"لا مكان للسلام هُنا".. كيف يمر الوقت داخل حصار حلب؟
كتبت-دعاء الفولي:
يضبط أمير الحلبي المنبه يوميا على الساعة التاسعة صباحا، لكنه يستيقظ قبل ذلك الميعاد بسبب ارتجاجات القصف على الحي الذي يقطن به في شرق حلب. الحياة داخل المدينة كئيبة. لا فرار من براثن الحرب. حلب صارت سجنا كبيرا. يمكث أمير مع نفس الأشياء والأشخاص، غير أن الوجوه التي يقابلها تختفي ساعة بعد الأخرى.
منذ 3 أشهر تفرض قوات النظام السوري، حصارا على حلب الشرقية التي تحكمها المعارضة، حيث تم تكثيف القصف الجوي من الطيران السوري والروسي، ومنع إدخال المواد الغذائية عن حوالي 250 ألف شخص يعيشون في المدينة.
قبل الحصار بشهر قُتل والد أمير ذو الـ21 عاما في قصف جوي، بينما يُسعف الجرحى كأحد متطوعي مجموعة "الخوذ البيضاء". بعد وفاته انقلبت حياة الابن رأسا على عقب. صار عليه تدبير أمور المنزل لوالدته وأخته، بداية من الطعام وانتهاءً بالكهرباء. يحاول اصطناع الجلد أمام أهله، لكن بداخله "أفتقد القوة اللي كان والدي عم يعطيها لي".. حسبما يقول لمصراوي.
التصوير هو عين الشاب. بدأه عام 2013 حينما رأى مواطنين يحفرون الركام بأظافرهم لإخراج الأطفال من أسفل الأنقاض "وقتها قلت صار لازم وثّق اللي بيحصل في سوريا"، فانضم للعمل في وكالات صحفية مختلفة آخرها الفرنسية.
ينقسم يوم أمير بين العمل والبقاء مع الأسرة والأصدقاء، ووسط ذلك يُركز جهده على الطعام، فالحصول عليه أشبه بمطاردة وحش أسطوري "المواد في بيتي تكفيني لعشرين يوما أخر.. ويمكن بعدها أموت من الجوع"، منذ شهرين لا يأكل أمير إلا المعكرونة والأرز فقط.
لا خُضروات في حلب، إلا بعض البقدونس والسبانخ. الأسواق شبه خالية، حسبما يروي الشاب، حتى أنه يُمازح أصدقائه قائلا: "لما تخلص الحرب عم بأكل عشرين فروجة (دجاجة) في اليوم".
لم تتمكن الأمم المتحدة من إدخال أي مساعدات إنسانية لحلب منذ يوليو الماضي. يقول أمير إن طفلة تُوفيت بسبب الجوع خلال الأيام الماضية، في الحي حيث يقطن. يعتمد المواطنون في المدينة على ما اكتنزوه قبل بدء الحصار، وليست لديهم خطط بديلة لنفاذ الغذاء.
منذ أيام أعلن يان إيغلاند، رئيس مجموعة العمل الخاصة بالمساعدات الإنسانية في حلب، عن أن المواد الغذائية التي توزعها المجموعة داخل حلب أوشكت على النفاذ خلال أسبوع، داعيا القوات الروسية والسورية لفتح ممرات آمنة لإدخال المساعدت الإنسانية وإخراج الجرحى.
"عن نفسي لو خُيرت بين الموت والإصابة سأختار الموت.. لا يوجد أطباء مختصين بجميع المجالات داخل حلب وهناك نقص في الأدوية".. هكذا يصف المصور الأوضاع. في الوقت نفسه أعلنت مديرية الصحة في المدينة، السبت الماضي، عن توقف العمل داخل كل المستشفيات، جراء القصف الممنهج.
عايش أمير الموت مرارا؛ كان يوُثق القصف الشديد في حي باب النيرب بالكاميرا، حينما سمع صوت الطيران القريب، لم تمر ثوانٍ حتى وقع صاروخ على بُعد 25 مترا منه. صراخ وعويل وأطفال تئن، من جاء لمساعدة المصابين صار مثلهم "رأيت رجل يحمل يده الأولى التي قطعت بيده الثانية، رجل عندما حملوه الى سيارة الإسعاف يصرخ ويريد رجله المقطوعة المُلقاه على الرصيف، أم تبكي طفلها مقطوع الرأس".. سقط في محيط المُصور ما يُقارب الـ50 قتيلا ومثلهم من المصابين.
"كسب العيش" ليس يسيرا في المدينة المُحاصرة، فبجانب الموت الرابض على قارعة الطرق، ليس هناك كهرباء إلا ساعتين في اليوم "كانت قبل الحصار بتيجي 13 ساعة يوميا"، أما الآن فقد أعلن صاحب مولد الكهرباء الوحيد الموجود في حي أمير، أن المازوت سينفذ تماما خلال أيام. في المقابل لا يستطيع الشاب استيعاب أسعار الأشياء المُتاحة؛ إذ وصل سعر أنبوب الغاز إلى 200 دولار، بينما السيجارة الواحدة بعشرة دولارات.
دعت الأمم المتحدة أكثر من مرة إلى إيقاف الضربات الجوية لإيصال المساعدات الإنسانية لحلب الشرقية، ورغم عدم الاستجابة لذلك، إلا أن السكان لا يبتغون الرحيل، حتى بعدما عُرض عليهم الخروج من قبل النظام السوري "لأنهم بيعرفو أكاذيب النظام على مدار ال6 سنوات".
استياء الشاب السوري وآل حلب ليس ضد الرئيس بشار الأسد وروسيا فقط. ففي أول أكتوبر الماضي اجتمع مجلس الأمن لخلق هدنة في حلب، غير أن الاجتماع لم يخرج بجديد، لذا اتسع غضب أمير ليشمل العالم كله "العالم تافه حد الوقاحة، الجميع يكمل حياته بشكل طبيعي ولا يبالي بنا".
لا يعرف المُصور السوري مآل الأوضاع بمدينته. يجتهد يوميا كي يعود لوالدته غير مُصاب. يستغل بضعة ساعات قد يهدأ فيهم القصف ليلعب الكرة مع أصدقائه في الشارع، بعدما صار لعبها إلكترونيا مُستحيلا "ما عنا رفاهية البلاي ستيشن وفيه أزمة محروقات". يُلملم أمير أحلامه كي ينفذها إذا ما انتهت الحرب؛ أن يُكمل دراسته التي تركها مُرغما بالصف الثالث الثانوي، ثم يعمل كطبيب نفسي.
مع نهاية اليوم يُمسي أمير مُنهكا.. بين الركض للتصوير أو لشحن بطارية هاتفه ثم السعي وراء قوت اليوم. قدماه ثقيلتان وجفناه يريدان النوم، لكن الأمر ليس بتلك السهولة "الكوابيس بتضل تلازمني عن القصف". فوق سريره يتذكر يوم استيقظ مُتعرقا على صاروخ قريب من داره وجثث تملأ المكان، يعانده النوم والخوف، فيأمل ألا يسمع ذلك الصوت مرة أخرى أبدا.
فيديو قد يعجبك: