لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أكلت الأيام جسده

عمار علي حسن

أكلت الأيام جسده

د. عمار علي حسن
09:01 م الأربعاء 05 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا يمكن أن أراه مرة أخرى، فاليوم أتاني نبأ وفاته. لم يكن مفاجئًا لي، فيوم دفن ابن عمي رأيته في المسجد، يقف إلى جانبي في صلاة الجنازة، بعد أن زالت عنه شحومه ولحمه، ووهن عظمه، وبدا صوته خافتًا، وفي عينيه ترقص النهاية.

لم أكن قد رأيته منذ عشر سنوات، سمعت خلالها، من بعيد، أنه قد أصيب بالسُكَّري، لكنني لم أتصور أن ينهضم جسده، وتثرم أسنانه، إلى هذا الحد. احتضنته فآلمتني عظامه، أبعدته عني قليلًا، لأنظر في وجهه، فإذا بعينيه قد غارتا في رأسه، ووجنتيه صارتا صخرتين تطلان على المجهول.

ضبطت نفسي حتى لا أظهر له إحساسي بما جرى له، لكنه قرأ في عينيَّ كل شيء حاولت أن أخفيه. طأطأ رأسه، وقال:

المرض سكنني.

خطفت ابتسامة من أيامنا الزاهية، وقلت له:

شدة وتزول.

وكنت أعرف أن مثل هذه الشدة لا تزول، فهذا المرض إن جاء لا يذهب، وجسده الضخم الذي طالما تندرنا عليه في أيام صبانا لن يعود إليه أبدًا.

لم يكن لدي ما أقوله له سوى:

ألتقيك في المقبرة.

لكنني لم أقلها بالطبع، إنما أطلقت في أذنيه طاقة من أمل كاذب. وحين دفنا ابن عمي، بعد أيام، لم يأت هو، لكن جاء أخوه، فتقاليد قريتنا تقول إن من كل أسرة يحضر واحد ينوب عنهم جميعًا. لكن هذه القاعدة لم تسر عليه أبدًا، إذ كان أشدنا حرصًا على حضور كل الجنازات. سألت أخاه عنه فقال لي:

عاد من الجامع منهكًا ولم يستطع المجيء.

ولأنني ذهبت مباشرة من المقبرة إلى غربتي من جديد، فلم أره، حتى قال لي أحدهم إنه مات. يومها أغلقت عينيَّ، فرأيته ذلك الشاب الذي كان يقف على نواصي شوارع قريتنا الصغيرة، بجلابيبه اللافتة النظيفة، بيضاء وخضراء وبنفسجية، كانت تنتهي بهامة مرفوعة، ووجه لم أره يومًا عبوسًا.

كان يسبقنا جميعًا إلى ملعب كرة القدم، وحين يبدأ اللعب، يقبل عليه بشهية مفتوحة، كأن فيه وله ومنه وبه كل شيء. كان يركل الكرة بقوة لم يسبقه إليها أحد، حتى أنها كانت أحيانًا تأخذ حارس المرمى وتلقي به وراء الخط، فيعلن الحكم عن هدف جديد. مرات كان بعض الحراس يصابون بإغماءات من قوة الكرة "الكلة" التي كان يطلقها قذيقة مدوية، أو حتى الكرة "الكَفَر" التي نشتريها من البندر، فكانت ما إن تأتي إلى قدمه، وهو منفرد بالمرمى، أو حتى في منتصف الملعب، حتى يضربها بشدة، فتسكن المرمى.

بمرور الوقت صار معروفًا عنه أنه إن قذف الكرة، فلا راد ولا صاد له، فاستسلم له الخصوم، وصار مدربوهم يبنون خططهم على ألا تصل إليه الكرة من الأساس، فهو من أي مكان في الملعب قادر على إحراز الأهداف.

كيف لهذا المهاجم الهصور أن يأكله المرض؟

أجابني أحدهم:

لم يحترم مرضه فآذاه.. السكري يعوز من يطيعه.

لم أستوعب ما قال، فقد كنت من أولئك الذين يظنون أن من هو على متانة جسده، سيعيش قرنًا على الأقل، واستعدت الأهداف المدوية التي أحرزها في خصومنا، وقبلها ابتسامته الطيبة، التي لم يختلف اثنان على أنها نابعة من قلبه غاية في الطيبة.

كان يتقبل أي سخرية من جسده، لا سيما تلك التي كان يطلقها حسين الجزار، حين رآه ذات يوم يفرد رجليه فوق حمل برسيم يعلو ظهر حمار، فقال له:

كل هذا لك.

فابتسم يومها وقال له:

أنت أكلت النهار الفائت حملين.

يوم أن تم توظيفه في أحد البنوك وزع علينا الملبن في غرزة نادية، وقال لجميع الجالسين حول الطبالي المفرود على سطحها قواشيط الدومينو:

كل المشاريب الليلة على حسابي.

كان صريحًا معنا نحن الذين نصغره، حتى أن أقرانه عابوا عليه أن يبوح بأسرار عشقه لأطفال مثلنا. كنا نتجمع حوله عند بيت أبي أحمد، حيث العتبات الحجرية التي نجلس عليها، ونسمع إلى حديثه عن الفتاتين اللتين تقعان في غرامه.

قال لنا إن ابنة عمه الجميلة تحبه، وأن ابنة إبراهيم أبو أحمد الأجمل كانت تعشقه. لم نكذبه، فهو كان أكثر فتيان قريتنا وسامة، ولم يكن أي منا يستبعد أن تعشقه أجمل فتاتين في قريتنا. وقال واحد يكبرنا سنة ذات ليلة، وهو يدوس على حروف كلامه:

وهل تعشق بنتًا سوى القوي الوسيم؟

كان لا يكتم سرًا، فحكى لأطفال القرية كل شيء، فأذاعوه على المصاطب ورؤوس الحقول وفي المقهى البسيط الذي كان لا يزيد على حجرة مستطيلة تتوسط قريتنا، حتى لم تعد هناك سيرة تجري على الألسن سوى ما يرفرف من هوى بينه وبين "هبة" و"مايسة"، هكذا كان اسميهما اللذان نعرفهما، لكننا طالما تخيلنا، نحن الواقفون على باب المراهقة، أن جماليهما غير قابل لحب أمثالنا، فمن منا له هذا الجسد الممشوق، واللباس النظيف، والملامح الجذابة التي كان يؤتاها.

جاريناه لتسري في عروقنا حكايات نسعى إليها، ولا أمل لنا في اقتناصها، ولم يبخل علينا بشيء، كنا نتعجب في زماننا الأول، كيف لمثله أن يبوح بكل شيء على هذا النحو، وغيره يطبقون ألسنتهم على الأسرار، تكويهم ولا يشكون إلينا، إلا إذا كان كل منهم قد اتخذ له صاحبًا يشكو إليه لواعجه، وحده يشكو دون تحسب، لهذا أحببناه، ورأينا فيه مثلنا الأعلى حين يتمكن كل منا من أن يجذب إليه اثنتين من جميلات قريتنا.

لم يظفر بأي منهما، فالعشق لا ينتصر بالضرورة، إنما ما يراه الناس عمن يسمونها مصلحة البنات. فقد الجميلة التي كنا ننظر إلى وجهها الرائق في عجب، والفاتنة التي كان جسدها يفور في عروقنا، وتزوج في نهاية المطاف من سيدة تزوجت قبله، ولم تنجب، فلم نشهد له حفل عرس، وحين سألنا أهلنا، قالوا لنا:

العَزَبَة لا عُرس لها.

ياااااه، كم كنا نحن الصغار ننتظر يوم زفافه على أي من الجميلتين، كي نرى أيهما، وهي في كامل زينتها، تجلس داخل الكوشة، وحولها أطواق من الألوان والورود، وعلى رأسها تنسكب حناجر تصدح بغناء عذب، يمتد لحنه من قلوب الذين رحلوا إلى من يقفون الآن، على أبواب الأفراح منبعثين في الغناء.

لم يحدث شيء من هذا، حتى أن أحدنا سأل، ونحن نسير فوق الجسر العالي تحت القمر المكتمل:

كيف يرضى بخَرْجِ بيت؟.

وكنت أيامها من المتيمين بأفلام الأبيض والأسود، التي جمعت بين الجميلات وأصحاب الوسامة، فلم أستوعب كيف يمكن لمثله ألا يتزوج بأي من الجميلتين العزيزتين على الجميع، ويتركهما تذهبان بعيدًا عن قريتنا إلى عريسين غريبين، لم ينج أحدهما من حسدنا.

هو لم يحسد أيًا منهما، بل ظل يحدثنا عن حبيبتيه، وكأنهما لا تزالان معه، تنتظرانه على أول المساء، وتسترقان السمع إلى حديثه على المصاطب إلى من يصغرونه، وتسامحانه على هذا؛ لأنه لا يستطيع كتمان عشقه، بينما هو في الحقيقة، يتيه على الجميع بأن الجمال كله معه.

اعتقدنا أنه حين يصوب الكرة إلى المرمى فهو لا يريد إحراز أهداف، إنما تنبيه أي من جميلتيه إلى أن فتىً مثله لا يُترك هكذا مهملًا، وأن غيره لا يمكن أن يكون مكانه بسهولة، فمن بوسعه أن يضرب المرمى بوابل من القذائف العفية، يمكنه أن يحرز أهدافًا في مرمى آخر، يجعل صاحبته ترقص من فرط اللذة.

لكن لذته المنتظرة حصدها غيره، واكتفى هو بالكلام مع الصبية عنهما، حتى أن إحداهما قالت لصاحباتها:

لم أحسب أنني سلمت سري لطفل كبير.

نحن الصغار لم نهتم سوى بطفولته تلك، التي لم تمت أبدًا، حتى بعد أن فار جسده، وغلظ شاربه، بل رأينا فيها أهم ما يجذبنا إليه.

سبحت أحلامنا معه، ولم تنكسر حين رأيناه وحيدًا، ليس معه سوى الحكايات والذكريات، التي يقصها علينا على رؤوس الحقول، والمصاطب، والغرفة الوحيدة التي نعتبرها في قريتنا مقهى عابرًا، وكنا معه، نستعيد صور فاتنة تملأ عيوننا بهجة.

لكن أحلامنا انكسرت في انكساره، ولم يكن أي منا قادرًا على أن يدرك ما يجب عليه أن يفعله في سبيل أن يمضي في ثقة وسلام على الطريق الصعب الطويل، فنحن لم نكن قد انشغلنا بعد بما يأكلنا ويضنينا، وحين أتى، حسدناه أن فتاتين قد عشقتاه، دون أن ندري حقيقة العشق، ثم واسيناه؛ لأن جهله بما كان فيه، قد انتهى به إلى هذا الوضع المزري، مجرد زوج وموظف ساع إلى مكتبه الصدئ في البكور، وساهر في مقهى لا اسم له في المساء.

يوم أتاني نبأ وفاته، سمعت وقع خطواته الواثقة على أرض شوارع قريتنا، والجسور العالية المؤدية إلى حقولنا، وملأت أذنيَّ أصوات ارتطام الكرة بجدار الجمعية الزراعية في ملعبنا الصغير، حين كان يضربها بقوة، وضحكاته المجلجلة بعد أن يفوز في دور حام للدومينو.

لكن كل هذا الضجيج، لم يزح نحيب امرأتين، صارت كل منهما أمًا لأولاد كثر، وقد دخلت إحداهما إلى حمام بيتها، والأخرى إلى غرفة نومها، وأغلقتا على نفسيها بابين، وانخرطتا في بكاء حار، وكل منهما تستعيد أيامها معه، وتقر أنه كان طفلًا كبيرًا، ولم تكن هذه النهاية تليق برجل مثله.

إعلان

إعلان

إعلان