لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

ذلك الإنسان وسيرته وتلك الأرض "كرويةٌ تلفُ حول نفسها"..

د.هشام عطية عبد المقصود

ذلك الإنسان وسيرته وتلك الأرض "كرويةٌ تلفُ حول نفسها"..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:01 م الجمعة 23 أبريل 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أخذ العالم زمنًا ممتدًا ليعرف ما صار الآن من مبادئ تاريخ العلم، بأن الأرض كروية أو قل بيضاوية تدور حول نفسها وتدور أيضًا حول الشمس، أخذ ذلك جهدًا معرفيًا شاقًا وأحيانًا مؤلمًا إنسانيًا، في مواجهة ما كان يشبه اليقين رسوخًا، وفقط ليثبت ما صار الآن بديهيا من العلم، وبحيث إن من يقول عكسه اليوم صار هو موضع شك وربما اتهام بالتخلف والجنون.

يقاوم الناس ما لا يألفون، مهما تبدت مؤشرات وأدلة تقلقل ما هو مستقر في العقول والأذهان، مضت البشرية تقاوم فكرة كروية الأرض وكونها مجرد كوكب ضمن آخرين يدورون حول الشمس، واستغرق تصحيح ذلك جهدًا وعلمًا وتقدمًا وسنوات طويلة، وأجيالًا متتابعة من الناس، وهكذا طبع البشر في مجال المعتقدات والأفكار ونزوعهم دوما للثبات حيث ما يعرفون وللمجادلة دأبا وطبعا في الحياة.

يحمل لنا تاريخ المشاهد الكوميدية الفذة شيئًا بهيجًا عن الوعي بكروية الأرض ذاتها، ففي مسرحية "السكرتير الفني" التي كتبها كل من بديع خيري ونجيب الريحاني، وتم عرضها عام 1968 وقف الفنان فؤاد المهندس أو الأستاذ ياقوت أفندي عبدالمتجلي في مواجهة والد طالب في المدرسة الابتدائية التي يعمل بها مدرسًا للجغرافيا، وحيث يأتي والد الطالب الذي رسب في الامتحان ويسأل بداية عن معنى الجغرافيا فيجيب ابنه ساخرًا "جغرافيا يا با بتاعة الأرض كرويةٌ تلفُ حول نفسها".. فيرد الأب: " هي نحله يا واد.. الأرض اللي إحنا واقفين عليها دي بتلف حول نفسها.. وأنا وأنت واقفين على الأرض دلوقتي وهي بتلف يعنى الصبح تبقى دكانتي في باب الشعرية أدور عليها الضُهر ألاقيها في روض الفرج". جاء الإفيه مبهرًا مدهشًا وعبقريًا في تعبيره عن ثقة الناس فيما يستقر في عقولهم ولو كان جهلًا محضًا، ثم يألفونه فيتحول إلى يقين، هكذا يزين لهم حسهم البشرى المحدود، وما يكشف لهم عنه القريب والمنظور من أحوال الكون، فماذا عن وقائع أحوال البشر ومصائر الحياة الإنسانية؟!.

بشأن الأخيرة تبدو النتيجة مانحة لدلائل عبر المعرفة والنظر والحدس، تنافي روائع القول خيالًا والحلم منالًا والأفكار صعودًا دخانيا متماوجًا فيذهب دوما مع الريح، وحيث إن مسار الحياة والفرد والمجتمعات ليست في مستوى تحرك أفقي أو عمودي واحد، أو أنه ينتقل دوما إلى تغير وتبدل وتحول مختلف، بل إن الحياة يمكن أن تجرب إعادة التكرار معايشًا ومشاهدات ووقائع على مستوى الجيل أو الحقبة أو حتى على مستوى تتابع الحقب وإن تباعدت، نفيًا لمقولة إن الحياة في حركتها تغادر محطاتها الأولى بلا رجعة أو تكرار أو حتى شبه تكرار.

يمنحنا التأمل في المشهد العالمي ظلًا واضحًا لذلك، ونرى سياقات منه دالة في منظومة العلاقات الدولية المعاصرة، فالولايات المتحدة الأمريكية تعيد إنشاء مسرح الحرب الباردة القديمة باللاعبين القدامى أنفسهم، ولو تغيرت المسميات، وتدرك الآن أنه ربما كان وجود الاتحاد السوفيتي أو وريثه المعاصر روسيا ضرورة لحياتها ذاتها، ومقدم على غيره في بناء اتساق وتوحد الأمة الأمريكية واستمرارها، فتعيد إنتاجه عدوًا مبينًا، ربما تفسير ذلك أنه قد أسفر زمن الحياة بلا عدو قومي كبير مخيف عن الكشف عن تصدعات ثقافية وشروخ واضحة في جدار القيم والمعتقدات التي طالما كانت الأمة الأمريكية مصدرها أو مصدرة لها عن المساواة بين الأعراق والألوان والأديان، وهو ما عجل بإعادة بناء أو استدعاء وعلى وجه السرعة لفكرة العدو/ أو الخصم القومي، لتكون مجالا لبناء تكامل وتوحد في مواجهة ما أسفرت عنه تجربة اقتحام الكابيتول من أثر عميق ودلالا عن هشاشة ما كامنة في عظام تناغمات الهوية والعرق.

وهو ربما ما يكشف ما أصر عليه بايدن في طريقة إسناده للمناصب في إدارته وتوزيعها بشكل يقرب لدى الرأي العام الأمريكي تلك الفجوات، وحيث أظهر أواخر عهد ترامب أن شيئا من تلك اللحمة صار مفقودًا، وأنه تحت القشرة الظاهرية للكمال والاكتمال تقبع تباينات وشروخ عميقة في الهوية، شهدتها بالتوازي كثير من المجتمعات الأوروبية وبدرجات استجابة واضحة، ورأت إدارة بايدن أنه ربما من الصالح أن تعود الأرض لتدور ولنحو يقرب من أربعين عامًا من أجل دورة "ريستارت" جديدة في مواجهة الاتحاد السوفيتي القديم في ثوبه الروسي المعاصر، فظهر خطاب عدائي صريح ومباشر بلا سبب أصيل من وقائع صدام مباشرة وخطيرة، وصل حد إتهام القيادة الروسية بالإجرام في خطاب علني، وتصاعدت بالتوازي معه حملات غربية قوية تبنتها مختلف الدول الأوربية تناصر حقوق الإنسان في روسيا وتتبنى خطاب تحديد العدو الروسي الذي يتجسس ويتزامن معه طرد عشرات الدبلوماسيين الروس في عدد من بلدانها معًا، وهكذا اصطفت دول أوروبا متسقة في ذات السياق تستجلب من ذلك عودة لهوية منحتها زمنًا غطاء ساترًا على تناقضات ثقافية بدأت تطفو ودعوات يمينية وفاشية قديمة تطفو، وكان لها حضور مدمر عاصرته جميعها في تاريخها الحديث.

ذلك السير دائريا في الزمان أيضًا يطال دورة حياة الإنسان كائنًا منتجًا عملًا ومعرفة، حيث مهما امتد اتساع دائرة العمر والحياة تحدث للإنسان دورته في الزمان ليعود لنقطة البدء، ويأتي الوصف القرآني عظيما يحدد باليقين ما نعرفه وربما نتناساه "ومنكم من يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا". ما أكثر ذلك شاهدًا على سيرة الإنسان في الكون دورًا وفعلًا وأثرًا، ليس بغرض التقليل من أهمية وضرورة منتجه الحياتي إنسانًا مستخلفًا للسير في مناكبها سيرًا وعملًا، ولكن إيحاء دال بحتمية التحلي بتواضع جميل، يولد الإنسان يلتمس أول المعرفة دهشة وتحصيلًا ووعيًا، ثم تزيد مساحات المعرفة والألفة رويدًا، فيصنع ذاكرته وتكبر إحاطاته ويراكم استخلاصاته وأشياءه، حتى يصل فجأة إلى موضع نقطة فاصلة "أرذل العمر"؛ ليتم مسح كل ذلك "الهارد ديسك" الممتلئ بملفات ووجوه ويترك كل ما حرص العمر على أن يجمعه من أشيائه -وحيث هنا يحضر مشهد الأستاذ ياقوت يؤكد على أن الأرض كروية وأنها تدور حول نفسها- فيعود الإنسان كما لو أنه يولد من جديد، وعند نقطة البدء ذاتها، وحيث لم يعد يعلم من بعد كل ذلك العلم الذى أحاط به شيئًا.

إعلان

إعلان

إعلان