لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

العظماء السبعة في دولة التلاوة

د. ياسر ثابت

العظماء السبعة في دولة التلاوة

د. ياسر ثابت
07:00 م الخميس 17 مارس 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تطمئن النفس إلى صحة مقولة إن مصر هي عاصمة دولة التلاوة، وإن مدرسة القرآن المصرية كانت -وما زالت- هي الأولى والأهم والأشهر والأكثر نفوذًا وتأثيرًا، بكل ما تتفرد به من بصمة خاصة في فن الأداء، وما تتميز به بالحفظ التام والتمكن وحلاوة الصوت الذي يصل بالمعاني إلى شغاف القلوب.

وإذا كانت المطابع قد دارت من قبل وقدمت أعمالًا في هذا الصدد، لعل أشهرها «ألحان السماء» (1959) لمحمود السعدني، فإن الكاتب الصحفي أيمن الحكيم يُقدِّم تجربة مغايرة لا تقوم على الرأي فحسب وإنما تدعم المحتوى بمقابلات ومعلومات جديدة، وذلك عبر كتابه «مزامير القرآن: العظماء السبعة لدولة التلاوة» (منشورات إبييدي، 2022).

يرصد الحكيم في كتابه الذي يقع في 208 صفحات من القطع المتوسط، مسيرة حياة سبعة من كبار قراء القرآن المصريين الراحلين، هم: محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود خليل الحصري ومحمد صديق المنشاوي ومحمود علي البنا ومحمد محمود الطبلاوي.

غير أنه لا يستهل كتابه بالتأسيس لبدايات مدرسة القرآن في مصر، ويشير إلى أن هناك شبه إجماع على اعتبار الشيخ أحمد ندا هو المؤسس الفعلي، وبه تبدأ المسيرة والصفحة الأولى. الشاهد أن ظهور الشيخ أحمد ندا في بدايات القرن العشرين يمثل حدثًا فارقًا وتأسيسًا فعليًا لمدرسة القرآن المصرية الحديثة. اشتهر الشيخ أحمد ندا بعذوبة صوته، وكانت له طريقة خاصة في التلاوة، تأخذ بالأسماع والقلوب.

وما نعلمه هو أن الشيخ أحمد ندا أصبح في عصره أغلى مقرئ في مصر، وقفز أجره في سنوات معدودات من خمسة جنيهات إلى 100 جنيه، وحقق ثروة كبيرة، فانتقل من حارته في العباسية إلى قصر اشتراه وكان يقيم به ندوات يدعو إليها رجال الحُكم والسياسة والأدب، كما أصبحت له عربة «حنطور» تجرها ستة خيول، الأمر الذي أغضب الخديوي، فأجبره على أن يكتفي في عربته بحصانين فقط.

اللافت للانتباه أن الشيخ أحمد ندا رفض تسجيل القرآن، وكانت حجته شرعية، فالأسطوانة التي ستحمل صوته قارئًا لكتاب الله لا تليق بجلاله، ومعرضة للإلقاء في أماكن لا تتفق مع قدسيته.

وكان من حُسن الحظ أن فترة مطلع القرن العشرين شهدت سطوع أسماء أخرى في عالم التلاوة، ومنهم الشيخ يوسف المنيلاوي، الذي عاصر الشيخ ندا، بل كان أكبر منه عمرًا، وكان صديقًا للشيخ سلامة حجازي الرائد المسرحي الشهير، وكان يتمتع بصوتٍ متفرد وصفه الشيخ عبدالعزيز البشري، الكاتب والصحفي المرموق، بأنه كان شجيًا وفيه حزنٌ وشجن.

هناك أيضًا الشيخ محمد القهاوي، المقرئ المفضل للزعيم سعد زغلول، وكان المثل الأعلى لتلميذه الشيخ محمد رفعت، الذي كان وصفه بأنه أجمل الأصوات وأرقها وأعذبها. بطبيعة الحال، هناك أسماء أخرى لامعة في عالم التلاوة، مثل منصور الشامي الدمنهوري، محمد عمران، حمدي الزامل، كامل يوسف البهتيمي، راغب مصطفى غلوش، طه الفشني، محمد الفيومي، عبدالفتاح الشعشاعي، أبو العينين شعيشع، عبدالعظيم زاهر، أحمد الرزيقي.. وغيرهم.

يتناول الكاتب جانبًا من سيرة الشيخ محمد رفعت (1882-1950)، الذي جمع صوته بين القوة والتمكن والخشوع. ورغم بدائية التسجيلات التي نسمعها للشيخ محمد رفعت، فإن صوته يظل بحق «قيثارة السماء». دعونا لا ننسى أن صوت الشيخ محمد رفعت كان مطواعًا وفيه سخاء شديد مهما اختلفت الطبقة التي يؤدي منها، سواء من «قرار» صوته أو من «جواباته» العليا.

وقد لا يعرف كثيرون أن الشيخ محمد رفعت كان متصوفًا، ينتمي إلى الطريقة النقشبندية، وهي طريقة أسسها شاه نقشبند.

أما الشيخ مصطفى إسماعيل (1905-1978) فقد تبارى عشرات من أكابر أهل القرآن في إبداء الإعجاب بصوته وقدراته، منذ أن جاء من طنطا إلى القاهرة، ليصبح طوال أكثر من ربع قرن أبرز نجوم دولة التلاوة. صوت مكتمل الجمال والقوة في جميع درجاته، يجيد الإحساس بكل ألفاظ القرآن ومفرداته. وليس سرًا أن أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب كانا من أحرص الناس على الاستماع إلى تلاوته للقرآن الكريم.

ويمثل صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد (1927-1988) حالة فريدة. وإذا كان محمود السعدني يرى أن صوت الشيخ رفعت له مذاق التفاح، وصوت الشيخ مصطفى إسماعيل في حلاوة العنب البناتي، ويشعر في صوت الشيخ محمود خليل الحصري بطعم الجوافة، وصوت محمود علي البنا له حلاوة البطيخ الشلين، وفي صوت الشعشاعي مذاق الرمان.. فإنه اختار لصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد مذاق الخوخ. ويظل صوت الشيخ عبدالباسط واحدًا من العلامات الكبرى في دولة التلاوة المصرية؛ إذ يجمع بين الرقة والخشوع والصفاء والحزن النبيل.

صوت يتسم بطول النفس والقدرة على تلاوة الآيات في نفسٍ واحد بسهولة وعذوبة.

ويعد الشيخ محمد صديق المنشاوي (1920-1969) صوتًا يفيض بالخشوع، حتى إنه نال لقب ريحانة المقرئين، وكان يوصف بأنه قطب التلاوة، وكانت له مدرسته في التلاوة، فلم يقلد أحدًا، وكان شعاره «أنا لا أخرج من الصعيد.. ولا الصعيد يخرج مني»!

ويُنظر إلى الشيخ محمود علي البنا (1926- 1985) على أنه أمير قرآن الفجر وملك «القفلات». والذين عاشوا زمن البنا وسعدوا بالاستماع إليه في تلاواته الحية، يدركون معنى الأجواء الملائكية التي كانت تحف بهذه المجالس، خاصة في تلاوات صلاة الفجر، حيث كان يتجلى فيها صوته ويصل بأدائه إلى ذُرىً رفيعة.

ويمكن أن نطلق على الشيخ محمود خليل الحصري (1917-1980) لقب «حارس القرآن» و«وزير دولة التلاوة»؛ إذ كان صاحب أداءٍ فذ في القراءة المتقنة والالتزام الصارم بالأحكام. من هنا يمكن فهم الحرص على تسجيلات الشيخ الحصري وبثها عبر إذاعة القرآن الكريم منذ انطلاقها في 25 مارس 1964. كان ابن قرية شبرا النملة في محافظة الغربية صاحب مدرسة في التلاوة اعتبرها كثيرون «الميزان» الذي يمكنك أن تقيس عليها وتحتكم إليها.

أما الشيخ محمد محمود الطبلاوي (1934-2020) فقد اعتبره محمود السعدني «آخر حبة في سبحة المقرئين العظام» بفضل صوته الذي يمتاز بالحلاوة والطلاوة، وكان يفاخر بأنه أغلى مقرئ في مصر، وكان يركب سيارات فارهة. وكان المقرئ المصري الوحيد الذي طلبه العاهل الأردني الملك حسين ليقرأ في عزاء والدته الملكة زين، وطلبه الرئيس السوري حافظ الأسد ليقرأ في عزاء ابنه باسل.

كتاب «مزامير القرآن: العظماء السبعة لدولة التلاوة» متعة لا تُضاهى، تستدعي أسماءً وأصواتًا خالدة في علم تلاوة القرآن في مصر ومحيطها العربي بل وفي الأقطار الإسلامية ككل.

إعلان

إعلان

إعلان