، فاختيار شخصية تحية ربما هو اختيار نموذج للتمثيل والتفاني، وهو ما يتأكد بمشاهد النساء العاملات في تنظيف دورات المياه مع تحية، فرغم أنهن يعملن وينفقن على البيت لكنهن خاضعات ومستسلمات وذلك رغم سخريتهن من الأزواج ومن آراء الشيوخ.

لكنها، سخرية لا تمتلك الجرأة على التجاوز أو التمرد المؤدي لنتيجة إيجابية فاعلة، إنها سخرية تقف عند حدود التنفيث وصب اللعنات، وتلقي الصفعات في صمت، وإذا كان المخرج لم يضع تحية في نفس وضعية النساء الأخريات، إذ دوما كان يصورها في وضع أعلى منهن، فإما وهي واقفة تُنهي أعمالها بينما هن جالسات يتناولن الطعام، متعللة بأنها تناولت طعامها بالبيت، وكأنها تأنف أن تتناول طعامها في ذلك المكان اللا إنساني، حتى عندما كانت تجلس في المرحاض وتسمع لشكوى المرأة - المضروبة من زوجها - يختار لها المخرج جلسة في وضعية أعلى، فنراها تُدخن السيجارة للمرة الأولى وتنفي ما قالته المرأة للتو: "مش كلهم". ويكفي مشهد ذهابها ليلاً إلي البرلس بحثاً عن أخيها بمشهد يؤكد أنها فتاة جسورة، لكنه لا ينفي أنها في النهاية هي صانعة الديكتاتور.

بعيدا عن المحاكمة

صحيح أن الفيلم لا يحاكم أحداً، لكن الأسلوب الذي يُجسد به المشاكل وحياة هؤلاء البشر المطحونين الفقراء يثير قدرا من علامات الاستفهام بشأن هذا المجتمع، حيث عمال الجلود والدباغة ومهنة تصنيع "الغرا"، حيث الشباب - الذين يعملون بجد - يتساقطون واحداً تلو الآخر من جراء المرض والمخاطر التي يتعرضون لها في تلك المهنة الخطيرة، فيمكن أن نتفهم لماذا يُفكرون في الهروب والمخاطرة بالموت في عرض البحر على أمل النجاة، حيث الناس يسكنون المقابر بجوار الأموات، وحيث الشيوخ إما يبررون تحكم الرجال أو يديرون مسابقات مصارعة الديوك، إنه شريط إنساني جداً محمل بالأرواح الهائمة المحاصرة، في مقابل فئة أخرى تُتاجر في أحلام البشر وتستغل رغبتهم في النجاة.

قد تكون قصة الفيلم بسيطة جدا يتم سردها في سطرين، لكن روح العمل يصعب نقلها بدقة وصدق من دون مشاهدة الفيلم والإحساس به؛ لأن تفاصيل المكان بكل ما فيه من خراب ودمار وفقر ومستوى متدنٍ من الحياة، كل هذا لا بد أن تراه بعيونك وتلمسه بحواسك، إنها تفاصيل تجعلنا ندرك الجهد المبذول وراء هذا العمل السينمائي شديد الخصوصية. فتفاصيل الحياة، الملابس، الممرات، الحارة السد، قماش الخمار المكسر بلمسة خفيفة، ديكور وتفاصيل البيت كلها تؤكد الوضع الاجتماعي، تماماً مثل تفاصيل سقوط الشباب المحملين بالجلود تحت الحمولة الثقيلة، أو جلوس أحدهم في إعياء، أو افتراشهم للأرض وتناول كسرات الخبز، أو ما يخص نظرة تحية للنساء اللائي تدخلن دورات المياه في انتظار البقشيش، وكأن روحها مُعلقة على تلك المنحة أو الهبة، كذلك تفاصيل المؤثرات الصوتية خصوصاً صوت ماكينة صباغة الجلود التي تدور في الخلفية، والتي تسيطر على الأجواء في بعض اللحظات وكأنها مطرقة تدق على الرأس. كلها تفاصيل عن البشر المطحونين وعن شقاء الإنسان المنسي.

وأخيراً لا يفوتنا تقديم التحية للشخصية الأسطورية التي قدمها الفنان محمود حميدة. إنها واحدة من أكثر الشخصيات سحرا بالفيلم، فرغم تبرير وجوده درامياً بأنه شخص مُدعي لامتلاك المقدرة علي ممارسة الطقوس السحرية، ورغم أنه كان يأكل من طبق واحدة مع عنزته، ورغم ظهوره مرات قليلة، لكنه الظهور الطاغي كأنه ميتافور لقُوى إلهية تتفرج على أهل المكان وتبتسم، كأنه الملك، بجلسته، ونظراته، واستكانته وهدوءه وثباته، بتفاصيل الملابس والوشم علي يديه، بأوراق الكوتشينة التي "يفنطها"، ربما لذلك أيضاً اختار لنفسه كرسيًا يشى بتلك الهيبة والجلال؛ لذلك عندما يغيب ينطق مجلسه بالغياب، وكأنه غيابه يؤكد الحضور.

إعلان

إعلان

إعلان