محمود جمال يكتب.. من دفتر مذكرات فلان الفلاني "اللي كان يومها ثائر"
لم يكن يتوقع يوما أن يمشى في مظاهرة أو فى مسيرة ولم يتخيل فى أى لحظة أن بإمكانه الهتاف بصوت عال ضد النظام بل إنه كان حين يعترض أو يعبر عن رأيه فى شئ، يتحدث بصوت منخفض ويتأمل ملامح الجالسين حوله خشية أن يكون بينهم جاسوسا.. ولهذا فقد بدأ حواره يقول "كنت متأكد أن كل واحد فينا له ملف عندهم وكان قلبى مش مطمن".
فى يوم 24 يناير عاد إلى منزله فى الحادية عشر بعد أن انهى عمله وجلس على أحد المقاهي مع اصدقاؤه يحلف لهم بكل تأكيد أن شيئا لن يحدث غدا.. "شوف الفيس بوك مقلوب ازاى لكن برضه محدش هينزل.. احنا بتوع كلام وبس.. والله ماحد نازل بكره وهتشوفوا" يستغفر ربه ويبتسم فى حرج ثم يكمل "يوم 25 كل شوية الاقى واحد من صحابى بيتصل بيه ويقولى يابنى تعالى شوف الميدان مقلوب ازاى" لم يجد نفسه الا مأخوذا ومساقا من إرادته لينزل ويرى مايحدث ورغم ان شيئا من الخوف كان يحاول أن يتملك من قلبه إذ أخذ يدق بسرعة شديدة وهو على عتبة ميدان التحرير إلا انه تغلب على خوفه وعبر "لاقيت ناس كتير واقفة عمالة تهتف.. الشعب يريد إسقاط النظام.. عيش حرية عدالة اجتماعية ..
لاقيت نفسى واقف اهتف معاهم.. والظاهر انى كنت بهتف بحرقة أوي لدرجة انى لقيت اللى حواليه شايلنى وبيقولى ورايا" هنا لمعت عينيه وهو يحكى إذ يبدو أن تذكره قد جعل دماؤه تتجدد و"جسمه قشعر".. ثم عاد ليكمل "معرفش الوقت عدى ازاى المهم لاقينا فجأة قنابل غاز بتتحدف علينا من كل ناحية" وتفرق الميدان كل يجرى فى ناحية.. كانت القنابل كثيرة ما يلبث المرء أن يهرب من واحدة حتى يجد الأخرى، يقتحم أنفه لينفذ الى الصدر مباشرة.. "خرجونا من الميدان لكن احنا مسكتناش اتجمعنا تانى ومشينا فى مسيرة.. ننادي ع الناس اللى فى البيوت عشان ينزلوا يمشوا معانا" وصل إلى رمسيس فإذا به يجد صفوفا من الآمن المركزي فى انتظاره تحت نفق شبرا ليخوض رحلة بين شوارع وحواري السبتية وروض الفرج "ناس كتير كانت فى البيوت نزلت وشاركتنا فى المسيرة.. وبعدين بصراحة روحت وسمعت ان فيه ناس كتير اتمسكت بعد كده".
فى يوم 26 فكر أن ينزل ولكن مع الضغط الشديد الذى واجهه من أبيه وأمه لم يستطع النزول "أمي وقفتلى ع الباب والدموع مالية عنيها.. قالتلى لو جرالك حاجة هموت.. بصراحة مقدرتش انزل".
يوم 28 يناير.. ما أن انتهى من صلاة الجمعة حتى وجد صفوفا من الأمن المركزي تحاصر المصليين.. وإذا به يجد شابا يهتف وهو يتقدم بلا خوف فى مواجهة الصفوف الحاشدة "مفكرتش لحظة.. على طول كلنا هتفنا وراه" وبعد عراك طويل بين طرفين أحدهم يتعارك بالغاز والعصا والأخر فقط لا يملك إلا أن يصمد.. كان الفائز هو الصامد وتحركت المسيرة الى ميدان التحرير .. يكمل ويقول "كانت مسيرة كبيرة قوى.. ناس بكل الأشكال والألوان.. كبار وصغيرين .. بنات وستات وعواجيز وعيال صغيرة.. وكان فيه ناس مشهورة ماشية معانا فنانين ومثقفين وبتوع سياسة.. محدش كان متميز عن التانى كلنا ماشيين ماسكين في ايد بعض.. وصوتنا واحد تحس إنه كان بيهز العمارات والبيوت.. وانت ماشى تلاقى صاحب فرن يدينا صاج قرص او كحك بعجوة.. واللى يوقفنا عشان يسقينا.." كان يحكى بانطلاق وقوة وكأنه يستعيد نفس الوقة التى كان يهتف بها فى ذلك اليوم.
على كوبرى قصر النيل كانت القنابل كالسيل تأتى من كل اتجاة، وفجأة وجد الكثيرون يسقطون حوله من أثر الغاز.. كان يقتحم ويعبر إلى هؤلاء الذين يسقطون يحمل ومجموعة أخرى ليبعدهم عن الغاز.. وما يلبث أن يبعد واحد حتى يجرى الى الأخر.. "لحد ما جت واحدة فى وشى ماشوفتش قدامى".. وأخذت أمطار القنابل تتحول إلى سيول ثم انفتحت فجأة خراطيم المياه.. لن ينس أبدا كيف كان يصمد العجائز فى مواجهة الضرب.. ولن ينس أبدا تلك المرأة العجوز التى نظرت إليه وأبتسمت فى سعادة حقيقية وهو يحمل أحد المصابين وقالت له "ربنا هينصركم يابنى اصلكم غلابة ومظلومين.. بس كملوا" ولم يكن امامه الا أن يكمل .. نفتت أسلحة الشرطة وقنابلها ولكن قوة الناس لم تنفد فسار الميدان ملك للثوار.
يأخذ نفسا عميقا ثم يرشف رشفة من كوب الشاى الذى فقد سخونته ويبتسم ويكمل .. "حلفت أنى مش هسيب الميدان الا لما يسيبوا الحكم والمرادي حلفانى نفذته" فقط كان البرد هو الذى يحاول مغالبته ولكن كان يستدعى الدفء من داخله .. وكان يستقطب النار من غضبه ومن سنوات عمره التى قضاها فى فقر ومرض وموت عشوائى ونظام يحكم بالظلم.. كان يستخرج لهيب الدفء حين يتذكر تعليمه الذى تلقاه ولم يتعلم منه شيئا.. من سنوات مرت عليه وهو يتجول بين أعمال يعمل بها لينفق على نفسه وعلى دراسته مثله مثل الجميع فمرة يعمل مساعد نقاش ومرة أخرى عامل فى فندق أو "ويتر" فى كافتريا. يسهر أيام الامتحانات فى سايبر يعمل فيه مضطرا ليستطيع المذاكرة او مندوبا للمبيعات او فرد أمن أسفل عمارة أو على باب شركة.. كان يتحمل البرد غصبا ليجد مستقبلا افضل فى بلد كان يزعم انه يكرهها ولكن فى الحقيقة هو يعشق ترابها ..
"وبدأنا ننضف الميدان.. كنت بكنسه كل يوم بأيدى أنا والرجالة .." يحاول أن يتذكر أساميهم ولكن لا يستطيع ولكن يقسم أنه لن ينس أبدا ملامحهم ولن ينساهم "يوم 1 فبراير قالوا مبارك هيخطب.. أيوة هو الخطاب العاطفى ده.. بصراحة اتهزيت.. لكن ماضعفتش حلفانى وقفنى وسنين حياتى اللى عيشتها مخلتنيش اعرف ارجع.. كملت وصرخت فى كل اللى فى الميدان.. محدش يمشى.. بقيت اجرى على واحد واحد واقوله.. كنت عايز امسك ميكروفون المنصة وازعق لكن برضه كنت حالف ممسكوش انا نازل عشان البلد مش عشان اتكلم فى الميكروفون".
فى موقعة الجمل وقف فى الصف الأول "محدش هيقدر يخرجنا من الميدان" ومع بداية الموقعة حجز لنفسه دورا هاما بعد وجد انه لا فائدة من قذف المعتدين بالحجارة فقرر أن يحمل المصابين إلى عيادة الميدان.. ورغم ان حجرا قد أصابه بجرح فوق حاجبه الأيسر لا يزال أثره باقيا حتى الأن الا انه لم يتوقف عن اداء دوره "خيطت الجرح ورجعت تانى اشيل المصابين واجرى بيهم ع العيادة" وفجأة انهار وتوقف عن الحكى ونزفت من عينيه بعض الدموع "كان اسوأ يوم فى حياتى .. مكنتش قادر اتخيل يعنى ايه اتقسمنا وبقينا بنحدف طوب على بعض وعندنا استعداد نموت بعض" ثم اكمل ولا تزال الدموع تلمع فى عينيه "حتى لو بلطجية.. برضه مكنتش احب اشوف اليوم ده".. وانتهى اليوم..سقط شهداء ونزفت دماء كثيرة ولكن "كله يهون"..
وظل فى الميدان .. كل يوم يمر يزداد الامل بداخلة وأيضا يزداد اليأس .. وتزيد الاسئلة فى رأسه.. هل سيسقط النظام؟.. هل سننتصر؟ ثم يتذكر ما قالته تلك السيدة العجوز يوم جمعة الغضب حين ابتسمت وقالت له "ربنا هينصركم يابنى اصلكم غلابة ومظلومين .. بس كملوا" كان على يقين بأن هذه رسالة .. رسالة تحمل كل اليقين والأمل بانهم حتما سننتصروا.
"كنا فى الليل نغنى .. مش مهم ان حد فينا يعرف التانى ..المهم ان احنا نغنى للشيخ امام ومنير واحمد منيب .. وكنت كل يوم ساعة الفجر انضف الميدان انا وصحابى ويومين بس للصراحة وقفت لتأمين الميدان.. ساعدت الناس فى بنى مسرح الميدان .. ومرة اشتغلت تمرجى فى العيادة.. وفى يوم قولت قصيدة من تأليفى لمجموعة قاعدة حوالين النار.. كل الناس كنت عارفهم" يبدو من عينيه وهو يحكى أنه يتمنى لو عادت هذه الأيام.. وظهر هذا أيضا فى شجن نبرات صوته وهو يتحدث.
يوم 10 فبراير قالوا إن الرئيس خضع اخيرا لإرادة الشعب وسيتنحى واحتفل مع الجميع.. وقف أمام مسرح الميدان وهتف خلف المغنى .. كان يمر بين الناس ليهنئهم ويهنئونه.. اخذ يلف الميدان شرقا وغربا.. شاور بيديه لتمثال عبد المنعم رياض ثم تجول بين الزحام الى ان وصل الى الأسدين وتصور مع كل واحد منهما على حدة.. ثم خطب مبارك.. وكان ثالث من خلع حذاؤه في وجه شاشات الفيديو بروجيكتور الكبيرة اعتراضا على "سأظل"..
فى 11 فبراير لم يترك الميدان مع المسيرات التي سارت الى القصر الجمهوري.. كان يرى أن الميدان أولى به.. وأخيرا تنحى، تهللت أساريره "احتفلت شوية.. كنت مبسوط اوى.. اه سبت الميدان و روحت نمت .. نمت كتير أوي".
ابتسم ثم وقف مرة واحدة ليرحل لديه موعد عمل فى السابعة صباحا، إذ يعمل الأن فرد أمن على بوابة إحدى العمارات او على باب شركة من الشركات .. وربما ايضا كان يعمل مندوبا للمبيعات أو "ويتر" فى أحد الكافيهات.
تابع باقي موضوعات الملف:
"فلان الفلاني".. الثورة بنت المجهولين "ملف خاص"
أحمد أمين.. واجه مبارك بـ''7 جنيه'' وصنع متحف الثورة بـ''مشمع''
مصطفى.. ''اللي كان يومها واحد من الحراس الشعبيين للمتحف''
سهام شوادة.. الثورة يعني ''عيش وملح''
عم فولي.. ابن المطرية يتعلم الثورة على الطريقة الإنجليزية- فيديو
''الششتاوي''.. الثورة تحت أقدام الأمهات
محمد عمران.. أن تختار بين الثورة و''بنتك''
نساء عائلة "سلام" بالإسكندرية.. الثورة تمد لسابع جد
مها عفت.. أول من حَمل "علم الثورة" في الميدان
يحكى أن ''عبدالله'' هتف.. وشبرا كلها ردت وراه
''فنانة'' و''بتاعة سندويتشات'' و''مسؤول شواحن''.. أبناء ''أسماء'' في الميدان
القصة وراء صورة "ماجد بولس".. ياما في موقعة الجمل حكايات
في بورسعيد.. من الأم إلى ابنتها ''الثورة أبقى وأهم''
''فاتن حافظ''.. الثورة ''من طأطأ لـسلامو عليكو''
قاسم المزاز.. ''دليفري'' المستشفى الميداني
حكاية جمال العطار مع الثورة.. باع "البيزنس" واشترى البلد
للتحرير تفاصيل يعرفها "محمود نصر"
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة للاشتراك ...اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: