إعلان

بالصور- معهد ''العلوم البحرية''.. السابحون على شاطئ ''التجاهل''

06:02 م السبت 28 يونيو 2014

كتبت- دعاء الفولي وإشراق أحمد:

تتشابك الأيدي، صغار حاملين ألعابهم، كبار ينشدون ساعات من الراحة، العيون وجهتها البحر، والأقدام كذلك، الإسكندرية ملاذ عدد كبير من المصيفين، ومياهها قبلة البعض كل عام، بطريق قايتباي في الانفوشي رحلة يومية كل صيف تفترق بها الخطى؛ مَن يقصدون شاطيء البحر مرحًا، ومَن يغوصون في أعماقه دراسةً وبحثًا، كلاهما عاشق، يلقي همومه مع الأمواج، الأول ربما لا يبالي، فتمتد يده بالأذى، والثاني يدرك قيمة ما يفعل، لكن يوجمه التجاهل والنسيان خلف جدران معمله حتى بات حاله كمن يسبح على الشاطيء.

''وزارة البحث العلمي..المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد بالإسكندرية'' من لافتة رخامية جانب باب حديدي أسود يتعرف الوافد إلى المبنى ذو الأربعة طوابق الذي لا يفصل واجهته الأمامية عن البحر سوى محال و''أكشاك'' صيد خشبية، بينما عدد من المباني تحيل بينه جهة اليمين.

معهد الأحياء المائية الاسم الذي كان يُطلق على المعهد عام 1924 حين إنشاؤه، قبل تأسيس فرعه الثاني بالغردقة عام 1928، ثم أُفتتح بشكل رسمي ليكون قائم على البحث العلمي فقط عام 1932، وحتى ذلك الحين كان تحت رئاسة العالم الإنجليزي ''سيريل كروسلاند''.

''سيداتي سادتي مساء الخير''، جملة تميز بها، يقولها بلثغة مُحببة، نظارات طبية وشعر أبيض، صوت رخيم، يشرح به أغوار الأعماق، ''حامد جوهر''، يُذكر اسمه حينما يتحدث الذين لم يدرسوا العلم من قبل ''عالم البحار''، لم يظهر حبه للعلم في برنامج أو كتب فقط، بل كان رئيسًا للمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد منذ 1934 حتى 1974، أول مصري شغل منصب الرئيس، وبذكر اسمه يتعرف العامة غير المتخصصين عن هوية المعهد، فغالبًا ما يضطر الباحثون إن ما سئلوا عن مكان عملهم إلى ذلك، معظم الذين يعملون بالمعهد الآن لم يروه، إلا أن سيرته تستلزم عندهم دائمًا جملة ''عالم مش هيتعوض''.

بدلوف الباب الحديدي تتشابه الطوابق لكن سكانها يعرفونها، بالمصعد الكهربائي يتنقلون بين الأدوار، لافتتات مكتوب عليها هوية كل غرفة بالطرقات، ليس الجميع من مرتدي المعاطف البيضاء، كثير أبقى على ملابسه، في المعامل يمكثون أغلب أوقاتهم، إلا القليل يركن للراحة ملتمسًا نسمات الهواء بسطح الطابق الرابع المطل على مشهد بانورامي لمنطقة الانفوشي حيث ترسو المراكب الخشبية في المياه مواجهة قلعة قايتباي.

من المعامل تخرج أبحاث ينصب اهتمامها على المياه وما تحتضنه داخلها من ثروات لا يقدرها إلا أهل التخصص بها، لكن دور باحثو المعهد لا يتجاوز حد ''الإشارة على المشكلة'' لتأخذ الأمواج أبحاثهم ويقبعون هم مستمرين في عملهم بشاطيء معملهم.

حلم الدواء المصري

جالسًا على مكتب مُزدحم بغرفة تُشبه إلى حد كبير حجرات الموظفين في أي مبنى حكومي، كان ''عبد الله الشرقاوي''، خلفه زجاجات مختلفة اللون، حوض لا يشبه ذلك الموجود بأي مطبخ، أدوات معملية، صورة له مع ابنه وإهداء من أحد الزملاء باللغة الإنجليزية، الشغف بالعلم لم يبدأ بعد دخوله كلية العلوم جامعة المنصورة، بل منذ سن صغير ''كان عندي معمل صغير في بيتنا..كنت برجع من المدرسة أعمل تجارب''، ''الحسن بن الهيثم'' العالم العربي هو مثله الأعلى.

منذ 12 عام جاء ''الشرقاوي'' إلى المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد بالإسكندرية، بعد عمله كمدرس مساعد في كلية العلوم، يؤمن أن دور المعهد ''إنه يقدم عمل قومي''، من ضمن الخدمات المتعددة التي يقدمها المعهد، هناك محاولات من جانب باحثيه لاستخلاص الأدوية من الكائنات البحرية ''ممكن تستخدم كمضادات للالتهابات والأورام..بيبقى اسمها المواد النشطة المستخلصة''، يعمل ''الشرقاوي'' في هذا المجال منذ تخرجه ''محتاجين عشان التجارب تنجح يبقى فيه تعاون بينا وكليات الصيدلة والأطباء والمعاهد المتخصصة''.

تجارب عديدة بدأ فيها الفريق البحثي بعمل ''الميكروبيولوجيا''، كمحاولة استخراج وقود حيوي من الطحالب ''وكنا وصلنا لشبه براءة اختراع من الطحالب..استخلصنا سماد رش ورقي لأشجار الفواكه مفيهوش ضرر واتجرب في كلية الزراعة ونجح لكن الموضوع مكملش''، كذلك من حيوان ''خيار البحر'' استطاع ''الشرقاوي'' استخلاص مادة طبية مهمة للصحة العامة ومضادة للمواد الضارة الموجودة في زيوت وجبات الطعام السريعة ''لكن للأسف إحنا نهايتنا الأبحاث''.

السفر للخارج لم يكن يومًا حلمًا يداعب الباحث الثلاثيني ''اتعرض عليا أسافر..بس التحدي هو إننا نشتغل هنا من مصر''، الروتين وتراجع الاهتمام بالبحث العلمي أكثر ما يعانيه الباحثون في المعهد، يتغلب عليهما ''الشرقاوي'' بمزيد من العمل، ومحاولة إفهام المواطنين غير المتخصصين أهمية ما يقدمونه، من خلال طبع الكتب ''حاجات بسيطة تفهم الناس يعني إيه التلوث البحري.. بيبقى فيه أكتر من باحث مشارك''، ويتم توفيرها عن طريق وزارة الثقافة، كما أن لـ''الشرقاوي'' باع في كتابة قصص الأطفال العلمية.

التعامل مع شركات الأدوية، وتلقي الدعم من رجال الأعمال المصريين هو ما يتمناه الباحث ''الدولة هتبقى مجرد مشرف لكن التمويل لازم ييجي من جهات خاصة''، يطمح إلى إنتاج أدوية مصرية خالصة بعد مدة زمنية معينة ''ممكن توصل إلى 6 أو سبع سنين''، لكن عقب ذلك ستصبح الأدوية بأيدي مصرية خالصة ''الدواء سلاح مهم بدل ما نستورد هيبقى عندنا أدوي بتاعتنا..لو اتقطع عننا في أي وقت الحياة مش هتقف''.

يقوم معهد العلوم البحرية على أربع شعب رئيسية؛ البيئة البحرية وتختص ببحث مشاكل التلوث، الاستزراع السمكي ويهتم باحثوه بالبروتين الحيواني وكيفية زيادته، المصايد ويقوم القسم على مصايد للأسماك تابعة للدولة بأكثر من مكان والإشراف على المصايد الخاصة، وأخيرًا المياة الداخلية وهو فرع المعهد في مدينة القناطر الخيرية الذي يهتم بكل ما يخص المياة العذبة.

الولاء للمعمل
بينما ينشغل صغار الباحثين الوقوف أمام طاولة تتوسطت غرفة معمل كتب عليه ''الكيمياء البحرية''، يواصلون عملهم اليومي في استخراج نتائج وتعديلها، كان ''محمد عبد العزيز عقبة'' –رئيس قسم الكيمياء البحرية بالمعهد- يتابع عملهم ويشاركهم كذلك، تزدحم حوله أجهزة وأدوات المعمل الذي يطلق عليه ''المخزن'' لكثره العمل الذي يتم داخله.

المعمل محرابه، لا يحتاج إلى الزي الأبيض، اكتسب من الخبرة ماصبغت خصلات شعره، الحديث لا يخرج طوال الوقت عن المعادلات الكيميائية ''خففت الـ HP''، ومتابعة الرحلات التفقدية ''رحلتك الجاية أمتى''، 32 عامًا من عمر أستاذ دكتور الكيمياء البحرية شاهدة على معامل ''العلوم البحرية'' التي تغيرت أماكنها وهيئتها، ينظر إلى جهاز ''الأتومك'' المخول له قياس نسبة التلوث في المياه ''وأنا شاب كنت بقف بره بقول لنفسي ممنوع الاقتراب أو التصوير.. كنت عشان أقف اشتغل عليه كان بواسطة النهاردة بقى عندنا أجهزة كتير''.

''بنعمل كل ما هو متخيل'' فباحثي هذا القسم مهمتهم دراسة جودة المياه من حيث صالحيتها للاستخدام سواء للكائنات بها أو الإنسان، نسبة التغير الحادث بها، فهم مَن يؤكدون تلوث المياه من عدمه، مئات المكونات يستخرجونها من المياه كما قال ''عقبة''، فسطح المياه وما بباطنها من كائنات وما في قاعها من رسوب كل ذلك محط دراسة، أي شيء يتم أخذه من المياه بمثابة ''جثة'' يتناوبون ''تشريحها'' حتى استخراج النتائج.

البحار ليست مصدر المشاكل لأن التلوث بها نسبي فلا يمكن الجزم بأن نسبة التلوث بها محددة بل أكد رئيس قسم الكيمياء أنه لا يوجد بحار ملوثة بل البحيرات –مصر بها 5 بحيرات- هى ما تعاني من تلوث تختلف درجاته، فبحيرة المنزلة ومريوط أكثر البحيرات تلوثًا بسبب الصرف الصحي الصناعي والزراعي، حيث يخشى الباحث أن يتحول الأمر مثل بحيرة البردويل ''كانت بتصدر أفضل الأسماك لكن ماحصلش اعتناء بها''، فدور باحثو المعهد لا يتعد مهمة الطبيب على حد قوله ''بنعمل توصيف لحالة المريض لكن عليه أن يأخذ القرار وفي حالة المعهد الجهات السيادية هى ما عليها ذلك''.

لم يكن ''عقبة'' من المولعين بالسفر، إلا لتعلم شيء أو حضور مؤتمر ''كنت دايما ببقى شايل الهم قبل ما اسافر''، الغربة شعور يبغضه، حال الأسماك لا تتمطئن إلا في المياه.

لا يفتأ رئيس قسم الكيمياء يذكر بين الجد والهزل عن حال البحث العلمي بشكل عام، الذي لم تتحسن أحوال مراكزه على حد قوله إلا بعد ثورة 25 يناير من مرتبات وتعيين، أما قبلها تم اهمال البحث العلمي شيئًا فشيئًا وانهار بعد مقولة ''حسني مبارك'': ''اللي عايز شهادة هنديله شهادة''، بينما تنصب المشكلة الأساسية اليوم في الباحثين أنفسهم الشخص بقى محتاج دراسة هل عنده استعداد يعمل بحث علمي بجد''.

حلم الهجرة خارج المياه
بالطابق الثاني داخل معمل الكيمياء البحرية، كان ''عصام خميس'' يتابع عملية المسح البيئي لعينة من مياه بحيرة ''مريوط''–جنوب الإسكندرية-، المشروع الذي يعمل عليه مع عدد من شباب المعهد القومي لعلوم البحار قبل عامين.

تعلو الابتسامة شفاة الشابين لكن بالنفس يتسرب الألم ما بين الحين والآخر مع سؤال الأقارب قبل الغرباء ''أنت بتشتغل فين؟، بمرور الوقت اعتادوا عليه وحفظوا طريقة الإجابة ''مجرد ما يتقال حاتم الجوهري بيتفكروا ويقولوا أنت شغال في علوم البحار'' قال ''عادل''.

بين أدوات معملية وأجهزة لتنقية المياه وقياس تغيرها مرصوصة على رخام طاولة تجانب الغرفة يقضي كلا من ''حسين'' و''أحمد عادل'' أيامهم، لا يفارقوها إلا للرحلات الحقلية لأخذ العينات، بها ينتقلون لسفينة أبحاث مساحتها 30 متر تقريبًا، حياة تبدو مليئة بالمغامرات والمتعة، هى كذلك فلولا شغفهم بالبحث ما استمروا، لكنها ليست مثل التي يريدونها ''أحنا مالناش سلطة للتنفيذ'' قالها ''عادل''، فالشابين من أوائل دفعاتهم لذلك آل بهم التعيين إلى المعهد.

''عمري ما سمعت عن عالم البحار في التليفزيون المصري'' بابتسامة بدا بها الاستياء قال ''عادل''، فغرفة معمل الكيمياء تجمع أحلام الشابين وغيرهم في تطوير البحث العلمي، لكن بعيدًا عن أرجائها، فمع ضعف الاهتمام والتركيز على المجهود الذي يقوم به الباحثون في ''علوم البحار'' أضحى السفر رغبة جارفة أملاً في إيجاد خطة وأهداف تتحقق وينشدوا آثارها على أرض الواقع، ''نسافر ونرجع تاني'' ذلك طموحهم كما قال ''خميس'' إلى أن يكون للمعهد اهتمام يعلي شأنه وقيمته.

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان