إعلان

حازم دياب يكتب: هوامش عن فائدة السمع في ذكرى انطلاق الإذاعة

10:00 ص السبت 31 مايو 2014

حازم دياب يكتب: هوامش عن فائدة السمع في ذكرى انطلا

بقلم - حازم دياب:

يقولون إن الضرير يدرك أكثر، يعرف جوهر الأشياء قبل أن ينخدع بمظهر لا يفصح عما بداخله، ذات يوم سألت ''الشيخ عمر''، شيخ المدينة التي أقطنها، والذي لا يرى، لكنه يعرف كل شيء

-''إنت ازاي بتعرف الساعة بالظبط، وبتمشي على الكوبري من غير ما عربية تخبطك''

-''بسمع كويس''.

كنت شاباً بالثانوية، ككل طالب طبيعي تلفحه الأم بالطعام والشراب، وتغلق عليه من الأبواب ما يتيح له حالة من التركيز والسكينة التي تمكنه من أن ينهل من كل ما يُتاح أمامه من كتب دراسية، لم أكن رغم ذلك أذاكر، كنت أدفس روايات ''رجل المستحيل'' و''ما وراء الطبيعة'' و''فلاش'' في وسط الكتب، رآني والدني ذات يوم، وعرف أنني لا أذاكر، فنصحني أن أضع راديو في الغرفة، وأستمع إلى إذاعة القرآن الكريم.

أول ما شدّني في الإذاعة أنّك تشحذ الانتباه لكيلا تمر جملة دون فهمك، هنا تغيب الصورة، يعتمل الخيال لتتخيل شكل المذيعة هاجر سعد الدين، أو تتخيل الدكتور صبري عبد الرءوف أستاذ الفقه المقارن الذي يشرح الأشياء، أو تفرّق بين صوت مصطفى إسماعيل وبين ألحان محمد صديق المنشاوي، يقول أبي إن الأصوات سهلة التفرقة، الطبلاوي لا يمت بصلة لطه الفشني، ولون منصور الشامي الدمنهوري بعيد كل البعد عن كامل يوسف البهتيمي، يمنحني أبي كتاب ألحان السماء لمحمود السعدني لأعيش مع عباقرة التلاوة، أركز أكثر مع ''السمعية'' من يصرخ بقول ''الله'' من الأعماق، وأتخيله يتمايل طرباً مع كل آية. يسجّل أبي شرائط من الإذاعة، يعطيني شريط سورة ''فاطر'' للشيخ مصطفى إسماعيل، حين يقرأ الآية التي تقول ''يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ'' أجد الدموع تنهال من عيني، كانت المرة الأولى التي أبكي فيها من صوت لا أعرف الكثير عنه.

أقول للشيخ عمر، يا شيخ حين تسمع من يردد أنه اشترى جلباب أزرق أو اكترى سيارة حمراء، كيف تتخيل ذلك.. هل البحر عندك لونه أسود أيضاً أم أن الزرقة تتسرب إلى العيون المقفلة أيضاً، يجيبني الشيخ عمر باستماعه الدائم إلى الراديو، كل الحكايات والمسلسلات والأخبار، يشرب العالم من ذلك الصندوق، حين ظهر التلفزيون، كان له بمثابة الراديو أيضاً ''بس الناس اللي في الراديو صوتها هادي وحلو''. شجّع الأهلي من خلال الراديو، كان المذيع يقسم الملعب إلى أربعة مربعات، يقول إن صالح سليم يتحرك في المربع الأول الأيمن، وإن هجمة خطرة على مرمى عادل هيكل من المربع الثالث.

في البدء كان الراديو، وكانت معها دفقة من حياة بالنسبة إلى رجل لا يرى إلا بنور قادم من الداخل.

''ونعود إلى الحفل الساهر الكبير الذي تحييه السيدة أم كلثوم، وينقله راديو الجمهورية العربية المتحدة بمختلف موجاتها العاملة من البرنامج العام والشرق الأوسط، في السرادق الضخم الكبير الذي أقيم بنادي بورتوفيق الرياضي، وحيث وقف في مقدمة السرادق الستار الضخم الذي يحجب الفرقة الموسيقية التي تصاحب سيدة الغناء الشرقي وكوكب الشرق أم كلثوم، جلس آلاف من أبناء محافظة السويس، كلهم انتظار وكلهم شوق إلى أن ينفرج الستار عن الأغنية الثانية، وهي أغنية فات الميعاد من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان بليغ حمدي'' صالح مهران – الإذاعة المصرية.

ربما الراديو الآن انحسر في إذاعات أغاني تزجي الوقت، وبوح مشكلات عاطفية ساذجة من فتيات حائرات، بتنا نعيش على ذكريات أجداد تحلقوا حول الراديو في العاشرة ليسمعوا أغنية أم كلثوم الجديدة ويتبادلوا الكلمات من قبلها، وعلى جدات عرفوا المسلسلات والأبطال قبل أن تظهر الشخصيات على التلفزيون، كانت الحياة أفضل لأن الراديو أعانهم على التركيز، يظهر طه حسين في فيديو نادر ليوبخ نجيب محفوظ ويوسف السباعي وأنيس منصور وآخرين، لأنهم انشغلوا بالتلفزيون عن الأدب.

ما هي المرة الأخيرة التي سمعت فيها الراديو؟.. بالأحرى ما هي المرة الأخيرة التي اكتشفت أن لديك راديو بالأساس، فرصة جيدة أن تعيد ذلك الاكتشاف إلى الحياة في ذكرى انطلاق الإذاعة المصرية، من خلال إذاعات قليلة مازلت تحتفظ برونق الماضي، بدلاً من أن تستمع لحفلة أم كلثوم على روتانا زمان، استمع إليها على إذاعة أم كلثوم، حين يستبد بك الحنين لمسلسلات نجيب محفوظ، استمع إلى حكايات حارتنا على البرنامج العام بصوت أمينة رزق وجمال إسماعيل، وعندما ترغب في أن تعيش لحظات من الدراما الرائقة، استمع إلى الحب فوق هضبة الهرم، بصوت رخيم من إخراج إبراهيم الكردي، أو اذهب إلى مسرحية ''مأساة الحلاج'' تأليف صلاح عبد الصبور وإخراج بهاء طاهر. .

السمع دون مؤثرات بصرية يطهّر الأذن، ويصفّي النفس مما يعلق بها من شوائب.

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان