إعلان

"شعبان" يروي لـ"مصراوي" قصة عائلة واجهت الموت في رشيد

01:01 م السبت 01 أكتوبر 2016

قصة عائلة واجهت الموت في رشيد

كتب- محمد زكريا:

في ليلة صيفية حارة، جلس محمد شعبان بصحبة أولاد أخواله عمرو محمود ومحمد صبحي على صخرة ضخمة على حواف أحد شواطئ محافظة البحيرة، تتلمس أطراف الصغار مياه البحر الهادئة، يحدثهم "شعبان" عن حلمه في العبور إلى ما وراء البحر؛ بحثا عن حياة كريمة له وعائلته، يتبادل الثلاث الحكايات عن تحسن أحوال أبناء مدينتهم "إيتاي البارود" الذين هاجروا لإيطاليا، يلمع حلم السفر في عيون الأطفال، قبل أن يغادروا الشاطئ سريعا بعد رمقة أخيرة على مياهه الكاحلة.. فيما كان ينتظرهم مصير مروع.

بعد أن أقنع "شعبان" أسرته بالسفر. توجه مع أخيه الأكبر بصحبة أخواله لدفع المبلغ المطلوب؛ من خلال تحرير شيكات يتم سدادها عقب الوصول لأوروبا، بعد دفع الجزء الأكبر من "تحويشة العمر" والاقتراض. وعند حلول لحظة الانطلاق ودع كلا من الصغار أفراد أسرته "مكنوش عايزين يسيبوني أمشي، وقعدوا يتحايلوا عليا مسافرش لدرجة إنهم قطعوا هدومهم وأنا ماشي". بعدها استقل "شعبان" و"عمرو" و"صبحي" سيارة "تمناية" في حوالي الثانية والنصف بعد منتصف يوم الأثنين قبل الماضي. لتبدأ الرحلة.

قبل 6 سنوات عندما توفى والده، كان محمد شعبان طفلا، لا يرى العالم إلا بعين صغير، غير أن ضيق العيش لم يكن له متسع "مكنش عندنا دخل نهائي". وبعد أن انقطع عن دراسته؛ بحثا عن العمل "كنت بطلع الجبل، اشتغل في الأراضي، وانجّي العفش من تحت الموز"، قضى 5 أشهر من العمل بليبيا كعامل بناء "تعبت.. ومفيش مقابل على قد الشغل.. كانت الفلوس أكل وشرب ونوم"، فاتخذ قراره السريع بالعودة. وبينما عاد "شعبان" إلى محافظة "البحيرة" لم تغب عنه فكرة السفر لأوروبا "أصل هنشحتوا، لا عندنا أرض ولا عندنا حاجة، وكيلو السكر بقى بـ12 جنيه.. هنعمل أيه". فما كان من صاحب الـ16 عاما إلا اتخاذ قراره الأخير بمعاودة السفر إلى إيطاليا؛ لتحسين ظروفه المعيشية الصعبة. وهي الفكرة التي وجدت طريقها لنفوس أبناء عائلته "عمرو" و"صبحي".

في المكان المتفق عليه مسبقا التقى الشباب الثلاث بالمسؤولين عن إتمام الرحلة بالكامل إلى إيطاليا. تم اصطحاب "شعبان" وعمرو" مع العشرات إلى إحدى المزارع بمدينة رشيد، فيما ظل "صبحي" مكانه "رجعوه في التمناية تاني عشان لقوا دقنه طويلة". مكث الجمع بالمزرعة ما يقرب من ساعتين، بعدها تحرك الجميع تجاه شاطئ البحر مسافة تصل إلى 3 كيلو مترات، إذ استقل الشابان مع العشرات لنش صغير استغرقت مدة رحلته حوالي الساعة، حتى وصولوا لمركب "خشبي" أخر استمروا به ما يقرب من الـ3 ساعات حتى أمتلئ بحوالي 250 فرد، قبل أن يتحرك الجميع تجاه المركب المسؤول عن إتمام الرحلة إلى إيطاليا "لقينا عليه بتاع 150 واحد". وفي الليلة التالية التحق بالمركب الكبير رحلات أخرى، كان "صبحي" على متن إحداها "صبحي جالنا التلات بليل على مركب في 150 واحد تانيين"، حسب رواية "شعبان".

بعد أن انتصف ليل الثلاثاء، على بعد ما يقرب من 20 كيلو متر من شاطئ رشيد، كان المركب محشو بنحو 600 شخص، يروي "شعبان". غير أنه لم يتحرك. هو ما أثار القلق في نفوس راكبيه. ظلوا يتبادلون الأحاديث "قولنالهم ردونا قلولنا إن في 50 كمان جايين"، وقبل أن تمر ساعة واحدة كان المركب يهتز بشكل يوحي بالخطر، الصراخ يتعالى، الدعوات توجه للسماء، الكل يمسك بهاتفه لطلب النجدة "كلمت 122، لقيت الظابط بيضحك ويقولي أنت رايح إيطاليا؟، رايح تجيب فلوس؟.. روحت قولتلوا طيب إنقذونا من اللي إحنا فيه، هنموتوا.. قعد يشتمني". فيما كانت 10 دقائق بعد طلب "شعبان" للمساعدة كفيلة بتيقن الشاب الصغير بأن الموت يطرق الأبواب.

 

الظلام يغطي الوجود، المياه ترتطم بالمركب الخشبي، عويل السيدات، صراخ الأطفال، دعوات طالبي النجاة توجه للسماء "بقينا نتشاهد"، المياه تغمر المركب المنكب على جانبه الأيمن، يربط "شعبان" على أيدي "عمرو" و"صبحي"، يتلون آيات الذكر الحكيم، ترتفع ندائتهم للسماء. وفيما قرر البعض التشبث بأعمدة المركب المتهالكة، قرر أخرون القفز منه في مواجهة أمواج البحر العميق "قمت واخد عيال اخوالي في دراعي ونطينا في المياه عشان مينقلبش علينا". يتذكر "شعبان" في ذهول، مشهد المياه للوهلة الأولى بعد أن نزل في مواجهة غمارها " مشفتش غير رؤوس هي اللي باينة، بقينا نطلع ونغرق". قبل أن يتلفت حوله في فزع "بدور على أولاد خالي مشوفتهمش.. الهم بقى همين".

منذ غريق المركب حوالي الـساعة الخامسة، صباح يوم الأربعاء، حتى شروق الشمس، ظلت أعداد الرؤوس تتقلص باستمرار، ولم يتبق سوى من تشبث بفرصة أخيرة في الحياة. ظل "شعبان" يواجه الأمواج في حسرة "مبعرفش أعوم بس فضلت أطبش.. قلعت الجزمة والقميص والشراب عشان كانوا هيغرقوني، وبقيت بالطقم الداخلي"، حتى لفت انتباه ابن مدينة "إيتاي البارود" مجموعة من 7 أشخاص تلتف حول قطعة من الفلين "قولت يارب وقعدت أخبط في الميه لحد ما وصلت.. ومسكت في الفلة". غير أن مشهدان لا يزال يتذكرهما صاحب الـ16 عاما تصيب جسده حتى اللحظة برعشة شديدة؛ الأول لرجل يتعلق بجثة "امرأة سوداء" فقدت الحياة فيما يتشبث بها كي تعينه على مواجهة الأمواج "شوفت المنظر ده رجلي بقيت تخبط في بعض.. قولتلوا أبعد بعيد عننا، أنا قلبي خلاص، خليك مكانك هي هتفضل شيلاك"، أخر لطفل صغير يلتصق ظهره بحقيبة تحمله على سطح المياه.

 

 

وسط المياه؛ الجسد محطم تماما، القدرة على التحمل وهنت، الصوت مبحوح "زوري متجرح"، البطن تضغط بألامها. الأمال تتلاشى مع مرور الدقائق "ماشيين مع الموجة، كل ما نقول بنقرب من الشط نلاقي نفسنا في نص البحر". قبل أن تلتقط العيون المجهدة مراكب الصيد القادمة من بعيد. الحياة تدب في القلوب، الآمال تتسارع بالعودة، غير أن الصوت يفشل في الخروج "بقينا نشاور بأيدنا ليهم عشان يشوفونا". بعد أن وصل طوق النجاة، أنزل صيادي المركب الحبال، التقط "شعبان" أطرافه، إلا أن الجسد المنهك يحارب آماله بالنجاة "ماسك الحبل ومش قادر. شربت مياه أما قولت يا بس". قبل أن تحدثه نفسه في تحدي "يعني ممتش والمركب بتغرق هموت في اللحظة دي"، بينما يستعيد قواه وينجح في الصعود على ظهر المركب الصغير "الله يبارك لهم الصيادين هما اللي عبروّنا".

بعد أن قام الصيادين بإنقاذ ما تبقى من عالقي "مركب رشيد"، ظهر الأربعاء، تم تسليمهم إلى قسم شرطة المدينة الملقبة بـ"بلد المليون نخلة"، وتم احتجازهم حتى مساء نفس اليوم. ورغم المعاملة الطيبة التي لاقاها المحتجزين، إلا أن "شعبان" ما كان يشغله معرفة مصير أقاربه "ولاد أخوالي ميتين عايز أقوم أشوفهم.. لكن مرديوش يخلوني ادور عليهم في وسط الناس وقالولنا ممنوع حد يتحرك". وبعد أن تم عد الناجيين من الجنسيات المختلفة. قضوا ليلتهم الأخيرة في انتظار عمل المحاضر وصدور أمر الإفراج. في الوقت الذي تقوم فيه عائلة "شعبان" بالبحث عن مصير "عمرو" و"صبحي". 

في صباح يوم الخميس وصلت لـ"شعبان" أخبار تفيد بتوصل ذويه إلى جثة "عمرو" بمدينة "دمنهور". وفي اليوم التالي لدفن "عمرو" تم التعرف على جثة "صبحي" بمستشفى رشيد، من خلال ملابسه التي يرتديها. يجهش "شعبان" بالبكاء الشديد على ضحايا عائلته "لقوا معاهم المصحف اللي كنا بنقرا فيه قبل ما يموتوا، ربنا يعوض علينا"، فيما ينهي حديثه بحسرة "سافرنا وكنا عاملين حسابنا يا نموت يا نعيش.. وادينا موتنا". 

 

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان