لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"بهجة مسروقة" من الاحتلال.. كيف قفز فلسطينيون عبر الزمن في خطوة؟

11:06 ص الخميس 27 أكتوبر 2016

من روايات شتات الداخل الفلسطيني

كتبت-رنا الجميعي وإشراق أحمد:
غادروا أراضيهم عام 1948 على أمل العودة ثانية لها، تركوا أبواب بيوتهم مفتوحة، طعامهم على النار، وأسرّتهم مازالت يسري فيها حرارة أجسادهم، لكنها بردت بطول الانتظار، تهدمت الكثير من القرى، نحو 531 قرية -حسب مركز الإحصاء الفلسطيني- وأصاب الشتات أهلها، فروا إلى حيث ساقهم القدر داخل الأرض المحتلة، سكنوا المخيمات، وباعدت المسافات بينهم وبين ديارهم الأصلية، ليذوقوا العذاب ضعفين. لم يكن بُعد المسافة هو الأزمة فحسب، بل الحواجز والقوانين المختلقة، ظل يُخايلهم حُلم العودة القابع على مرمى البصر، تمر السنون والخيال يكبر.. قصص يرويها فلسطينيون عن رجوعهم للأرض والبحر، لا عودة مُطلقة ولكنها ترد الروح، تُعيد القلب إلى بداية الحياة المُنعمة ولو للحظات.

حليمة تعود للصبى
غيرة أصابت حليمة خداش حين علمت بزيارة إحدى جاراتها القدامى إلى بيت نبالا، قادمة من مسكنها بالأردن، قالت حينها إلى "زياد" ابن أخيها "وأنا اللي ساكنة بفلسطين مروحتش". عام 1948 شهد آخر تواجد للسيدة الثمانينية في بيتها، انقطع بعدها رؤيتها لقريتها بعدما استقرت بمدينة رام الله، لكن الحُلم بالعودة تحقق مع طارق بكري صاحب مشروع "كُنا ومازلنا" لتوثيق القرى المهجرة، وأصبح هو رفيق رحلتها مع قريبها وسيدتين آخرتين هما "فاطمة" و"نعمة".

 1

يُمكن للعودة إلى الماضي أن تحول العجائز إلى صغار، أن تنسلخ مرارة أعوام التهجير إلى لحظة تستقر فيها الذاكرة. كذلك صارت "حليمة" فتاة صغيرة حين دخلت قريتها "بيت نبالا" كما يصف "بكري"، لم يقف شيء أمام عودة روحها لبرائتها الأولى، لا ذلك الظهر المحنيّ الذي يحمل سنوات عُمر أكبر من إسرائيل، ولا تلك التجاعيد التي حفرت بوجهها أخاديد تحكي غُربة الفلسطيني بأرضه؛ هرولت ما إن رأت مدرستها القديمة التي صارت مشتل، وكانت الشيء الوحيد الباقي من آثار القرية المُهجر أهلها، حيث تغيّرت المعالم، وهُدمت البيوت، لكن ظلّت أبار المياه علامات ترشد "حليمة" إلى موقع بيتها.

قبل 68 عاما كانت الجدة "حليمة" طفلة بعمر الـ13 عاما، تعود لزمن فيه بيت يُحوّطه بئر وأشجار زيتون، ومريلة ترتديها للذهاب إلى مدرسة قريتها "بيت نبالا"، وبحرٌ تبلل قدميها عنده قبل أن يفرض الاحتلال حواجزه على أهل فلسطين.  

2

الذكريات تدفقت على "حليمة" منذ اتخذت الطريق من منزلها بمخيم الجلزون برام الله حتى الوصول لبيت نبالا، عند مرورها بقرية القسطل استحضرت أغنية كانت نشيدًا يُغنى لأحد قادة المقاومة يسمى عبد القادر الحسيني استشهد عام 1948، وصارت تحكي مواقف عاشتها "حليمة" الصغيرة، هُنا بجوار المدرسة سقطت أرضًا من فوق الحصان بينما تصطحب طعامًا لوالدها، وهُناك عند منزلها جمّعت بيديها الزيتون والدوم، وغنّت مع رفيقتيها "ع الدوم خيا ع الدوم.. شو جاب امبارح لليوم".

راح صوت النساء الثلاث ما إن رأين البحر "كانوا متفاجئين بالمكان" يصف "بكري". آخر مرة لمست أقدام "حليمة" البحر كانت بعُمر الأربع سنوات مع أمها. للوصول إلى البحر سارت الجدة مسافة كبيرة من ميناء يافا، اتكأت على يد "بكري"، تخطو عدة خطوات وتعاود الوقوف ثانيةً، تستريح وتُكمل بعدها، بخطوات تهفو نحو قبلتهم تقدمت الجدات الثلاث بزيهن الفلسطيني المُطرز، فخطفن أنظار الإسرائيلين حولهن وأخذوا في التقاط صور لهن، وما إن رأت "حليمة" زرقة بحر يافا أسرعت تجاهه، تُريد أن تلحق موعدها معه قبل غروب الشمس، دقائق معدودة قضتها الجدة تُبلل قدميها ويديها كأنها تُجدد عهدها معه، تُذكره بما صار وسيصير، أما "بكري" فوثّق رحلة الجدة بفيديو، عنوانه "هذا البحر لحليمة".



هذه هي قصة حليمة ورفيقاتها .. من مخيم الجلزون للاجئين عبر حاجز قلنديا العسكري مروراً بقريتهن "بيت نبالا" المطهّرة عرقياً قضاء الرملة لأول مرة بعد النكبة والو...

مزار "العُبرة"
ومن الضفة الغربية حيث تقع رام الله إلى جنوب فلسطين، بمدينة رهط في منطقة النقب يجمع حسين العبرة الأحفاد والأبناء، مع حلول يوم 30 مارس حيث ذكرى تهجيرهم، يمضون في رحلة ينتظرونها في مثل هذا اليوم من كل عام وكلما حلت مناسبة تجتمع بها الأسرة. يرحل الجميع في جولة لا تستغرق الساعة وتبعد نحو 2 كيلو متر عن منزل العائلة، يتجهون قِبل أرض العُبرة.
على خضرتها يجلسون، يقص الجد "حسين" حكاية الأرض مرة أخرى، يوصيهم ألا  يتركوها، يزرع في نفوسهم أمل العودة والبقاء بأرض الأجداد للأبد، وليس لمجرد ساعات انتزعوها منذ 1967 بعد انقضاء الحكم العسكري عن منطقة النقب.

كان "العُبرة" في العام الأول من عمره، حين اقتحم "الهاجناه" الإسرائيليون عشيرة الهزيل، حملته والدته بين يديها، فيما امسك بتلابيبها شقيقيه الأخرين، لتنزح العائلة -البالغ تعدادها الآن نحو 2500 شخص- إلى ما ملكت أرجلهم أن تذهب، فاستطاع البعض أن يجد له مكان قرب الديار ليستقر في رهط، بينما بلغ البعض غزة وسكن آخرون مدينة اريحا. طُردت الأسرة من أرضها المقدرة بنحو 10 آلاف دونم -الدونم 1000 متر مربع-، ومنذ ذلك الحين حُرمت عليهم "ضلينا 20 سنة ممنوع ندخلها" يقول "حسين" ذاكرا أن في عام 1968 تمكن أبناء العائلة من الدخول إلى الأرض فقط للعمل بزراعتها، لكن دون أن يذهب خيرها إليهم حتى الآن "مزروع بها قمح وشعير لكن لليهود مو إلنا".

3

قبل20 عام وطأت قدما "حسين" أرض الآباء والأجداد لأول مرة، كان في العقد الرابع من عمره. ذهب برفقه صديق يكبره بالعمر، وقت النكبة كان فتى في الخامسة عشر عاما، ليتولى الرفيق شرح حدود الأرض لـ"حسين". تغيرت ملامح العائدين، لكن القلوب احتفظت بريعان الذكرى "وقت ما دخلت الأرض صرت أبكي بشدة" يصف ابن مدينة رهط استقبال اللحظة التي كانت بمثابة تحقيق حلم العودة -ولو مؤقتا- ما ورثه عن أبيه الذي لم يستطع تحقيقه حتى الوفاة.

دونم ونص هو ما يخص أسرة "حسين"، يحمل أحاديث الأهل عن بيوتهم الطينية في عشيرة الهزيل، مقابل ما أبصرته عيناه في رهط -التي كانت قديما تسمى قرية العُبرة حتى عام 1973- من معسكرات حجراتها من خشب، بنتها أيدي النازحين لتؤويهم، ورغم تطور المساكن وحال أهلها الحاملين لهويات إسرائيلية، غير أن العنصرية تجاههم وكسر أنفسهم لم تتوقف، فيقول الرجل الستيني إن أرضهم لازالت تحمل اسم "دار العبرة"، لكن حكومة الاحتلال لا تعترف بملكيتهم لها "بيقول لنا إذا بدك تبيع الأرض راح نعترف إنها إلك".

4

لا تعترف إسرائيل بحق "حسين" وعائلته في أرضهم المسلوبة، لكن حبات الطين والرمال فعلت، فقرب شجرة صامدة رغم مرور السنين، يقبع قبر حسن الرميلي ابن عائلة العبرة، الذي وافته المنية قبل ثمان أعوام من النكبة، فنفذت أسرته وصيته بأن يدفن تحت هذه الشجرة، ليصبح رفاته قِبلة أبناء وأحفاد "العبرة"، يجتمعون حوله ويجددون العهد بالحفاظ على حق الأجيال في  الأرض بوسائل يقتنصونها من الاحتلال، إذ قام كبار العائلة بعمل خريطة موضح عليها حدود الديار، كما قرروا في الشهر الحالي بناء قبر "الرميلي" حتى يكون مزار لكل أبناء العائلة المُهجرة.

تراث حكايات العودة
لم يُجبر فلسطيني على ترك منزله إلا وكان لديه يقين في العودة بعد انتهاء الحرب، شهور أقصى مدة استوعبتها العقول، لذا قام البعض بترك آثر لحين الرجوع، لكن طول الغياب حوّل قصص العودة إلى تراث شفوي، تتناقله الأجيال فيما بينهم، خاصة سكان غزة المهجرين، فيتذكر محمد أبو عبد الله الذي هجُرت عائلته إلى القطاع المحاصر ما روى له أبيه عن ذلك الفلسطيني، حين عاد لبيته في يافا فخرج له الساكن اليهودي غير مصدق لروايته بامتلاكه البيت، ليكشف الفلسطيني عن حجته من أسفل شجرة زيتون متواجدة بحديقة المنزل؛ حفر الرجل واستخرج مقتنيات نحاسية لجده خبأها ليوم عودته، فما كان من الغريب إلا أن يخبره بأخذ أشيائه لكن العائد إلى يافا رفض قائلا "راحت الأرض وايش قيمة النحاس".

5

وكذلك روايات كثيرة متناقلة عن الذي حرم على جوفه ابتلاع ثمرة من برتقال حديقة منزله حين عاد لرؤيته، وآخر عانى العذاب داخل منزل لا يتعدى 50 متر بعدما كانت المزارع تحيط الديار قبل التهجير.. وغيرها من القصص تحفظ للوطن صورته التي غيرها المحتل، وفزع لها والد "أبو عبد الله" حينما زار بئر السبع لأول مرة بأوائل الثمانيات بعد نحو 40 عاما من التشريد "بيتهم ما كان له أثر صار محله بناية عالية جديدة". عاد الأب بالحسرة بعد الفرحة بالزيارة، حمل تلك المشاعر للأبناء، حسهم على حفظ التراب ولو زال، لذا حين سنحت الفرصة بذهاب "أبو عبد الله" لأرض الآباء والأجداد حرص على تنفيذ الوصية.

كان "أبو عبد الله" في العشرين من عمره حين عرفت قدماه طريقها إلى بئر السبع، لم يكن الحصار يُكبل أهل غزة بعد، فاستطاع الذهاب للعمل بدهان المنازل، نهلت عيناه من التفاصيل الجديدة للبلدة، لكن سرعان ما كانت تتمثل الصورة القديمة أمامه، لذا حين رأى بناية إحدى المساجد تحولت لمتحف، خلع عنه حذائه ودخله وسط نظرات تعجب الإسرائيليين، فيما لم يكن يعبأ الرجل سوى لشيء واحد "أن أعطي المسجد حرمته حتى ولو صار متحف".

 سوسن والبحر

"نحو أكثر من 300 ألف فلسطيني يسكنون في بلدات لا تبعد سوى مرمى حجر عن قراهم المدمرة الّتي تمنعهم إسرائيل من العودة إليها" جاء ذلك في تقرير لوزارة الشؤون الخارجية الفلسطينية، لكن الاحتلال لا يمنع أصحاب الأرض من العودة، بل يحرم سكانها من معالمها، فبات أهل الشتات بالداخل الفلسطيني وأصحاب الحظ الأوفر بالبقاء في بلداتهم سواء، جميعهم لهم من وصف "الحاضر الغائب" نصيب، فرغم المسافة القصيرة التي تفصل سوسن الأسمر عن البحر بنابلس غير أنها لم تلمح أمواجه إلا قبل أشهر قليلة ولوقت محدد.

 6

من نابلس إلى البحر، جلست 40 سيدة بالأتوبيس وأعينهن لا تبرح الطريق، يتأملن كل ما يمر أمامهن، كأنهن يُحصين كل حبة تراب عليه، من بين هؤلاء السيدات كانت "سوسن" برفقة أختها "آلاء". ساعة كاملة مرّت للوصول إلى البحر قضوها بين الحواجز الإسرائيلية "المسافة حوالي 50 كيلو، بس بحالة قطع الحواجز ما بتنعدش المسافة".

لثلاثة وثلاثين عامًا لم ترَ "سوسن" البحر، هي سنوات عُمرها التي انقضت، لأن القانون الإسرائيلي يمنعها من دخول أراضي 48 دون تصاريح تحكمها حالات معينة، حتى تمكنت من خلال إحدى الجمعيات الخيرية أن تستخرج التصاريح لها ولبقية السيدات، ليقضين يومًا بالبحر مشروط وقته "من الساعة 7 الصبح للساعة 5".

بالعاشرة صباحًا وصلت "سوسن" منطقة البحر، وكما تلاطم الأمواج تأرجحت مشاعرها بين الفرح والحُزن "بنفس شدة الفرح حسيت إنه لازم أعيط..ولازم أصرخ"، وما إن مسّت قدميها المياه حتى شملتها قشعريرة وحيرة بالنفس لا تدرك سبب منع البحر عنهن.

يومٌ كامل قضته "سوسن" عند البحر، "كأننا جايين ضيوف" غادرت السيدة بهذا الشعور، لم يفارقها نسيم الفرح برؤية قطعة من أرضها لم تمسها قبلا، لكن الغصة ظلت رفيقتها بعد عبور حواجز الاحتلال للعودة إلى مسكنها مرة أخرى، مدركة كيف أن البلاد التي تخلو من البحر لا طعم لها "بلدنا مو لقليل راحت".

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان