لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

أفلوطين السكندري.. وحيدًا مع الواحد

د. أحمد عبد العال عمر

أفلوطين السكندري.. وحيدًا مع الواحد

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 13 أكتوبر 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

النفس الإنسانية عند الفيلسوف الصعيدي المصري أفلوطين السكندري (205- 270 ميلاديا)، هي حجر الزاوية في فلسفته، ومدخله الرئيس لدراسة الإنسان من كافة أبعاده، وتشخيص أزمته الروحية في عصره المضطرب، وشرح كيفية الخلاص من هذا العالم المتخم بالشرور من خلال التأمل الفلسفي وحده، بعيدًا عن الخلاص الذي جاءت به المسيحية، والذي يقوم فقط على الإيمان بالمسيح، متابعة لما ورد في سفر أعمال الرسل «آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ».

ولهذا عمد أفلوطين في بداية مقالاته الفلسفية التي حملت اسم "التاسوعات" إلى الحديث عن طبيعة النفس الإنسانية وأصلها الإلهي، والتساؤل حول هبوطها من العالم الروحاني كيف كان ولماذا؟ وكذلك التأكيد على مغايرتها للجسد والقول بخلودها، والدعوة إلى تطهيرها وتصفيتها وتسهيل طريق عودتها وارتقائها وصعودها إلى موطنها السماوي.

وبين هذا الهبوط وذاك الصعود تشكلت فلسفة أفلوطين واتخذت طابعها الصوفي، وأصبحت لا تهدف إلا إلى أمرين: تفسير هبوط النفس إلى العالم المادي، وتسهيل صعودها إلى العالم الروحاني، لتحقيق غاية أفلوطين الرئيسية التي حددتها لذاته وللآخرين وهي "فرار كل منا وحده إلى الواحد وحده.

مع ضرورة أن نضع في اعتبارنا أن هبوط النفس إلى العالم عند أفلوطين ليس شرًا مطلقًا عند أفلوطين بالمطلق، لأنه تكتسب منه منافع عدة. لكن إمعان النفس في الهبوط إلى العالم المحسوس والارتباط الوثيق بالجسد، ونسيانها أصلها ومصدرها، وقيامها بإحداث قطيعة مع العالم السماوي، هو سقوطها الحقيقي ومدخل الشر إليها، ومدخل شعورها بالاغتراب وبأنها في منفى بعيدًا عن موطنها الأصلي.

وإذا حدث ذلك على النفس الإنسانية أن تُسرع في التحرر من قيود الجسد والفرار من هذا العالم للخلاص من الشر المتأصل فيه، والخلاص من الشرور الناتجة عن الارتباط بالجسد، وهو الخلاص الذي اهتم أفلوطين بالبحث عن الوسائل التي تُعين على تحقيقه لذاته والآخرين، والذي يتم في مذهبه الفلسفي عبر ثلاث مراحل.

المرحلة الأولى: التطهر بالفضيلة والارتقاء الجمالي.

غاية هذه المرحلة تحرير النفس من قيود الجسد وشهواته وانفعالاته، وتجريدها مما ليس أصيلا فيها، وتخليصها من عشق العوام لكل ما هو مادي وشهواني، وتذكيرها بالجمال الإلهي وأصلها الإلهي، وإكسابها نوعًا من الطهارة الروحية التي ترتفع بها من العالم الحسي إلى عالم الحقائق الروحية الذي يعلو على الحس، وجعلها تُدرك أن الجمال والفضيلة شيء واحد، وهما ينبعان من (الواحد) الذي هو أصل الفضيلة والجمال والحد الأقصى لهما.

المرحلة الثانية: التفلسف وممارسة الجدل العقلي.

غاية هذه المرحلة تمهيد الطريق نحو الوحدة الصوفية مع الواحد عبر تعلم وممارسة الفلسفة العقلية التي تقودنا إلى معرفة ذاتنا ووجودنا الحقيقي، وتوقظ فينا الوعي بوحدتنا مع الواحد، وتحثنا على الارتقاء إليه في جدل صاعد من العالم المحسوس إلى العالم المعقول. ومن ثم فإن هذه المرحلة تجعل الوحدة الصوفية مع الواحد أمرًا ممكنًا من خلال عمل العقل.

مع ضرورة معرفة أن التفلسف والجدل العقلي عند أفلوطين وسيلة وليس غاية؛ لأنه لا يوصل الإنسان مباشرة إلى الواحد، بل يجعله يعرف ما هو أصله ومصدره وغايته. ويجعله يعرف أيضًا أن الروح/العقل، هو ما يُشكل ذاته الحقيقة. وبالتالي يُمكن الإنسان من معرفة الطريق وحتمية السير فيه لتحقيق هدف مشاهدة الواحد والاتحاد به.

المرحلة الثالثة: المشاهدة والاتحـاد مع الواحـــد.

احتلت تجربة الاتحاد مع الواحد (الإله) موضع الصدارة في تفكير أفلوطين، وكانت تُمثل جوهر الكثير من جهوده الفلسفية، ومصدر القوة الخالدة لتعاليمه. وقد روى تلميذه فورفوريوس في كتابه عن حياة أفلوطين أن أستاذه سعى بكل جهده للتحرر من أمواج الحياة الدامية، وكان الهدف والغاية بالنسبة إليه أن يتحد بالإله. كما أخبرنا فورفوريوس أن أفلوطين قد أدرك تلك الغاية أربع مرات بالفعل الذي يفوق الوصف.

وقد ذكر أفلوطين في مقالاته الفلسفية أن الكائنات كلها ترغب في مشاهدة الواحد، وأن هذه المشاهدة هي غاية أعمالنا كلها. غير أنها لا تتحقق للإنسان إلا بمعرفة إشراقية حدسية تأتي للنفس بعد التطهر بالفضيلة وانفصالها عن الأمور الدنيوية وترفُّعها عن كل ما ليس منها، واستعادة بساطتها ووحدتها الأصلية التي كانت عليها قبل الارتباط بالجسد. وإلا بعد أن يكتمل تحولها الفلسفي وتصير عقلًا وروحًا خالصين.

وإذا ما توفر للإنسان هذين الشرطين، وتجرد من كل شيء، أصبح مهيًأ لمشاهدة الواحد والاتحاد به، لكن عليه أن يحقق في نفسه شرطًا ثالثًا ليتم له ذلك، وهو الانتظار في صمت وسكينة حتى يظهر الواحد له.

وببلوغ هذه الدرجة من السمو المعرفي والأخلاقي والروحي، يصبح الإنسان وحيدًا مع الواحد، ويتحقق له حالة وحدة الشهود عند الصوفية، التي يكون المرء فيها مع الحق بلا خلق.

إعلان

إعلان

إعلان