لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 المديح والـرَّبيع وأبوتمّام

د. محمد عبدالباسط عيد

المديح والـرَّبيع وأبوتمّام

د. محمد عبد الباسط عيد
08:37 م الجمعة 24 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لقد كان الشّعر قبل أبي تمّام يقوم بوظائف لا تتناسب مع طبيعته، ومنها ما يمكن للنثر أن يقوم به بطريقة أفضل وسبيل أقوم؛ فقد انخرط الشّعر في زمان الأمويين مثلا، في الصّراعات السّياسية والحزبية المتنازعة على الحُكم، وكان لكلّ حزب أشياعه من الشّعراء الذين يدافعون عنه ويحاجّون له، ويمتدحون رجاله ورموزه، واتّسع القول في شعر المديح كما لم يتسع من قبل، حتى أمسى مؤسَّسة هائلة، تُحدّد للشاعر ما يصحّ قوله وما يجب أن يبتعد عنه، وصار على كل شاعر أن يُدْلي فيها بدلوه، لا ليظهر مقدرته على التّمكن ورياضة أساليب القول فحسب، وإنما ليغدو قريبًا من السُّلطة التي اعتنت بالمديح باعتباره خطابًا إشهاريًّا عظيم التأثير، كما اهتمّت بالشّعراء وأغدقت عليهم، فتسابق الجميع إليها، وتنافسوا في ذلك، ومع الوقت بات المديح غرضًا مركزيا من أغراض الشِّعر، تدور في فضائه الخطابي مجموعة من المفاهيم الأساسية التي هي جزء من منظومة القيم العربية التي يرجوها العربيّ في كلّ وقت، كالشّجاعة والكرم والعلم والقدرة والحلم والدّهاء ..إلخ.
وكان قدر أبي تمّام أن ينخرط في هذه المؤسسة، ولم يكن أمامه سوى أن يفعل، ولكن طاقة الفنّ عند أبي تمّام مكنته من تقديم المديح على نحو مختلف؛ فقد انتشله من فضاء التّداول النّفعيّ المباشر إلى طاقة الفنّ الرّحيبة، لقد صار المديح معه فنًّا شعريًّا راسخًا بكل ما تكتنزه كلمة الفنّ من دلالات العمق والجدّة والابتكار، ليس هذا فحسب، وإنما صار بمقدور الشاعر أن يتحدث عن ذاته ويشيّد بناء النص على نحو مركّب...لقد ارتقى أبوتمّام بالمديح، وأدخله جمرة الفنّ ومنح نفسه وأكابر الشعراء من بعده قيمة هائلة.
لأبي تمّام نصٌّ مشهور، يميل أساتذة التربية عندنا إلى تقديمه باعتباره نصّ "الربيع" الأكثر تمثيلًا لجماليات الوصف في الشعرية القديمة، وهم في ذلك يقومون باجتزاء أبياته، ويتجاهلون أن هذه القصيدة هي نصٌّ مدحيّ سامق، ومطلعه:
رَقَّتْ حَوَاشِي الدَّهْرُ فَهْيَ تَمَرمَرُ
وَغَدا الثَرى في حَليِهِ يَتَكَسَّرُ
"رقت" من الرقة، الحواشي: جمع حاشية وهي الجوانب، تمرمر: تهتز، الثرى: التراب المبلل بالندى، حليه: الحُلي والزينة، يتكسّر: يتبختر ويتمايل.

لا أحد يمكنه أن ينسى هذا المطلع، ولم يكن بمقدور شاعر من القدماء أن يتصور الرّبيع على هذا النحو البهيج، فضلا عن أن يكون ذلك مفتتحًا لقصيدة مدحية فاتنة، نعم لقد أخطأ أساتذة التربية عندنا حين اقتطعوا هذه المقدمة وقدّموها إلى الطلاب باعتبارها نصًّا عن الرّبيع، وهي ليست مقدمة، وما ظُلمت القصائد كما ظلمت بتقسيمها إلى مقدمات وموضوع وخلاصة.. !
لا أريد أن أنثر لك هذا النظم الفريد، لا يجب أن أرتكب هذا الخطأ، أريد أن نقف سويًا على منابع هذا النور البهيج، لنفكّر معًا في تلك الصورة الحيَّة الطازجة، وفي العقل الجماليّ الذي أنتجها، وكيف امتدت خيالًا وتلاقت منطقًا واتَّشحت لغة تفيض جنباتُها بالدلالة، لا يجب أن نغرق في تقسيمات البلاغيين وتشقيقاتهم، فقط لنتأمل هذا الدَّهر الربيعيّ الذي تهتز جوانبه رقّة وليونة وثراء معلنة عن تغيّر كونيّ مزخرف، وكيف امتدّ المعنى ليغدو الثَّرى الخصيب متبخترًا في مشيته، فهذا الدّهر الحلم هو الإمام الذي توجّه إليه أبوتمّام بالقصيدة، ويرجو أن يجد عنده ربيعه، وأن يجد الناس فيهم غايتهم، والإمام نفسه حُلم.. هذا الدهر هو المرأة التي تختال بمفاتنها الرائقة، وهو القصيدة التّمّامية التي تفيض جوانبُها بالمعنى والدلالات الغنيّة، ومن ثم فهي تبادل الرّبيع اختيالًا باختيال، ونسجًا بنسج، ووشْيًا بوَشْي... هل أقول لك: إن هذا الدّهر الربيعيّ هو الرّجاء، هو الأمل المرجو وإن لم تدركه، هو حلمك الذي يزدان أمام عينيك وتسعى إليه وتنتظر لقاءه...؟
أبوتمّام مشغول بفكرة الدّهر وصروفه وسهامه، هذا الحسّ الوجوديّ تلبّس الدّهر مع الشّعر الجاهلي ولم يفارقه، فالدّهر هو الزّمن، والزّمن يعني التّحول والتّغير والصّيرورة، وكلّ تغيّر يشي بما بعده، وكل صيرورة ابتداء واكتمال ونهاية، وكل نهاية استعداد لبداية جديدة، لقد التقط أبوتمّام حلقة واحدة من حلقات تلك الصيرورة، التقط الربيع ومنه نفذ إلى إمامه، وإلى معشوقته التي لا يبوح بها، وإن وشّحت ظلالها الفاتنة المعنى كلّه، ومن الرّبيع نفذ إلى القصيدة ومفهومها لديه، ومنه إليك -أيها القارئ– يا من سوف تأتي بعده ويسكنك الحلم والأمل والرّجاء...!
أراد أبوتمّام أن يتجاوز صورة "صروف الدهر" المخيفة، أراد أن يطمئن من بعد خوف طويل، ويهجع إلى دهر يمتدّ زمانه ولا ينتهي، قد يكون حالمًا، وما من بأس أن يحلم الشاعر ويحلم معه الناس..!
في البيت التالي سوف ينشغل الفنّان بتأصيل تلك الصورة، سيغلب عقل أبي تمّام على خياله الوثّاب؛ ليجيبك عن سؤال مضمر يفترض أنه يشغل بالك الآن: لماذا كان الرّبيع كذلك؟
وهذا يعني أن بيت المطلع هو نتيجة للبيتين التاليين، ولا تستغرب أن يأتي الشعر بالنتائج قبل المقدمات؛ فالشعر قد يوظّف المنطق، دون أن يلتزم بخُطاطات المناطقة، للشعر قانونه الذي يريك آيات الجمال من حيث لا تدري ولا تحتسب، يقول السيد:
نَزَلَت مُقَدِّمَةُ المَصيفِ حَميدَةً
وَيَدُ الشِتاءِ جَديدَةٌ لا تُكفَرُ
لَولا الَّذي غَرَسَ الشِتاءُ بِكَفِّهِ
لاقى المَصيفُ هَشائِمًا لا تُثمِرُ
يقول أبوتمام: إن هذا الرّبيع الذي تراه أمام ناظريك مجرد فصل، مجرد دورة من دورات الدهر، ولقد كانت غنيّة بما يكفي؛ لتجعل دورة الصيف ملوّنة بها، مزهوّة بثمارها، تمامًا كما كان الرّبيع نفسه صنيعة الشتاء، وما كان للربيع ولا للصيف أن يختالا بدون الشتاء الذي تعهد الغرس بالخصب والرّي.
نستكمل في المقال القادم.

إعلان

إعلان

إعلان