لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

تنفيسة| «كنوز مقابر مصر».. توثيق أثري نادر

محمد جادالله

تنفيسة| «كنوز مقابر مصر».. توثيق أثري نادر

محمد جادالله
07:00 م الإثنين 16 ديسمبر 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

قال الشاعر "من لم يعِ التاريخ في صَدْرِه.. لم يَدْرِ حُلوَ العَيشِ مِن مُرِّه .. ومَن وَعَى التاريخ في صَدْرِه.. أضاقَ أعمارًا إلى عُمْرِه"، صدقت هذه الأبيات، فكما قيل من قبل "التاريخ هو سيد العلوم، فلا يذكر أمر من أمور الدنيا إلا وله ماضٍ وتاريخ". وعلى الرغم من تلك الأهمية البالغة للتاريخ، إلا أن الدراسات في هذا الحقل باتت قليلة، بل نادرة، مما جعلني اشعر بغربه وغضاضة، إلى أن صادفني مُؤلَّف أعادي لي النفس المنعش المليء بالأمل والحياة، فمن يكون هذا المُؤلَّف؟ وعن أي شيء تحدث؟

عزيزي القارئ هذا المُؤلَّف هو "كنوز مقابر مصر: عجائب الأمور في شواهد القبور" للطبيب الأديب مصطفى محمد صادق، وهو باحث ومهتم بتوثيق التراث المصري، الصادر عن دار ديوان للنشر والتوزيع في عام الحالي 2024م، ويقع هذا الكتاب في مئة واثنان وخمسون صفحة.

وتحدث هذا الكتاب عن شواهد قبور لإحدى وأربعين شخصية لها ثقلها في التاريخ المصري هم: على ابن نقيب الأشراف، الدكتور إبراهيم النبراوي، الأميرة كلزار هانم، الأميرة ماهيتاب قادن، الشاب محمد سامي، الدكتور محمد علي باشا البقلي (الحكيم)، علي أغا بن أحمد أغا، خليل أغا، المرحومة الست نشروان هانم، عثمان باشا رفقي، محمد قدري باشا، سعيد باشا يكن، طيفور أغا، الفريق البحري قاسم باشا محمد، ألماس فوزي، أمين سيد أحمد باشا، أحمد شكري باشا، محمود سامي البارودي.

وأيضًا، محمد حسام الدين، الأمير محمد إبراهيم (وحيد الدين)، أحمد باشا كمال، فاطمة هانم حشمت، عائشة صدّيقة هانم، الحاج محمد عزيز الهيراتي، مصطفى رياض باشا، الكلفة الست مجور، محمد فيضي باشا، الأميرة نازلي فاضل، الست نور هانم، نازلي هانم العجوزة، إبراهيم توفيق باشا يكن، محمد بك فريد، السردار محمد راتب باشا، الأستاذ الأكبر الشيخ حسونة النواوي، الشاعر أحمد شوقي بك، الدكتور محمد شعراوي، السيدة عطيات محمد امين، أحمد إحسان بم، الست جلسن هانم، إسماعيل صدقي باشا، حساب الجُمل.

ولنبدأ بعرض شخصيتين من هذه التحفة الأدبية، "خليل أغا.. أبو التعليم الأهلي المصري". هو كبير أغوات خوشيار هانم زوجة الوالي إبراهيم التي جعلته مربيًا لابنها الخديوي إسماعيل. وعندما تولى إسماعيل حكم مصر، ولاه منصب كبير المشرفين على الأمور الخاصة للخديو، فأصبح من المقربين بالعائلة بأكملها، كما أصبح ناظرًا للسرايات. ولذلك أصبح من ذوي الثروات الضخمة.

إلا أن استخدامه لهذه الثروة جاء في صورة ظلت باقية حتى بعد مماته، فقد كان من الداعين إلى التعليم الأهلي بعيدًا عن التعليم الحكومي، لذا أنشأ في غرة محرم سنة 1286هـ الموافق سنة 1869م بجوار المشهد الحسيني بالجمالية مدرسة وتكية لتعليم الأيتام ورعايتهم، حيث كانوا يحفظون القرآن الكريم ويدرسون صحيح الدين الإسلامي والقواعد النحوية والخط العربي واللغة التركية.

وفي عام 1905م، تحولت إلى مدرسة ابتدائية، وأنشئ بها قسم لتعليم اللغتين الفرنسية والإنجليزية إلى جانب اللغة العربية، وفي عام 1921م، بدأ إنشاء مبناها الجديد بشارع الأمير فاروق (شارع الجيش حاليًا).

وتُوفي خيل أغا سنة 1297هـ الموافق سنة 1880م، ودُفِنَ بقبره بجوار حوش الباشا بالإمام الشافعي، وكُتِبَ على شاهد قبره الأمامي: "تأمل قبر من قد حاز مجدًا.. بقرب لمليكه وازداد نورًا.. وعاه إليه مولاه قلبي.. ونال بقربه خيرًا كثيرًا.. ولما قر بالجنات عينًا.. وحاز بدار رضوان السرورا.. وعا واعيه أن قد أخوه.. خليل بالجنان بني القصورا".

كما عرض الكتاب لشخصية "محمود سامي البارودي.. إمام الشعراء". وُلِدَ البارودي سنة 1840م في سراي والده بباب الخلق شارع غيط العدة بالقاهرة، التحق بالمدرسة الحربية وتخرج فيها برتبة "باشجاويش" في عهد محمد سعيد باشا، ثم سافر إلى الأستانة وتقلد بها إحدى الوظائف لمعرفته باللغة التركية، ولم يكتف بهذا، بل درس أيضًا هناك اللغة الفارسية وآدابها. ثم عاد إلى مصر، وصل في الترقي إلى رتبة اللواء وعُيّن مديرًا لمحافظة الشرقية، ثم محافظًا للقاهرة، وفي وزارة رياض باشا الأولى عُيّن وزيرًا للمعارف، إلا أن الأمر لم يستمر طويلًا وأُعيد ناظرًا للحربية في نظارة محمد شريف باشا.

وتولى بعد ذلك رئاسة الوزراء وناظر الداخلية في أيام الثورة العرابية، إلا أنه أُلقي القبض عليه بعد دخول الإنجليز مصر، وحكم عليه بالإعدام، ولكن خُفَفَ الحكم عليه واستبدل بالنفي إلى جزيرة سيلان. ولم يتوقف عطاء البارودي، ولكنه استغل تواجده بهذه الجزيرة بأن علم أهلها اللغة العربية، وهنا تظهر شخصيته التي نعرفها جميعًا الآن، الشاعر المحب للغة العربية، والمُتلذذ بحروفها.

حتى قال عنه الأستاذ عبدالرحمن الرافعي، للبارودي شخصيتان؛ شخصية أدبية وشخصية سياسية. أما الشخصية السياسية فهو رجل الدولة، ولكن كانت تنقصه الكفاءة السياسية والإلمام بأسرار السياسة الدولية وحقائق المسألة المصرية. وأما الشخصية الأدبية فهي شخصية خالدة؛ إذ هو إمام الشعراء المحدثين قاطبة، وباكورة الإعلام في دولة الشعر الحديث، وهو أول من نهض فبعث النهضة الشعرية من مرقدها بعد طول الخمود. وعن مؤلفاته على سبيل المثال لا الحصر: ديوان البارودي، ومختارات البارودي.

وكُتِبَ على شاهده: "أُنشئت هذه المقصورة لفقيد الأدب في بلاد العرب رب السيف والقلم.. من أحيا دولة الشعر بعد العدم الأمير الأفخم والوزير الأعظم الوارث الإمارة عن أبيه وجده البالغ رئاسة الوزارة بسعيه وجده ذي المقام السامي محمود باشا سامي البارودي المتصل نسبه بالأمير نوروز الأتابكي المتوفي سنة 894 وكانت وفاته رحمه الله لست خلون من شوال سنة 1322 عن سبعة وستين سنة وكان الفراغ من إنشائها في شوال سنة 1323 من الهجرة النبوية.. كتبه يوسف أحمد".

وفي الختام، نجد أن هذا المُؤلَّف سيظل شاهدًا مسجلًا لشواهد هذه القبور وتاريخها الزخم، حيث صور لنا هذه التحف التاريخية وكأننا أمام طبيب بدرجة أثري، استطاع أن يُقدم بريشة فنان وعدسة مصور محترف، قطعة أدبية فريدة. فكان هذا الكتاب بمثابة فاتحة الطريق للدارسين والباحثين في التاريخ والآثار والفنون ليكملوا الطريق ويقدموا لنا مثل هذه الأعمال التي حتمًا ولابد تؤتي ثمارها في حينها، لِمَا لها من دلالة معرفية أثرية تاريخية، تمس الهوية المصرية. استبصار للتاريخ والتراث. فهذا الكتاب بمثابة سياحة أثرية وأنت جالس بمكانك، لأنك ببساطة لن تستطيع رؤية بعض ما جبه به لأنه بدرجة كبيرة قد يكون أُزيل وتهدم، لذلك فهو توثيق أثري نادر.

إعلان

إعلان

إعلان