لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الرواية والسلطة

د. عمار علي حسن

الرواية والسلطة

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 29 مايو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا يتوقف الجدل حول علاقة الأدب بالسياسة، خصوصا الرواية، بوصفها النوع الأدبي الأوسع في مساحة السرد، والأكثر تفاعلا مع حركة الحياة المتجددة، والأقرب إلى تفاصيل الواقع المعيش، والأعلى تمثيلا لشريحة معتبرة من المجتمع، والأقدر رصدا على مراقبة تأثير القرارات العليا على حال الناس.

ورغم أن منطق الذين يجفلون من التأثير السلبي للسياسة على الرواية مقبول ومقنع والالتزام به ضرورة لمنع الفن من الانزلاق إلى أن يكون أيديولوجية بائسة أو منشورا سياسيا أو وعظا وإرشادا فجا، فإن الحديث عن إمكانية تجنيب الرواية تأثير السياسة تماما يبدو من قبيل الخرافة أو التجني أو الرهاب والترهيب من زمن قام فيه المستبدون بتسخير الأدب أو توظيفه في خدمة مشروعهم الطغياني.

ولعل نجيب محفوظ كان واقعيا حين قال إنه "لا يوجد حدث فني، إنما حدث سياسي يعالج فنيا"، وكانت توني موريسون أكثر واقعية حين أكدت أن "السياسة تطارد الروائي أينما ذهب، ولا يستطيع منها فكاكا". وجاء كثير من النقاد والباحثين ليمضوا في هذا الطريق، ليس من خلال كتابة سردية بالطبع، إنما عبر تحليل فني واجتماعي لمضامين الروايات، للوقوف على القيم والرؤى السياسية الكامنة وراء الحكاية، أو التأثير غير المباشر للسياسة على واقع الشخصيات والأحداث.

من بين هذه الدراسات تلك التي حواها كتاب "الرواية والسلطة" للشاعر والناقد والباحث د. محمد السيد إسماعيل، والذي ينطلق فيه من اقتناع تام بأن الرواية هي "أكثر الفنون قدرة على الاقتراب من السياسة" ليس بوصفها أفكارا وتصورات وآراء، بل من خلال تجسداتها الاجتماعية، وانعكاساتها في الواقع اليومي، بعد أن أصبحت السياسة هم المواطن العربي الأول، والمسؤولة عن تحديد مصيره وطبيعة حياته، ومستوى معيشته.

ورغم أنني كنت من الذين تطرقوا إلى هذه المسألة في أطروحتي للدكتوراه التي صدرت في كتاب ظهرت منه عدة طبعات تحت عنوان "النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية" فإني وجدت في كتاب "الرواية والسلطة" ما أضاف حقا إلى معرفتي، لا سيما أن كاتبه، قد أتى إلى تحليل الرواية من باب اللغة والنقد الأدبي وليس من باب علم الاجتماع السياسي مثلي، ولذا فإنه لم يكتف بتحليل المضامين السياسية في عينة روائية محددة، إنما بحث عن التجليات السياسية لشكل هذه الروايات، ما يجعل كتابه لافتا من هذه الزاوية المهمة لسببين: الأول أن كثيرا من الدراسات التي راحت تنقب عن الحمولات السياسية في الرواية، ركزت على المضمون، وليس البنية. وثانيها: أن المنحازين إلى دراسة النص الأدبي من داخله، وليس من خلال السياق الاجتماعي المحيط به، ينفرون من النظر في تحليل الأبعاد الخارجية للمنتج الأدبي، وهو نفور لا يروق للكاتب إذ يقول: "تجنح المناهج الداخلية إلى اعتبار الأدب بنية مغلقة على نفسها، منفصلة عما هو خارج عنها، وهي في ذلك لا تقل خطورة عن المناهج السابقة، لأنها تفقد الأدب أهم خصائصه، وأني بذلك فاعليته التي لا شك فيها، وعلاقاته الوطيدة ـ حتى لو كانت غير مباشرة أو غير مرئية على السطح ـ بما هو خارجه"، وهي مسألة أوافقه عليها، بل إنني برهنت في كتابي على أن كل المداخل والاقترابات التي انطلقت من أنه لا حاجة لنا لأدنى معرفة بالسياق المحيط بالنص الأدبي، وجدت نفسها متفاعلة، ولو بدرجة بسيطة مع هذا السياق، شاءت أم أبت.

شملت العينة التي درسها الكاتب خمسة وعشرين رواية لثمانية عشر كاتبا، من تلك الروايات التي ظهرت خلال فترة البحث التي تبلغ عشرين عاما، تراوحت بين عام 1973 وعام 1993. والروايات هي "بيت الياسمين" لإبراهيم عبدالمجيد، و"ليلى والمجهول" لإقبال بركة، و"شرق النخيل" لبهاء طاهر، و"رائحة اللحظات" لبهيجة حسين، و"الزيني بركات" و"كتاب التجليات" لجمال الغيطاني، و"أوراق 1954" لجميل عطية إبراهيم، و"هوس البحر" لراوية راشد، و"الشبكة" لشريف حتاتة، و"بيروت بيروت" و"ذات" و"اللجنة" و"نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم، و"الممكن والمستحيل" لطه وادي، و"الأسرى يقيمون المتاريس" لفؤاد حجازي، و"موسم العنف الجميل" و"الناب الأزرق" لفؤاد قنديل، و"أحمد وداود" و"حكاية تو" لفتحي غانم، و"الهؤلاء" لمجيد طوبيا، و"إمام آخر الزمان" لمحمد جبريل، و"انكسار الروح" لمحمد المنسي قنديل، و"الكرنك" لنجيب محفوظ، و"الحرب في بر مصر" و"وجع البعاد" ليوسف القعيد.

وقد روعي في هذه العينة أن يكون مؤلفوها ممثلين لأغلب الأجيال الروائية، في هذه الفترة، وأن تعكس الروايات ملامح السلطة السياسية التي تعاقبت على حكم مصر في هذا المدى الزمني وما جرى عليها من تغير، وأن تتوافر فيها عناصر البناء الفني بحيث لا تكون أقرب إلى المنشورات السياسية أو الهجائيات، أي تحقق الشرط الأساسي وهو "الأدبية"

وبهذا انطلق الكاتب إلى ما تؤثر به طبيعة السلطة على الرواية السياسية عبر عدد من التدابير والتصرفات مثل "القمع المادي" و"تزييف الوعي" و"الترغيب" و"الازدواجية" و"تلقي الهزيمة الخارجية"، وبحث في متون الروايات، المشار إليها سلفا، عما يغطي هذه السلوكيات. ثم تطرق إلى ما تناولته هذه الروايات من رصد للصراع الذي تراوح بين السياسي والحضاري، وما بينهما من حرب، لنرى فيها صورة العدو، وصورة المحارب المصري، وطبيعة الوقائع العسكرية، وعواقب الحرب ومآلاتها، وبعدها جاء تحديد ما تطرقت إليه الروايات من قضايا قومية، ليحصرها في ثلاث هي: القضية الفلسطينية، التي كانت خلال تلك الفترة قضية العرب المركزية، ولا تزال كذلك عند أغلبهم، وموضوع السلام الذي بدأ بإبرام اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، والتي اختلفت المواقف السياسية منها بين تأييد ورفض ولا مبالاة، وأخيرا مسألة "الفتنة الطائفية" التي بدأت بأحداث الخانكة، وتركت رواسب في بعض النفوس، كانت تستيقظ بين حين وآخر، ولا تزال، لكن المصريين تمكنوا طيلة الوقت من وأدها في مهدها.

ونأتي فيما بعد للجزء الأكثر إبداعا وروعة في الكتاب وهو دراسة علاقة السياسة، من باب السلطة، بالشكل الروائي، أو ما ينتج عن البنية من معان ورموز وتجليات سياسية، وهي مسألة لم يتطرق إليها كثيرون ممن درسوا علاقة الرواية بالسياسة، لا سيما إن كانوا قادمين من حقل العلوم السياسية، أما د. محمد السيد إسماعيل فقد درس الشكل من خلال ثلاثة مسارات: الشخصية الروائية، وبناء المكان والزمان الروائيين، وبناء الخطاب الروائي.

وفي المسار الأول درس الشخصيات المتسلطة، والسلطوية الاجتماعية، والإشكالية، والمقهورة، والاعتبارية، والتابعة ومنها الانتهازية والمستلبة، وكذلك الشخصية المتكيفة. ويوزع شخصيات عينته من الروايات على هذه الأنماط النفسية ـ الاجتماعية، سواء كانت من صنع خيال الكاتب، أو شخصيات حقيقية مثلما نرى في تحليله لصورة عبدالناصر والسادات في هذه الروايات، أو شخصيات اعتبارية مثل العمدة بوظيفته وصورته المألوفة، باعتباره جزءا من السلطة في واقعه، ورمزا لها في المعنى العام، يمكن أن ينسحب عليها، أينما وجدت.

أما بالنسبة للمكان كمجاز وحقيقة في آن، فيوزعه على المكان المأزوم كبيروت أيام الحرب الأهلية الطاحنة التي جرت أحداثها الدامية في لبنان بين 1975 و1989، والمكان المعزول مثل القرى المنسية في صعيد مصر ودلتاها، والمكان المحاصر كالسويس أيام الحرب ومعسكرات الأسرى، والمكان الحلم، الذي هو من صنع مخيلة الكاتب. ويأتي الزمان لينقسم لديه إلى ثابت ومتنام ومتداخل، لينتهي بدراسة الخطاب الروائي باعتباره نتاج تفاعل كل العناصر الشكلية السابقة، من خلال دور أو وظيفة الراوي وأنواعه.

وينتهي الكاتب إلى أن "الرواية"، كفن أدبي بازخ، قد سعت موضوعياً إلى التمرد على السلطة السياسية، وكشف آليات ممارستها، وقامت بتعريـة ما يصاحبها من أيديولوجيا سائدة، بقدر ما تمردت جماليا أو فنيا على سلطة الكتابة الروائية التقليدية المستقرة، التي تتوازى، باستقرارها وثباتها وسيادتها، مع السلطة السياسية بمرجعيتها السائدة والجامدة. وتجلى هذا التمرد الجمالي في التنوع البنائي في مقابل الواحدية، والثراء الحقيقي الفعال في مقابل التعددية الصورية المنقوصة، فتعدد الرواة، وتوظيف التراث في الإسقاط على الوضع الراهن، وتوثيق الأحداث، واستعمال بنية موازية على سبيل الاستعارة، مثل تلك التي توازي بين صراع على قطعة أرض في قرية مصرية وبين الصراع على أرض فلسطين، أو جعل فعل الإنجاب من رحم امرأة معادلا موضوعيا لتحقيق النصر في الحرب، واستعمال التناظر، أو خلق واقع مواز، وكذلك البنى الملحمية والعجائبية. وقد قدمت الروايات كثيرًا من النماذج السلطوية السياسية والاجتماعية والأجنبية التي تناظر الواقع .

ويتجلى التنوع أيضاً على مستوى المكان، حيث نجـد في هذه الروايات مدنا مصرية وعربية وغربية وقرى وساحات حرب ومعسكرات أسرى. أما على مستوى الزمان فنجد تنوعًا بين الثبات والنمو والدائرية والتداخل. إنها التعددية التي تفرضها الرواية المصرية في وجه الأيديولوجيـة التبسيطيـة الأحادية المغلقة في تعاملهـا مع الآخر العربي والغربي، ورؤيتها للزمن بأبعاده المختلفة.

كما برز التنوع على مستوى اللغة المستخدمة بين اللغـة السياسية المباشـرة، واللغة التداوليـة الدارجة، واللغة التراثية، واللغة التهكميـة، واللغة التصويرية أو الشاعرية، وهو تعدد يقف في وجه اللغة الواحدة الجامدة المشبعة بالاستعلاء والغطرسة للسلطة السياسية، في ظنها، أو توهمها أنها مؤلهة، تمتلك القول الأخير الحكيم، الذي بعده، ترفع الأقلام، وتجف الصحف.

إن من عظمة الرواية وبراعتها أنها قادرة على البقاء نسبيا، فما فيها من حكاية وبلاغة ورؤية وأسلوب يجعلها قابلة للقراءة في أزمنة أخرى، وأمكنة أخرى، بينما تكون السلطة السياسية التي تمكنت عبر أدواتها القمعية من إسكات مختلف الأصوات، قد رحلت وفقدت ما بيدها، تاركة مصيرها بين الأدباء ليصوروها للقادمين على حالها، كاشفين عوراتها التي فعلت الأفاعيل لسترها.

لكن الأدباء لا ينتظرون رحيل السلطة، حتى يكشوفها، إنما يطوقون عنقها الغليظ بخيوط من حروف ناعمة متحايلة مراوغة، ويضغطون عليها شيئا فشيئا، مستغلين غفلة تصنعها الغطرسة، أو غباء ينتجه الزهو المبالغ فيه، ليضيفوا قوة جديدة دافعة للنقطة العمياء التي تهملها السلطة، ومنها سيأتيها قدرها من حيث لا تحتسب.

إعلان

إعلان

إعلان