حكايات ثلاثة مثقفين في محراب الغيطاني
كتبت- رنا الجميعي:
لم يختلف أحد على أنه ساعد الجميع في أوّل مشوارهم الأدبي والصحفي، مُحتمل أن يقولوا نفس الكلمات عن الأديب الكبير، فهو رئيس التحرير الذي أفرد صفحات للشباب، غير أن الحديث يختلف من مثقف لآخر، فالتفاصيل منفردة، والأعين مُتباينة في التقاط الملامح، لكل وجه مختلف، حوار مُصغّر مع ثلاث من المثقفين الذين ساعدهم جمال الغيطاني في بداية حياتهم الأدبية، يتكلم فيه حسن عبد الموجود، منصورة عز الدين، وطارق إمام، عن محراب الغيطاني الذين ولجوا إليه.
ككاتب شاب أرسل حسن عبد الموجود قصصه لجريدة ثقافية بقامة "أخبار الأدب"، ذلك في منتصف التسعينيات، في عشرينياته كان ذلك أمرًا عظيمًا، وقتها كان الطالب بكلية تربية "طالع في دماغي حكاية الكتابة"، أن يصبح أديبًا وصحفيًا، نشر عبد الموجود في الجريدة، أثناء دراسته، أكثر من عشرين نص قصصي في "ساحة الإبداع"، أحد أقسام الجريدة، ذلك حسب ما كتبه الغيطاني نفسه عن حسن، عام 2013، في مقال بعنوان "جائزة حسن عبد الموجود".
تعرّف حسن على الأديب الكبير من خلال "الزيني بركات"، أشهر رواية له، جذبته اللغة التاريخية- على حد وصفه- التي ضفّر بها الغيطاني من روحه، لم تكن رواية تاريخية فحسب- في نظر عبد الموجود- لكنها تقوم على إسقاط الواقع أيضًا.
أن تكون بجوار جمال الغيطاني
ذات يوم وجد حسن، وهو في السنة الثالثة، اتصال له بهاتف البيت في نجع حمادي، ردّ الطالب الجامعي، على الجهة الأخرى كان الغيطاني من القاهرة -حيث دوّن حسن رقمه على قصصه المرسلة للجريدة- لم يُصدّق الشاب نفسه "كانت حاجة غريبة بالنسبة لي إني ألاقي قامة زي الغيطاني بيسأل عليا وأنا في أقصى الصعيد"، قال له صاحب التجليات "انت بطلت تبعت القصص الجميلة بتاعتك"، غير أن حسن بادره بإجابته أنه مازال يُرسل قصصه، لكنّه توقف لمدة الشهر هذه حتى يتسنّ لآخرين النشر بالجريدة، لكن الأديب ردّ عليه "أنا اللي أحدد المدة، انت تبعت ومتوقفش خالص، انت كاتب موهوب".
مع انتهاء دراسته بالجامعة قرر عبد الموجود أن يجاور هذا الشخص، تحديدًا أن يُصبح محرر ثقافي بأخبار الأدب، بالفعل هذا ما حدث معه، بعد أعوام عديدة صار مقربًا للغاية، حتى يُرسل له الغيطاني مخطوطاته الأولية لكتبه بخط يده لمشاورته فيه.
أول مرة شاهد فيها حسن الغيطاني عن قُرب، لم يكن بالجريدة، بل في جامعته، في ذلك اليوم البعيد لم يعرف الطالب أن كاتبه قادم في ندوة بالجامعة، حينها قابل مصطفى عبدالله بالصدفة-كان رئيس قطاع الأخبار بالجريدة- وعاجله بقوله "انت مبتسلمش على عمك جمال ليه"، مدّ يديه إليه مُسلمًا عليه، القاعة التي وُجدت بها الندوة، امتلأت عن آخرها "كان حوالي ألفين وخمسميت طالب"، وأبدى الغيطاني تأثرًا شديدًا بالعدد.
بعمله بأخبار الأدب عرف حسن الغيطاني عن قرب، ظلّ بجانبه أعوام عديدة، لكنه لم ينس المكالمة الهاتفية التي قدمت إليه من الغيطاني، وهو في سفره "مستناش إني أرجع"، مبديًا تعليقاته على مخطوط روايته، وقتها، "عين القط"، قائلًا له "دي رواية مهمة جدًا ودي مصر الحقيقية اللي بندور عليها".
يتحدث حسن بشغف عن أديبه، يُفند رأيه في كتاباته، فالغيطاني ينطلق من أفكار صغيرة ليصنع أعمالا كبيرة- في رأي عبدالموجود، هُناك فكرة النوافذ الذي تحدث عنها في كتابه "نوافذ النوافذ"، وهو الدفتر الرابع من دفاتر التدوين، من خلال الكتاب تحدث عن الوحدة، وانطلق من أعمال الفنان الأمريكي "ادوار هوبر" الذي يُصور أعماله من زاوية أو نافذة.
أعاد الغيطاني روح التراث العربي للرواية، على النقيض من نجيب محفوظ الذي أسس للعمل الأدبي بالشكل الغربي، يقول حسن إن كلمات الغيطاني تُشبه الأرابيسك الإسلامي، عبارة عن منمنات صغيرة تُكوّن عملًا كبيرًا.
بجوار الغيطاني عمل حسن في أخبار الأدب، عرف عنه المُجاملة الشديدة للناس، التنظيم الشديد هو أمر قاربه كاتب "عين القط"، شاهد الغيطاني يكتب بألوان أقلام مُختلفة، فيُميز أقلام كتابة العمل عن مثيلتها في المنزل.
أكثر من عشرة أعوام قضاها حسن بجانب الغيطاني، أبرز ما تعّلمه منه هو التفاني في العمل، وفي 2013 خطّ الغيطاني مقال عن الشاب الذي وصفه بـ"الزميل الصحفي"، ضمن ما قاله كان "أينما جئت صباحًا أو مساء هو موجود"، شعر الكاتب بالخجل من كلمات أستاذه في هذا المقال، يقول "كان نفسي أتعلم منه غزارة الإنتاج كمان".
طالبة صغيرة تدرس الصحافة في تسعينيات القرن الماضي، في ذلك الوقت كتبت "منصورة عز الدين" قصص صغيرة تُنشر في جرائد بحجم الأهرام والمساء، غير أنها-كما قالت- "النشر في أخبار الأدب حاجة تانية"، واتتها الجرأة يومًا، رفعت سماعة الهاتف تطلب الجريدة، بالفعل تم تحديد معاد لها لتقابل رئيس التحرير، بالموعد قدمت تعرض عليها أعمالها، بعد أيام اتصلت به ثانية ليُعاملها ككاتبة "زميلة"، ويمتدح كتابتها.
عملت منصورة بعد ذلك بعام في أخبار الأدب، تقول صاحبة متاهة مريم إن الغيطاني حينما يعلم نقاط التميز داخل كل صحفي يقوم باستخراج طاقتهم في تلك الأمكنة، العمل بشكل دائم هو ما كان عليه الأديب "كان أول حد بيوصل الجريدة"، يُشبه الغيطاني شخصية الفنان- كما تصفه، حيث التقلب في المزاج هو سلوك دائم لديه "أوقات بيبقى لطيف وكتير بيكون عصبي".
حلم صداقة الأدباء الثلاثة
مقال نقدي وقصة قصيرة هو ما جلبه معه طارق إمام في طريق لموعد أوّل حدده الغيطاني، ذلك في منصف التسعينيات، حينما أعطاه له قال "ايه دا كمان بتكتب نقد"، ردّ طارق عليه بثقة الشباب "اه عاوز أبقى ناقد جمب الكتابة"، اشترى الشاب العدد التالي، تصفح الجريدة واضعًا في حسبانه أن يجد قصته "اقامات الوردة في سماء المُنشدين"، غير أنه لم يجدها، ترك العدد جانبًا مُحبطًا، حتى اتصل به صديق "انت منشور لك مقال في أخبار الأدب"، كان ذلك المقال النقدي عن ديوان الشاعر أحمد اليماني، وفي العدد الذي يليه وجد قصته.
عام 2013، في المجلس الأعلى للثقافة وجد صاحب هدوء القتلة نفسه بجوار الغيطاني، ككاتبين يُمثلان جيلين مختلفين، يتناولان في الندوة روايتيهما "الزيني بركات"، و"الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس"، حينما فنّد الغيطاني الروايتين، في نقاطه التي شرحها تحيّز من خلالها لرواية كفافيس، حيث أنه أعجب بتجديد طارق لعمل أدبي مستند على السيرة الذاتية لحياة الشاعر السكندري.
في شباب طارق تعرّف على الغيطاني أولًا من خلال الزيني بركات "كنت متيم بيها"، كذلك بروايتي "رسالة في البصائر والمصائر"، و"شطح المدينة"، صغيرًا تمنى الكاتب مُقابلة ثلاث كُتّاب من جيل الستينيات، تحقق حُلمه وربطته صداقة بإبراهيم أصلان، خيري شلبي والغيطاني.
لا ينسى طارق الجلسة التي خصّه بها الغيطاني- بنهاية العام الماضي- في اجتماع المثقفين مع الرئيس، انفرد به بإحدى قاعات الاستقبال، وقتها كان طارق شغل منصب رئيس تحرير مجلة الإبداع، بدأ حديثه بـ"ناس كتير خدت مني مواقف، اعتبرت إني بضطر أنشر لناس ومبنشرش لناس تانية"، كانت نصيحة الغيطاني له أنه يكون قوي ومتماسك في وجه الانتقادات التي سيتعرض لها "اعرف إن دا قدرك وأنا مريت بيه قبلك".
فيديو قد يعجبك: