مصراوي داخل أول قرية أغرقتها السيول قبل 33 عاما
كتب- سامي مجدي وإشراق أحمد ودعاء الفولي:
الشتاء يعلن عن نفسه، أمطار لا تنقطع، تندفع مياهها نحو البيوت النائم أصحابها، صراخ يكسر عتمة الليل، جدران تنهار على بعضها البعض، المنازل المبني أغلبها بالطوب اللبن تُقتلع من جذورها، كأنما جانب من بحر اقتطع، ليجري في تلك البقعة بلا هوادة.. لم يكن ذلك مشهد للسيل الذي ضرب البحيرة في 4 نوفمبر الجاري، وأغرق عدد من القرى، بل هو ذاته ما شهدته تحديدا قرية كفر الواصلين بالجيزة قبل 33 عاما في 23 فبراير 1982، أو "القبابات" الاسم الأشهر وما سجلته وسائل الإعلام حينها، إذ أن الأخيرة هي الوحدة الإدارية التابع لها القرية التي ضربها السيل، وحينها لم يختلف المصاب، وهول الحدث الواقع بقرية صغيرة، لم يتغير أهلها كثيرا بمرور الزمن.
مصراوي تفقد سيرة أول سيل يحدث بزمام القاهرة الكبرى والجيزة، بالقرية التي لم تكن شهدت سيول قبل 40 عاما مِن ذلك التاريخ، مسترجعا معاناة الأهالي مع حدث جلل، يأتي بين فترات وأخرى، وموقف الحكومة في ذلك الوقت.
مثل غيرها من قرى محافظات مصر، لازال الطابع الريفي حاضرًا بـ"كفر الواصلين"، غير منقطع عنه لمسة الحضر، في البيوت ذات الدهانات الحديثة، والمتجاوزة في بعض الأرجاء للطابق الواحد، فيما كان التغيير الرئيس في كون أكثر من 90% من منازل القرية مبنية بالطوب الأحمر والخرسانة المسلحة، وهو ما أسفر عنه واقعة الغرق الأول بشكل أساسي، حيث أغلب البيوت حتى 1982 كانت تُبنى بالطوب اللبن "النيء"، قبل أن تضرب السيول المكان، وتأخذ بطريقها نحو 104 منزل، وتشريد نحو 500 شخص وفقا لجريدة الأخبار في عدد 25 فبراير لهذا العام.
قبل عام 1982 حين تهطل الأمطار بغزارة، كانت المياه تغمر بيوت "كفر الواصلين" وباقي قرى جنوب الجيزة، ويكسو الوحل الطرقات، إذ كانت الأمطار تعرف طريقها بالمخرات الرئيسية بالصف، لكن ذلك اليوم الثلاثاء 23 فبراير 1982، تغيرت الأحوال "المايه ضربت في المنطقة زي القنبلة" قالها عبد الرازق محمد، بينما يجلس بين رجال من القرية في "سوق السبت" في الأرض التي تجمعت بها مياه السيل قبل أكثر من 30 عاما، يتذكر الرجل السبعيني هرعه وأبناءه الستة من بيته قبل أن يجرفه السيل ويسويه بالأرض "المنطقة كلها كانت بالطوب اللبن عدا بيت أو بيتين" لذا كان المصاب كبير في تلك البقعة الشرقية المنخفضة من القرية.
فيما هجمت المياه بقوة على قرية "كفر الواصلين"، كان أحمد عبد الحليم عمار شابا في الخامسة والعشرين من عُمره، يقبع ببيتهم بعد صلاة العشاء، مع مجموعة من أقاربهم، يجلسون داخل ساحة المنزل، يتسايرون، أمامهم سور عالي من الطوب، كانت المياه تنسدل عليه أمطارا، شعر الشاب باهتزازه، لكنه لم يُلقِ بالا في البداية، غير أنه هبّ واقفا وأمر من حوله بالابتعاد "السور هيقع"، وبالفعل لم يُكذب خبرا.
كان منزل عائلة عمارة غرب القرية بمنطقة مرتفعة نسبيا، فلم يُصبه أذى سوى سقوط السور، ولم تغمره المياه، غير أن الوضع بمنزل الأخ الأكبر لـ"عبد الحليم" كان مختلفا، إذ أنه بُني بأعمق منطقة في القرية، بجوار "سوق السبت"، كان حينها محمد عمارة متزوجا منذ عامين "كان واخد شقة صغيرة ووراها جنينة بتطرح يوستفندي وبرتقان"، حين هجمت المياه فكّر الأخ الأصغر في ممتلكات أخيه "العريس الجديد"، كان الليل يغطي كل شيء، "كلوب" الضوء لا ينير لمسافة أبعد من أمتار، لكنه أصر "روحت بيت أخويا كنت عايز أنقذ الدهب بتاع مراته هو اللي كان هينفعه".
رويدا اقترب "عبد الحليم" من منزل أخيه الغارق، بالكاد وصل إلى هناك متبينا المياه التي أغرقت المحيط، بينما الحديقة المجاورة للمنزل لم يعد يُرى منها سوى أطراف الأشجار "مبقتش شايف قدامي بس نزلت الجنينة عشان أعرف أدخل على البيت"، لم يتوقع الرجل الستيني أن يصل منسوب المياه إلى رقبته، صار أكثر تصميما، يسبح داخل مياه ثقيلة الظل والكثافة، يسمع صوت احتكاك ولا يعرف من أين يأتي، مصدر الصوت يقترب حتى رأى بعينه "حمار بيغرق وودانه كانت بتخبط في بعضها بسبب المياه"، استمر في تحريك كلتا يديه وقدميه، حتى وصل لمنزل أخيه "يادوب تمد الإيد لمرتبة السرير الغرقانة" ذلك أقصى ما بلغه "أحمد" ليعود دون شيء، فلم يجد ما غامر من أجله، لكن بطريق الرجوع عائما، وجد ما يحمله؛ الحمامتين "من النوع الهزاز اللي مبيطرش"، وجدها تطفو على وجه المياه فيما صغارهما ماتا عنها، فأنقذاهما عائدا أدراجه إلى بر الأمان.
قصة السيل يعرفها كبار وصغار القرية التابعة لمركز أطفيح، حال سيد تمام، الذي كان في الثالثة عشر من عمره حين أتت المياه، بنى والده عام 1977 بئر مياه بجانب منزلهم "كان بيتنا جزء منه في العالي وجزء في الواطي بس لما المايه جت ردمت البير"، ذلك المشهد هو أكثر ما يذكره الرجل الذي جاوز الأربعين عاما الآن، ويعمل مدرس بالمعهد الأزهري، يسكن الرجل قرب المعهد، وهي أعلى منطقة بالقرية، مما خفف ذلك المأساة عنهم، وترك لهم مشاهد كالأفلام "نورنا كلوب جاز واتفرجنا على الماية وهي جاية بسرعة.. كانت يادوب قرابة متر"، لم يتأثر بيت "تمام" حينها "المايه عدت حوليه"، لذا كان حال أبناء "قبابات" بالمناطق الآمنة هي "الفرجة" وهو ما أكده مدرس آخر أصغر عمرا بالمعهد، قبل أن يهم لحضور حصته.
صوب "عقر عالي" كما يسميه "عبد الرازق" ويعني به تبة جبل، توجه الرجل وأهل القرية التي تبعد نحو 80 كيلو متر جنوب الجيزة للاحتماء، لما يقرب من 6 ساعات استمرت السيول حينها وفقا لجريدة الأخبار، بعدها لجأ المتضررون إلى سكن الخيام، التي جاءت بها المحافظة، في اليوم الثالث من الواقعة، وفقا لما نشرته جريدة الأخبار بعد يومين من الحادث في ذيل صفحتها الثالثة، وذكرت أن الأسر تقيم بالعراء ولم تُصرف لها الخيام حتى ذلك اليوم، وكان من بينهم الرجل السبعيني "أدوا لناس وناس تانية لأ وأنا منهم" قال "عبد الرازق"، الذي عاش مع الأقارب حينها، حتى وضع أساس لبيته الجديد في المكان ذاته، لكن بالطوب الأحمر "كل لما ربنا كان بيفتح نرمي أساس".
صبيحة النكبة التي أصابت القرية البعيدة حوالي ٩٠ كيلومتر جنوب القاهرة، استوعب أهل القرية ما ألم بأرضهم "كل اللي كان له حاجة بيلمها" قال "عبد الحليم"، عروق الخشب، الأواني الألمونيوم وغيرها، فرغم أن تعداد السكان لم يكن ضخما، غير أن العدد المُصاب بالضرر كان كفيلا بنزوحهم من البيوت للعراء، فيما تتوارد المساعدات عليهم ممن الحكومة، أصبحوا لأول مرة بوسائل الإعلام "آمال فهمي جت واتكلمت مع الناس"، أما المساعدات فلم تتخطَ الخيم والبطاطين للمنكوبين وأحذية "كوتشيات بلاستيك" ضخمة المقاس " 55 ومجتش على مقاس حد غير واحد بس فخدها كلها حسين الفيومي" قالها "عبد الحليم" معبرا عن الأوضاع، غير الخالية وقتها من التندر، فقد بات ذلك الرجل الوحيد الفائز بشيء من "الحكومة".
استطاع الجيران مساعدة بعضهم البعض، لم ينتظروا مساعدات "اللي عنده فلوس جاب للي بيته وقع 1000 ولا 2000 طوبة يبني بيها"، منعتهم كرامتهم وقتها من مطالبة الدولة بتعويض "وحتى اللي ليه حق كان جاهل بيه" حسب "عبد الحليم" ذو الـ59 عاما.
بيت عائلة "عبد الحليم" الكائن بالجانب الغربي من القرية، وهو الجزء الأقل تضررا من السيل، كان شاهد على التكافل بين الأهالي، يدخل إحدى الحجرات فيجد صغار "صفوف.. صفوف" لا يعرفها نائمة على السرير، وبالجانب الآخر، يربط بعض الجيران ما استطاعوا انقاذه من البهائم.
لم يسفر السيل الذي ضرب قرى الصف وأكثرها تضررا كانت "كفر الواصلين" عن سقوط وفيات بسبب اندفاع المياه رغم أنه الحادث الأكبر في تاريخ المركز، وما قبلها من سيول "كان بيصب في المخرات والترع" وفقا لأهالي القرية، ورغم ذلك إلا أن الموت أبى أن يترك المكان، فبينما يبيت 3 أخوات صغار من عائلة "الشلابوة" إحدى الخيام، مسكت نار الموقد بلمبة الإضاءة الغاز فاشتعلت الخيمة، ليلقى الصغار الثلاثة مصرعهم، وذكرت جريدة الأخبار أن رجل يدعى محمود خلف (52 سنة) توفى يوم الواقعة الثلاثاء 23 فبراير نتيجة سكتة قلبية فور سماعه خبر سقوط منزلي ولديه.
"كان عندي 40 يوم في بطن أمي لما السيل حصل" بابتسامة قال أحمد عبده، تلك الحقيقة المنافية لواقع الشاب الثلاثيني مع تفاصيل الحدث، إذ يرويه حتى يبدو للمستمع أنه حضره، يشير لشارع "عبد العزيز" الذي انهارت جميع البيوت الكائنة به حينها إلا منزلهم، يحدد المنطقة المنخفضة، وتلك المرتفعة بالقرية، وبين هذا وذاك يسرد مشهد "العيال كانت بتركب الطشت زي المركب"، فيما كان السبب في ذلك "حكاوي" والدته غير المنقطعة عن بيتهم، الذي صمد أمام السيل، حتى بات حينها ملجأ المنكوبين من أهل القرية، فبقيت السيرة عن بيت لم يقدر السيل إلا على إغراقه بالمياه.
في شهرها الثاني للحمل، جاءها الفزع، طرقات متتالية على باب منزلهم، توقظهم من النوم "البلد بتغرق"، هرعت "أم ايهاب" تحتضن ابنها ذو العام الواحد، فيما تحمل بيدها الأخرى ذهبها، تلك أغلى الأشياء وما تمكنت من حمله، بينما تتلمس أرجلها المياه الغامرة لبيتها، وما إن خرجت لتستقل السيارة "البيجو" التي أسرع زوجها "محمد عبده" لإحضارها، حتى انتفض جسدها " بيتين وقعوا على بعض ما بعد ما تحركنا بثواني يعني لو كنا استنينا كانوا وقعوا على العربية" تقولها السيدة متذكرة مشاهد الرعب الأولى، التي لم تشهد مثلها.
الظلام حالك، انقطاع الكهرباء زاد ساعات الليل العصيبة عتمة، الأرجل لا تعرف سوى هدى الفرار من المجهول، فيما العقول عرفت بعد هدوء الأحوال أن الرحمة ملأت المكان "من كرم ربنا الكهربا راحت مفصولة" تتذكر "أم إيهاب" مستعيدة الحمد، على تلك اللحظات، التي لولا تدخل القدر بها، لسقطت ضحايا لا تحصى.
بيت ذو طابق واحد، لم يتغير شكله كثيرا طيلة 30 عاما، سوى الدهانات المجددة له، وكتابات التهنئة بعودة كبير البيت "محمد عبده" من الحج، وأقدام الأحفاد التي يعج بها البيت، المُبنى بالطوب الأحمر، وقت أن كانت جميع بيوت "القبابات" من الطوب "النيء"، إلا أقل القليل وهو منها، كانت فرحة "أم إيهاب" بالبيت حين عرسها لا يضاهيها شيء، وكذلك حين وقع السيل "واحدة جارتنا كانت لسه هتتجوز في نفس أسبوع السيل جهازها كله راح"، فيما لم تبق الشابة وقتها سوى يومين بمنزل والدتها، البعيد عن مجرى السيل، لتعود إلى منزلها، بعد أن نُزح منه الماء عبر ماكينة شفط استمر عملها 20 ساعة.
المقتدر هو مَن كان مصابه أقل مِن غيره، لكن الجميع كان يكفل بعضه البعض، فأخذت السيدة تستقبل وفود النساء من الجيران "المنطقة كلها كانت شايله حاجاتها عندنا بتسيب عندنا" قالتها "أم إيهاب" متذكرة أحمد المنجد، تاجر القطن، الذي احتفظ بما تبقى من تجارته في منزلهم، وتصادف أنه الشخص الذي ذكرته جريدة الأخبار في تغطيتها للواقعة عام 1982، إذ وصفته بانه أكثر الحالات تضررا لفقدان ثروته المقدرة بنحو 5 آلاف جنيه وفقا للجريدة.
يتابع الزوج محمد عبده الأحداث الجارية باهتمام عبر التلفاز، فيما تنتبه "أم إيهاب" مؤخرا لما وقع بالإسكندرية والبحيرة، تخبره بلهجتها فيما يعني ما أشبه اليوم، بما أصابهم من هول، كانوا به شهود، فتسترجع بعد مرور33 عاما، حالة الصغيرة المزهوة بمنزلها الوحيد الباقي بين الجيران "كنت بترسم عليهم"، حين كانت تقف على الأبواب كأنما "سيدة القصر"، تتبادل الحكايات مع النساء، فتعلم أنها ذات الحظ الأوفر.
"لو في الأيام دي كان راحت أرواح ياما" دون تردد قالت السيدة الأربعينية عن تخيل وقوع الحدث ذاته بالوقت الحالي، معتبرة بسجيتها أن تغير طباع الناس هو ما سوف يؤدي إلي هذا، وليس فقط تغير أحوال القرية، المتحول بيوتها إلى الطوب الأحمر، والمتزايد تعداد سكانها عما قبل أكثر من 30 عاما، حتى أنها توسعت في الظهير الصحراوي، فيما لم يختلف الخدمات بها، فلازالت بلا صرف صحي، وما زال أهلها ينزحون مياه الأمطار حينما تشتد بالشتاء، داعين الله ألا تعود أيام "الغرق" مرة أخرى.
فيديو قد يعجبك: