إعلان

''كمال'' و''علي'' و''جليلة'' شخصيات ''محفوظية'' من قلب الحياة

02:17 م السبت 30 أغسطس 2014

''كمال'' و''علي'' و''جليلة'' شخصيات ''محفوظية'' من

كتبت- نيرة الشريف:

في كل عالم يخلقه الأديب العالمي نجيب محفوظ في رواياته، هناك شخصية لا تنتمي إلي هذا العالم الذي يعرف كيف ينسجه بحرفية يد خبيرة، وعقل يعرف كيف تتشابك العلاقات، وقلب يعي حدود تعقيداتها، وسط الشخصيات، شخصية ليست من هنا، لا يحركها ما يحرك من حولها من الشخصيات، تنسج واقعها بعيدا عن الواقع الذي رُسمت خطوطه في دوائرها الحياتية،، شخصية هي ملكوت في ذاتها، تتفاعل مع واقعها وتشتبك ولكنها تبقي بعيدا عن أن يفسد الواقع من نقائها شيئا، بأطراف أصابعها تختبر نقاء الأرض فيما حولها خوفا أن يصل وحل الأرض إلي قدميها فيثقل خفة خطواتها، هكذا كان ''كمال'' في الثلاثية، هكذا كانت ''جليلة'' في حديث الصباح والمساء، وهكذا كان ''علي'' في القاهرة 30، كل شخصية منهم تسبح في مداراتها، مداراتها التي تدرك وحدها خطوط طولها ودوائر عرضها، وتعرف ببوصلتها الذاتية كيف تصل ولا تتوه، كيف تعيش دون أن يخترقها غيرها أو تذوب هي فيمن سواها، تعيش بتعقيداتها الخاصة، وبالرؤية الخاطئة التي يراها بها من حولها، لكنهم يعيشون في النهاية كما هم.

(1)
جليلة..''المطمئن لا يضل''.. والتائه أيضا!
بين الشعوذة والشفافية وقعت ''جليلة'' بين طرفي نقيض لا وسط بينهما، اتهمها البعض بالأولي وأرثاها البعض الآخر في الثانية، جليلة هي احدي شخصيات رواية حديث الصباح والمساء، عرف محفوظ كيف يجعلها محور ما حولها، ولم يجعل أبدا ما حولها محور ما بداخلها، فهي غارقة في عالم ملئ بما تراه وحدها، وبمعاركها الفردية الخاصة مع ''جنها'' المتمرد.

فجليلة الطرابيشى التي عمرت حتى جاوزت المائة، تعتبر مرجعا تاريخيا في ذاتها، فقد عاصرت فترة من حكم محمد على وعهود إبراهيم عباس وسعيد وإسماعيل وتوفيق والثورة العرابية، ولم يبق من كل هذا في داخلها إلا الثورة العرابية لأن عائلتها الصغيرة كانت صاحبة إنجاز هام ومباشر فيها، حيث أن زوجها ''الشيخ معاوية'' كان من أهم رجال هذه الثورة، فعرابي في رأسها بطل عظيم، تختلط صورته وتتداخل بصور غيره من الأبطال، فهو كعنترة وكالهلالي، فقط إكراما للشيخ معاوية، ترث منها راضية ابنتها البعد الروحاني اللامرئى فتصبح ''سيدة الأسرار الغيبية''، ترث أيضا الفخر بأبيها ودوره العظيم في الثورة العرابية، ليصبح عرابي وثورته أسطورة لها كرامات لا يستطيع أن يتجاهلها إلا غافل أو معاند، فقط تقديرا لوقوف الشيخ معاوية إلي جواره.

جليلة وراضية ومن بعدهم قاسم ابن راضية الذي مثل الجيل الثالث، والذي ورث من بين الأحفاد تركة أمه وجدته، مجرد صفحات قليلة جدا في الرواية صغيرة الحجم، حيث كان قرار محفوظ أن تكون كتابة الرواية بشكل مختلف عن الروايات المعتادة حيث كتبها على شكل كتاب لشجرة عائلة ''النقشبندي'' صاحبة دور البطولة في الرواية، ولم تقسم الرواية إلي فصول، ولكنها مقسمة أبجديًا بأسماء شخصيات العائلة، فكان لكل شخصية رقم وحكاية قصيرة، لربما أراد أن يبرهن أن الحياة لن تقف أبدا لدي صفحة أحدهم، سطور قليلة هي حياة كل منهم ثم ستقلب الصفحة علي حياة أخري وأجيال مختلفة وشخوص أكثر اختلافا.

(2)
كمال.. كان هنا منذ قليل!
بخطوات ثابتة، ثقيلة، وجلة.. يتحرك كمال، كمال هو أصغر أبناء السيد أحمد عبد الجواد –سي السيد- في ثلاثية محفوظ، كمال هو نظارتك التي تستطيع أن تري من خلالها أبطال الثلاثية واختلاف أحداثها، تراها من خلاله وهو طفل في الجزء الأول من الثلاثية، وهو يسير بين عالم الكبار حاملا للرسائل، وهامسا بالأسرار، في الجزء الأول يهمس كمال لأمه ''أيخاف أبي الله؟'' محاولا بخيال طفولي أن يقهر الرمز الذي لا يُقهر بالقوة الغيبية المطلقة، مع صفحات الثلاثية يكبر كمال، وفي الجزء الثاني من الثلاثية يقف كمال في وجه أبيه من أجل إقناعه برغبته في الالتحاق بمدرسة المعلمين، المجانية والتي لا يدخلها إلا أبناء الفقراء في رأي أبيه، ولكنها تمثل لكمال الطريق الذي يريد أن يسير فيه بكامل إرادته لكي يواصل اطلاعه.

تراه منسحبا متقوقعا، تراه حائرا، تائها، مُجربا.. لكنه في كل الحالات متشبثا، متشبثا بمُثله، وبما اعتقد كونه الصواب، لا يقبل التفلت أبدا، كما عبّر لصديقه في الجزء الثاني من الثلاثية، حينما قال له أنه يُحمل نفسه ما لا يُحتمل، فرد قائلا ''إني كذلك وما ينبغي لي أن أكون غير ذلك''، الشاب قليل الثقة بنفسه وبالعالم يعرف أن ما هو ثابت عليه ليس لديه أبدا ترف التراجع عنه، لن تعرف تحديدا بماذا عليك أن تصفه علي وجه الدقة سوي كونه موجودا وليس بموجود، هو كان هنا ولكنه لم يترك أثرا!

''يغوص نجيب محفوظ إلى الأعماق، هنا ميدانه، هنا الإعجاز في التجسيد الداخلي للشخصية، هنا القلب الكبير الذي يتفتح على العالم، هنا الحساسية الخارقة في التقاط المشاعر الدقيقة الرفيعة المختبئة في ثنايا النفس، كأنها الشعيرات الدموية يغوص إليها مُشرح عبقري المبضع. حساسية يقف بها في مستوى بلزاك وديكنز وجوجول، هكذا يتحدث نجيب سرور، الشاعر والكاتب المسرحي والممثل والناقد، في دراسته ''رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ''.


(3)
علي..الثوري الآمل الحالم في واقع بالغ السوء

''حينما يملأ الحق قلبك تندلع النار إن تتنفس ولسان الخيانة يخرس'' ربما يمثل بيت شعر الشاعر الصعيدي أمل دنقل الوصف الأمثل لشخصية علي، أحد شخصيات رواية القاهرة الجديدة، ينتشر السوء حوله في كل مكان، أينما حطّ نظره وجد الكثير من المساوئ التي لا تنتهي، لكنه يحارب في معركته الوطنية الثورية، لا ينشغل عنها ولا يقبل عن النصر فيها بديلا، فعلي طه هو الشاب المثالي الذي يؤمن بمثل ومبادئ الاشتراكية، ويدعو إلى الثورة على الملكية وفساد الحكومة وارتباطها بالإنجليز والانحطاط الأخلاقي، ويحب إحسان الفتاة الجميلة، صاحبة الظروف الاقتصادية الصعبة بفقر أسرتها وكثرة عدد إخوتها، والجميع يتضور جوعا، وعلي ليس هنا، هو مشغول بالجهد الثوري اليوم، وبالصبر للوصول للغد المشرق، تسقط إحسان في الطريق المحفوف بالمخاطر من الجانبين مستجيبة للسوء الدائر حولها، ويستمر علي بخطوات بطيئة مرتبكة ليكمل حلمه الثوري.

الراوية في الأصل تعبر عن حالة السوء والغليان السياسي والاجتماعي التي سادت في الثلاثينيات، وقد خرجت الرواية بثلاثة عناوين هم: رواية (القاهرة الجديدة)، ومسرحية (فضيحة في القاهرة)، وفيلم (القاهرة 30)، وقد كتبها نجيب محفوظ عام 1945 لتكون باكورة أعماله الواقعية، وقام بإخراج الرواية للسينما المخرج صلاح أبو سيف الذي استطاع أن يجعل من العمل السينمائي تحفة فريدة في محتواها الفني، فهو يجعله بمثابة رواية وفيلم ولوحة تصويرية، فنجد الفيلم ممتلئ بعدة مشاهد أساسية يظهر فيها محتوى الفيلم وجودة الأداء التمثيلي وحرفية المخرج وإمكانيات التصوير.

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك...اضغط هنا

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان