''فاتن حافظ''.. الثورة ''من طأطأ لـسلامو عليكو''
كتبت- رنا الجميعي:
في بيتها بالقاهرة الجديدة تناهى لسمع الوالدة زغرودة بعد إعلان عُمر سليمان تنحي مبارك، قالت لابنتها ''الجيران بيزغرطوا''، ردت ''فاتن'' ضاحكة: دي أنا يا ماما، كانت تلك الزغرودة غالية لدى الفتاة العشرينية، فهي تجربتها الأولى التي عهدت به لنفسها ولأصدقائها أنها سوف ''ترقع الزغروطة'' حينما يترك مبارك الرئاسة، وها قد أوفت بعهدها ''مكنتش عارفة إني هعرف أزغرط بجد''.
18 يوم تفصل بين قَسم ''فاتن حافظ'' ووفائها به، وعدد من السنين كانت تفصلها بين الحُلم بالثورة وتحقيقه بالفعل، كونها ضمن الحشود التي قامت بفعل الثورة، آمنت الفتاة العشرينية بالتغيير، حمل جسدها الصغير حلمًا كبيرًا وإصرارًا نمى داخلها بضراوة أكبر بمرور الزمن، أقحمت نفسها بعالم السياسة دون يد تُساعدها، فانضمت إلى حركة الكفاية وهي مازالت بعد بالمرحلة الثانوية، لتجد نفسها ضمن الكبار اعتراضًا على حرب لبنان عام 2006.
كانت كفاية البداية ثم الانضمام إلى حركة ستة إبريل بعد إضراب عمال المحلة عام2008، ثم حزب العمل، كل الطرق التي سارت بها الفتاة العشرينية كانت تؤدي للثورة، مسار أيقنت طريقه فاتبعته، لذا مع دعوات الشباب بيوم 25 يناير اشتركت به، لكنها لم تر أن الثورات يُدعى إليها هكذا ''كان موضوع مضحك، انت عليك تنزل والناس تنضملك هنا تبقى ثورة، إنما متدعيش على الأساس دا وتحبط آمال الناس''.
انضمت ''فاتن'' للمسيرة القادمة من ناهيا يوم 25 يناير ''كنت عارفة إن الموضوع هيخلص زيها زي أي مظاهرة''، غير أنها لم تكن مثل أي مظاهرة حضرتها الفتاة من قبل ''كنا بنتعاير قبل كدا بإننا أربعين واحد على سلم النقابة''، في تلك المرة كان الاندهاش سيد الموقف، والتباهي محل المعايرة، أعداد كبيرة تنضم للمسيرة، ومجموعات تأتي من الشوارع الجانبية بالسوق الذي اجتمعت فيه الناشطة مع زملائها ''مش عارفة الناس دي كانت بتيجي منين''.
عين ''فاتن'' كانت خير مُعين لها في تلك الأيام، العين التي رصدت الجمال الحقيقي للمصريين، أحست يومها بشئ غريب في الأجواء جعلها تحس أنها ليست كأي مظاهرة، تتذكر رجلًا طاعن السن يتسند على عكاز يجلس بجوار دكانه الصغير، أثناء ذلك هتفت الناس ''اوعى تمشي جمب الحيط، أصل سكاتك مش هيفيد'' ''الراجل دا لما سمع الهتاف خرج من المحل وفضل يعيط''، نظرات الناس بالشارع كانت تحمل معاني ''كأنهم بيقلولنا انتو فين من زمان''.
''بعد الطوفان''
''طوفان ناس'' قادم من الشوارع الجانبية لينكب بالشارع الرئيسي ويلتحم بالجموع المتجهة إلى التحرير، هتافات ترج المكان بـ''انزل يا مصري''، و''اللي عاوز التغيير ييجي معانا ع التحرير''، تضحك ''فاتن'': كانت هتافات بريئة.
قبل قسم الدقي بقليل بدأ هتاف ''الشعب يريد إسقاط النظام''، توضح ''فاتن'' :الهتاف كان من يوم 25 مش من يوم 28 زي ما البعض قال، لازم الهتاف المسيرة إلى أن وصلت للتحرير، إلا أن الوصول للتحرير مر بعدة كردونات أمن، لم يحدث عندها سوى أحداث شد قليلة.
كانت تعلم ''فاتن'' أن أعداد المسيرة كبيرة، غير أنها لم تصدق بضخامتها إلا حينما وقفت بمنطقة عالية عند كوبري الجلاء ''اتفاجئت بالعدد، مكنتش جايبة آخرها''، قضت المسيرة عدة ساعات حتى الوصول للميدان.
''احنا لعبنا قبل ما نسّخن''
''الميدان بتاعنا'' لم يصدق الناس أعينهم حين وصلوا للتحرير، أعداد كبيرة تدخل الميدان وتجري في الأنحاء ''كأننا دخلنا ملعب''، لم يخطر ببال الناس الوصول للميدان بعد أحداث شد قليلة، أمن لم يشتبك معهم، وكردونات أمن تبتعد عن طريقهم، وورد يوّزع على الشرطة الواقفة بآخر كردون أمني والذين مروا بهم دون المساس.
عقرب الساعة كان يشير إلى الثانية ظهر حينما وصلت جموع الناس إلى التحرير، رغم بعد المسافة بين ناهيا للتحرير إلا أن ''الناس متحمسة، بتمشي بسرعة''، لذا عندما وصلوا إلى كوبري قصر النيل، جلس عدد منهم غير قليل على الأرض ''جالهم شد عضل''، وكان المشهد يُوحي ب''لعيبة بيسخنوا قبل الماتش''، لكن مشكلة الثورة كما تقول ''فاتن'' كانت ''إننا لعبنا قبل ما نسخن''.
لم تسر الأجواء بنفس الحال من الهدوء بقية اليوم، بدأ الاشتباكات ب''عربية المية'' التي شاهدتها ''فاتن'' صبيحة اليوم نفسه تقف ساكنة بالميدان، ولم تتخيل أنها ستكون نفس السيارة التي ستضخ المياه على المتظاهرين، بدأت عدد يتجمع حول السيارة لإيقافها ''وكانت هتاخد ناس في طريقها''، إلا أن أحدهم استطاع القفز على القائم بالرش فوق السيارة وإسقاطه إلى الأرض، ومن جهة مجلس الشعب بدأ ضرب الغاز ''هنا بدأت أول الإصابات'' التي تنوعت بين الحجارة والغاز.
لاحظت ''فاتن'' أن الميدان وسع الجميع، متظاهرون، أناس عاديون، وفنانون أيضًا، هنا القرار جاء بشكل فطري بالاعتصام ''مكنش فيه حل تاني''، ازدحمت محلات الأكل بطوابير من البشر، لم يعد هناك مرور، وبدأ الاستعداد للاعتصام.
هناك بالميدان جلس شاب بدت على ملامحه الحزن، رغم أن الكل كانت بحالة فرحة عارمة، مما استدعى استغراب ''فاتن''، سألها هي وأختها :انتو في حزب، فكانت الإجابة نعم، وهو ما علق عليه :عشان كدا، أجابته الفتاة :لا خالص مش دا السبب، فرد قائلًا ''أصل أنا معنديش غير أمي وإخواتي عشان كدا نزلت، أصل كدا كدا الدنيا ضاربة معايا''، ذلك الموقف الذي عايشته الثائرة جعلها تندم في تلك اللحظة على اشتراكها بالأحزاب ''كان نفسي أكون وقتها مع الناس العادية'' فتصرف الشاب كان طبيعيًا في زمن دهست فيه السلطة بكل قوتها على الناس ''هو مش نازل يتبهدل ولا يضرب، هو عاوز يعيش كويس بس''.
لم تكن ''فاتن'' تصنف الناس حسب انتماءاتهم، حتى الشرطة لم ترها عدوًا بشكل عام، تعلم أن عسكري الأمن المركزي ''غلبان''، حتى صاحب الأمر ''الظابط'' يُمكن أن يرفعه الناس على أكتافهم، ويُمكن أن ''تتحامى'' فيه رغم الهتافات الساخطة عليه وبالفعل قابلت الفتاة العشرينية النوعين، رغم حالة الانتقام التي كانت عليها الشرطة يوم جمعة الغضب، إلا أن ترمومتر الجموع كان على خير.
''الشرطة والشعب إيد واحدة''
''الشرطة والشعب إيد واحدة''، رغم غرابة الهتاف بذلك التوقيت إلا أنه كان له سبب مقنع، وهو احترام اللواء القادم من قسم الدقي للتفاهم مع الجموع ''اللي حصل إن اللواء مضربش فالناس مسكته ولفت بيه وهتفت''، لذلك لم تُلقى ''طوبة'' واحدة على قسم الدقي ولم يحترق ضمن قائمة طويلة من الأقسام التي احترقت ذلك اليوم البعيد مثل ''السيدة زينب، الدرب الأحمر، والخليفة'' وغيرهم.
عند كوبري الجلاء اشتبكت الجموع بقوات الأمن هناك وانهال الغاز عليهم، عند مدخل عمارة تجمع الناس للاحتماء من سيل الغاز، ودخل بينهم عسكري أمن مركزي، شاب صغير يرتدي الرداء الأسود ويبكي، خوفًا من المحاكمة ''قالنا لو الظباط شافوني معاكي هتحاكم''، وبدأ المتظاهرين يهدأونه ''طب خد البصل والخل واخرج اقف معاهم''، وهو ما فعله بعد أن هدأ سيل الغاز.
''محل الخضار مفتوح؟''
كما احتمى العسكري مع المتظاهرين، فعلت ''فاتن'' وأختها حينما حاولت العودة لبيتها القديم بباب الخلق، المشهد كان سرياليًا كما تصفه، الأمن التي تهتف ضده ورُبما تلقي عليه الطوب مقابل رصاص وغاز من جهتهم، تحتمي به الآن لتحاولا الفتاتين الدخول إلى البيت ''كنا هنضّرب طوب من الناس''، محاولة الدخول كانت مستحيلة بسبب الاشتباكات الدائرة بين أهل المنطقة والشرطة، تتذكر ''فاتن'' ما قاله الظابط ذلك اليوم ''احنا مش عاوزين نضرب ولا حاجة هما قاعدين مرتاحين فوق وسايبينا نضرب في بعض''.
''يا بنتي شوفي محل الخضار فاتح ولا لا، عشان أجيبلكو كيلو بصل'' هذا ما سمعته ''فاتن'' أثناء المعركة الدائرة بكوبري الجلاء، صوت انطلق من سيدة بأحد الأدوار توجهها لها، نظرت ''فاتن'' لمحل الخضار وردت على السيدة :لا مش فاتح.
المواقف التي مرّت بها ''فاتن'' ذلك اليوم كانت تصف بحق طيبة هذا الشعب، والخلطة العجيبة التي يتكون منها، مرت الفتاة بأحد المحلات طالبة منه أن تستخدم التليفون لتطمئن أهلها، غير أن صاحب المحل حينما رأى بيديها اسطوانة غاز فارغة كذكرى، رفض، لحظات قليلة ثم عاد ليقول لها ''طيب ادخلي بس سيبي البتاعة دي برة''.
الشرائح المتعددة التي رأتها ''فاتن'' ذلك اليوم يُمكن أن تسرد برواية وتفيض عنها، شاهدت ''خالد الصاوي'' ضمن الاشتباكات الدائرة، يُجمع حوله عدد من الناس و عند النادي الأهلي هتفوا ''النادي الأهلي فين'' وهو الهتاف الذي لم تفهم الفتاة غايته، بعدها تمكنت من فهم الموقف ''جه عمال من النادي ووزعوا علينا كراتين مية''، حينما يرتد الناس للوراء من شدة الاشتباكات كان ''الصاوي'' يقول لهم: انتوا فاكرينهم هيسلموا من أول مرة.
''الثورة ..خناقة''
لاحظت ''فاتن'' أن الناس العاديين، من غير المسيسين، كانت الاشتباكات بالنسبة لهم ''خناقة''، وليست صراع بين التغيير والسلطة كما يراها المسيسون، لم يعد الناس عتادهم لمواجهة الشرطة، إلا أن مع شدة الضرب، جاء المدد من رجال المناطق المجاورة ''بولاق وامبابة'' بعصيانهم للاشتباك ''اللي هو رجالتنا بتضرب يلا تعالي بالعصيان نضربهم''.
رغم ترمومتر الوعي الجمعي الذي حشد الناس جميعهم ضد الشرطة، إلا أن الانفلات الأمني كان جزء من الموضوع أيضًا، حالات سرقة شاهدتها بعينيها ''فاتن''، في صبيحة جمعة الغضب ''كارفور كان بيتسرق، الناس كانت واقفة على الدائري وبتتفرج، خلاص مفيش شرطة''.
''وبعدين؟''
بعد جمعة الغضب وحالة الإنهاك التي كانت عليها ''فاتن'' وأختها ''كان وشنا محروق بسبب الغاز''، الخوف الذي بقي عليه الأهل، ساعات قليلة عادت إليها الفتاة العشرينية إلى الميدان خاصة قبل معركة الجمل، أما بعد المعركة فكان الأمر أفضل، والميدان صار آمنًا.
أسعد الأوقات التي مرّت بها ''فاتن'' في الميدان حين سماعها أغاني ''عبدالحليم حافظ'' المرتبطة بثورة 52، وحينما تُشاهد صور ''عبدالناصر'' هناك، أعلام فلسطين وتونس التي امتلأ بها التحرير، وترنيمة ''بارك بلادي'' التي غناها مسلمين ومسحيين معًا، تتذكر الفتاة العشرينية السيدة كبيرة السن القادمة من الصعيد ''أنا مش همشي إلا لما مبارك يمشي''.
لم تكن تتخيل ''فاتن'' رغم إيمانها بالثورة تلك الدموية أو تتمناها، ودّت أن حدث مثل ثورة 52 يحدث ثانية ''احنا بنتباهي إننا ثورتنا من غير قائد، بالعكس لو كان فيه قائد كنا خلصنا''، ولكن هذا لا يعني أنها تلوم المشاركين بالثورة ''الناس خرجت وقت ما كان المفروض تخرج، لكن الباقي دا فشل سياسيين''.
زغرودة ''رقعت'' بها ''فاتن'' في بيتها بالقاهرة الجديدة كان إيذانًا بمرحلة جديدة، غير أنها تسرد مشهد من فيلم ''نيمو'' ''لما الأسماك كانت في حوض سمك، وعاوزين يطلعوا للمحيط، وكانوا في أكياس وبيزقوا بعض لحد ما طلعوا للمحيط، وخلاص هنا حققوا هدفهم إنهم طلعوا من حوض السمك، بصوا لبعض وقالوا :وبعدين''.
تابع باقي موضوعات الملف:
"فلان الفلاني".. الثورة بنت المجهولين "ملف خاص"
أحمد أمين.. واجه مبارك بـ''7 جنيه'' وصنع متحف الثورة بـ''مشمع''
مصطفى.. ''اللي كان يومها واحد من الحراس الشعبيين للمتحف''
سهام شوادة.. الثورة يعني ''عيش وملح''
عم فولي.. ابن المطرية يتعلم الثورة على الطريقة الإنجليزية- فيديو
''الششتاوي''.. الثورة تحت أقدام الأمهات
محمد عمران.. أن تختار بين الثورة و''بنتك''
نساء عائلة "سلام" بالإسكندرية.. الثورة تمد لسابع جد
مها عفت.. أول من حَمل "علم الثورة" في الميدان
يحكى أن ''عبدالله'' هتف.. وشبرا كلها ردت وراه
''فنانة'' و''بتاعة سندويتشات'' و''مسؤول شواحن''.. أبناء ''أسماء'' في الميدان
القصة وراء صورة "ماجد بولس".. ياما في موقعة الجمل حكايات
في بورسعيد.. من الأم إلى ابنتها ''الثورة أبقى وأهم''
قاسم المزاز.. ''دليفري'' المستشفى الميداني
حكاية جمال العطار مع الثورة.. باع "البيزنس" واشترى البلد
للتحرير تفاصيل يعرفها "محمود نصر"
محمود جمال يكتب.. من دفتر مذكرات فلان الفلاني "اللي كان يومها ثائر"
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: