لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

استدامة التباعد الاجتماعي

أمينة خيري

استدامة التباعد الاجتماعي

أمينة خيري
07:00 م الإثنين 27 أبريل 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

التباعد الاجتماعي باقٍ معنا بعض الوقت، فهل نبقى نحن معه وعليه؟ سؤال يتردد في أرجاء الكوكب. وهو سؤال يجد إجابات ملتبسة حيناً، ومترددة حيناً، وتفكيراً عميقاً دائماً. التباعد الاجتماعي، أو كما عدلت مسماه منظمة الصحة العالمية في أوائل اجتياح الفيروس للكوكب ليصبح "التباعد الجسدي" - صار علينا حقا.

في البداية، ولأسباب تتأرجح بين الصدمة الثقافية والفزعة المنطقية، نظرنا نحن- المصريين- إلى المسألة باعتبارها إما شكلاً من أشكال النزق، تماماً مثلما كنا نعتبر حديث حماية البيئة وصون التنوع البيولوجي أحاديث لا تمت لنا بصلة؛ أو سفها حيث الضحالة بمعرفة ما يمكن أن يؤدي إليه التلاصق الاجتماعي أو الجسدي من كوارث صحية ومآسٍ مرضية، أو رفاهية لا تقوى عليها سوى مجتمعات العالم الأول؛ حيث الفضاءات العامة التي تتيح تحقيق مبدأ التباعد.

ولا يفوتنا هنا جانب العادات والتقاليد؛ حيث مفهوم "المساحة الشخصية" يكاد يكون غير موجود، وإن وُجِد فإن من يتمسك به يُنظر له باعتباره مختلاً أو "شايف نفسه".

والمساحة الشخصية عن تلك المنطقة التي "يفترض" أن تحيط بكل منا والتي "يفترض" أن تحقق لما راحة نفسية وشعوراً بالأمان. و"يفترض" أنه في حال اختراق هذه المساحة، فإن الشخص يشعر بالتهديد والتوتر والغضب وعدم الراحة. ولأسباب اجتماعية وثقافية وربما ديموغرافية، فإن مفهوم "المساحة الشخصية" في أغلب أرجاء مصر غائب تماماً.

وأتذكر تلك المعركة الكلامية الشرسة التي خضتها قبل سنوات في عربة السيدات في مترو الأنفاق؛ إذ تركت نحو عشرة سنتيمترات بيني وبين السيدة الواقفة أمامي، فإذ بجمهرة النسوة ورائي يطالبن بسد هذه الثغرة، وملئها إما بدفعي إلى الأمام أو باستدعاء أخرى لمنع إهدار هذه المساحة.

وفي زمن كورونا- وهو الزمن الذي يتوقع أن يبقى وآثاره معنا بعض الوقت- باتت مسألة المساحة أو التباعد الاجتماعي ضرورة حتمية. وبمرور الأيام في ظل الوباء، يتضح أن التباعد الاجتماعي ليس معضلة مصرية أو عربية أو حتى خاصة بدول العالم الثالث التي تشاركنا متعة الانفجار السكاني وسباق الأرانب، لكنها باتت تشكل أزمة كبرى لم تتبلور آثارها الجانبية بعد.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، حركة الطيران العالمي لم ترَ الأسوأ بعد. ففي ظل تأثر 93 في المائة من سكان العالم بفيروس كورونا، وتطبيق قيود شديدة على حركة الطيران، سواء بالإغلاق الكامل أو الإيقاف الجزئي، يتوقع أن يتم رفع هذه القيود تدريجياً في المستقبل القريب، وربما يكون ذلك لأسباب لا تتعلق مباشرة بتقلص خطر الفيروس ولكن بتنامي خطر الإفلاس. عودة حركة الطيران تفتح ملف إمكانية تحقيق التباعد على متن الطائرات. الحلول السهلة والسريعة التي يقترحها البعض تشير إلى أن يتم ترك مقعد شاغر بين كل راكب وآخر، وهو ما يطرح سؤالا: ومن يتكبد كلفة المقعد الشاغر؟ هل هي شركة الطيران؟ أم الركاب؟ ويشار في هذا الصدد إلى أن رئيس مجلس إدارة شركة "ريان إير" قال قبل أيام إنه لن "يسمح بأن تطير طائرات الشركة دون حجز المقاعد الموجودة في الوسط بسبب قواعد التباعد الاجتماعي الحمقاء"! (لاحظ ماذا يحدث حين تتضارب المصالح مع الجوائح).

شركات أمريكية عملاقة متخصصة في إنتاج المواد الغذائية بدأت تحذر من مشكلات غذائية تلوح في الأفق القريب؛ بسبب إغلاق مصانع تصنيع لحوم ودواجن وأسماك مع استحالة تحقيق مبدأ التباعد في داخله وبعد معلومات عن استمرار العمل في مصانعها دون توفير كمامات الوجه للعمال، بالإضافة إلى إجبار عمال على الاستمرار في العمل رغم ظهور بوادر مرضية عليهم.

ونعود إلى مصر حيث التباعد الاجتماعي واستدامته أمر بالغ الصعوبة. فهو إن تحقق إلى حد ما بسبب مشاعر الهلع الأولى من الفيروس، فإنه لم يقوَ على الصمود في ظل سباق الأرانب الدائرة رحاه، وهذا الضخ المستمر لملايين المواليد الجدد على مدار الثانية. وهو أمر بالغ الصعوبة في أحياء عشوائية لا تسمح شوارعها بدخول سيارة مطافئ في حال اندلاع حريق.

وبالطبع فإن عاداتنا وتقاليدنا ليست معتادة على مسألة التباعد، بل إنك لو طلبت من أحدهم أن يخطو خطوة إلى الوراء حتى تنتهي من إنهاء معاملاتك لدى موظف البنك، فإنه يعتبر ذلك إهانة له.

التباعد ليس تافهاً أو ادعاء أو محاولة فرض قيم غربية على عاداتنا الشرقية الجميلة، لكنه بات ضرورة تتبدى مصاعب تحقيقها واستدامتها في مشارق الأرض ومغاربها شيئًا فشيئًا.

إعلان

إعلان

إعلان