لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

خوف الأرانب.. قصة قصيرة

د. عمار علي حسن

خوف الأرانب.. قصة قصيرة

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 28 أغسطس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في المسافة بين خروجها من الحظيرة وخروجه من بيتهم، اندلع الخوف. كانت هي مرعوبة، وكان هو أشد هلعًا. ضخمة هي بألوانها الرمادية والبيضاء، وتلك التي تتراوح بين الأحمر والبني، وكان هو يحاول أن يغلب جسده النحيل في هذا الصباح الغائم، ولونه الأصفر من فرط الجوع والخوف من كل ما يجري حوله.

طالما سمع من الناس أن في هذه الحظيرة أرانب قوية ضخمة، كأنها أسود، وأنها إن أُطلق سراحها بينما الناس في صحوة، فبوسعها أن تجرفهم في طريقها، ولهذا فإن الخادمة التي تعمل في البيت الكبير لا تتركها تخرج بالفعل إلا في ليل متأخر، أو صباح باكر، بينما تحرص على أن تقول للناس في كل قريتنا، وهي ترفع حاجبيها:
ـ الاسم أرانب، والفعل أسود.

في يوم خروجه مبكرًا، رأته هذه الأرانب فتوقفت قليلًا، ثم انطلقت في طريقها، ورآها فتوقف برهة ثم جرى نحوها، ليقتل خوفه، فخافت هي، وجرت نحوه بلا هدى، بعد أن اعترض جسده المسار الذي اعتادت أن تسلكه، فخاف هو. صرخ ففزعت، وأثارت حوله غبارًا، فأثار بدوره غبارًا أشد، وهو ينبش تراب الشارع بقدميه الحافيتين.

ارتد إلى الخلف فإذا بباب بيتهم قد أُغلق دونه، ووصلت الأرانب إلى باب بيت صاحبتها التي ربتها، حتى سمنت على هذا النحو، فوجدته مغلقًا، فهاجت وماجت في الشارع العريض، لا تعرف ما إذا كان عليها العودة إلى الحظيرة، أم الولوج إلى البيت، أو الهجوم على كل شخص يمر، وإعادته إلى بيته، وبهائمه إلى حظيرته.

لم يدُرْ أبدًا بخلده وهو خارج في هذا البكور أنه سيلقاها، وهي ستلقاه، فطيلة الوقت، كان لا يرى سوى بعض من أهل قريته، يمتطون حميرًا، ويجرون خلفهم بهائمهم طائعة، بينما هم صامتون. اليوم فرغ الشارع من هؤلاء جميعًا، في لحظة استثنائية، ربما لم تحدث منذ أن عرف كيف يترك بيتهم ويخرج ليدب فوق تراب الشوارع وحيداً.

الأرانب يلجمها الخوف، يشُل أعضاءها، فتتوقف مرعوبة، فيطلق الرعب في جسدها مرضًا، يؤدي إلى موتها، لهذا كانت صاحبتها حريصة على ألا يراها أحد. تفسر هي هذا دومًا على أنه بفعل حسد أصحاب البيوت المجاورة التي تقاوم الجوع، بلا جدوى، ويحلم كل بيت فيها بأن يجد أرنبا واحدا من هذه مطهيًا أمامه في آنية.

لم تكن تعرف أن الخوف يطلق في أوردة الأرانب وشرايينها مادة مسممة، تصعد إلى القلب والمخ، فينتهي كل شيء، ولم يكن الولد يعرف أن هذه الأرانب أجبن من أن يخاف منها، رغم ضخامتها، وهياجها حين لا ترى منفذًا لها، وطول آذانها التي تتدلى على رؤوسها، وتلك السرعة الفائقة التي تمضي بها رغم ضخامة حجمها، والأصوات التي تصدرها، وهي تملأ الشارع ضجيجًا وعجيجًا، وكأنه لا يوجد شيء في القرية سواها.

ولأنها تخاف، وهو كذلك، وقفت هي مفجوعة، ووقف هو مشدوهًا، وامتلأت المسافة بينهما بالخوف. الولد يرى الأرانب وحوشًا كاسرة، وهي تراه كائنًا متوحشًا، تثاقلت خطواته، بعد أن كان يعدو كالريح، وتمهلت خطواتها، بعد أن كانت تفر هاربة من الحظيرة إلى صالة البيت الكبير. وزاد الغبار في الشارع، وانكسرت فيه أشعة الضحى الزاهية، فبهتت، وابتلعتها الجدران الكالحة.

اتسعت عيون الأرانب مرة أخرى فأخافته، وتقافز هو فوق التراب فأخافها، لكنه لم يدرك وقتها أنها خائفة، وهي تجري يمنة ويسرة، فحسبها تستعد لمهاجمته، فكان عليه أن يختار، إما أن يجري نحوها، أو يجري منها.

أرانب كانت، وحسبها عقله الصغير أسودًا، أو حتى ثعالب أو كلابًا. أما الأرانب فقد كانت واعية إلى أنها أمام ولد خرج من بيته صبحًا، وأنه لو هشها، وضغط عليها، سيجدها ضعيفة خاوية، لا تعرف إلى أين تذهب، لكن كان عليها أن تطلق شررًا في عيونها، حتى يعتقد أنها شيء آخر.

هشة كانت، لكن الولد لم يكن يعرف، فوقف إلى جانب الجدار مترددًا، ناظرًا إلى ثلاثة أبواب مغلقة، لبيتين وحظيرة، وشارع خالٍ من الناس الذين تصادف نومهم أو كسلهم، أو حتى خروجهم مبكرًا قبل أن يفتح الولد عينيه، وليس في رأس كل منهم سوى حقله وبهيمته.

أرنب مائل إلى الاحمرار، كان يشاع في قريتنا أنه أقواها، تقدم قليلًا، وبان للطفل أنه يقود هجومًا ضده. جفل منه، وتقهقر قليلًا، وتمنى في هذه اللحظة لو تشعر به أمه لتهب لنجدته، ولم يكن يعرف أن الأرنب المتقدم هو الأكثر جًبنًا، لأنه ما إن خطا نحو الولد، مدفوعًا بقوة غريبة، حتى تدلت أذناه، واتسعت حدقتاه، وارتعشت قدماه، ثم وقع على مؤخرته.

رآه الولد على حاله هذه، فظن أنه يقعى على خلفيتيه حتى يقفز في قوة مهاجمًا إياه، لكنه فوجئ بأنها مجرد أوهام تعشش في رأسه، لم تلبث أن تساقطت تحت قدميه، فسقط الأرنب الأحمر بلا حراك. الأرانب الأخرى وقفت متجمدة عند الجدار، كأنها تماثيل منحوتة في مكانها منذ زمن بعيد، ولم تكن تدري إلى أين تذهب.
وحين تقدم الولد ضاحكًا إليهًا، وهو يقبض في يمينه على أكبرها، رمت كلها آذانها الطويلة على أجسادها الضخمة من فرط الشبع، مستسلمة له، وسمع الذين كانوا قد استيقظوا صُغاب الأرانب، وأدركوا وقتها أنها لم تكن في أي يوم من الأيام أسودًا، إنما كائنات ضعيفة، يمكن ذبحها، وطهيها، وأكلها، وهضمها، وإخراجها لتذهب إلى البالوعات العفنة، وكأنها لم تكن.

إعلان

إعلان

إعلان