"ضوه".. أمين "مقبرة اللاجئين" في اليونان
كتبت-إشراق أحمد:
تصوير - كوستاس كالرغيس:
قبل شهر أغسطس المنصرف، كان مصطفى ضوه حين يحضر صلاة جنازة أحد المتوفين، ينزوي بعيدا عن الجمع، يتعمد الوقوف في أبعد نقطة، لا يُرى منها الجثمان المتكفن، ممتنا فقط للحظات الصلاة والدعاء، "كنت بخاف.. ولو شوفت ميت مبعرفش أنام كويس لأيام" يقول الشاب الثلاثيني، الذي بات على يديه يستقر جثامين عشرات اللاجئين، إلى مثواهم الأخير، بعد أن لفظتهم الحرب والأزمات من فقر وعوز، وألقت بهم جثث على شواطئ بحر إيجه المطل عليه جزيرة ليسبوس اليونانية، التي يقطنها "ضوه" منذ ثمانية أعوام.
مصري يمارس يوميه الطبيعي، بين الدراسة والعمل كمترجم لغوي، ثم يعود لمنزله. دائرة طبيعية لشاب غادر بلده، وقريته الصغيرة "زفتى" –الغربية- من أجل حياة أفضل يتطلع إليها، إلى أن توافدت الأنباء عن مصرع عشرات اللاجئين السورين غرقا قرب السواحل اليونانية، تابع الشاب "ضوه" الأخبار بأسى، مشاعر العجز طالما رافقته حال غيره منذ بدء الأزمة السورية، لكن لم يستطع تحمل المزيد، بعد أن تنامى لسمعه أمر أدمى قلبه حزنا "مفيش حد يدفن الجثث، بيروحوا زي ما هم ملفوفين بملاية المشرحة ويدفنوا بدون تكفين ولا غسل"، يحكي الشاب لمصراوي.
تألم خريج جامعة الأزهر، الدارس للشريعة الإسلامية، عزّ عليه أن يصل الحال، لدرجة العجز عن دفن الأموات كما يجب، فاندفع "ضوه" متطوعا ليواري سوءة اللاجئين، بقطعة أرض لا تتجاوز قيراط بمقابر القديس بانتليمون، حيث كان مرقد جثث اللاجئين، قبل أن تضيق عليهم الأرض بما رحبت "حوادث الغرق كترت في شهر أكتوبر ونوفمبر فالأرض مبقتش مكفية".
20 جثمان تولى "ضوه" غُسلهم وتكفينهم، ليُدفنوا للمرة الأولى بطريقة شرعية في المقابر المسيحية، لا يعلم الشاب كيف فعل ذلك، فكل ما حملته نفسه، هو رغبة عارمة في المساعدة، تدعمها مواقف يلين لها الحجر، حال الأب المكلوم، الذي أخذ يصرخ، مطالبا بدفن ابنته ذات العشر سنوات بأي مكان، بعد مرور أكثر من أسبوع على وفاتها "نفسي ادفن بنتي بدي بنتي ترتاح" يتذّكر الشاب المقيم باليونان أنين الرجل، الذي يصفه بالتدين، يستعيد ما شعر به حينها من قهر، ثبت أقدامه لاستكمال ما يقوم به.
تزداد الأنباء بمزيد من جثامين اللاجئين، تتقلص الأرض المقتطعة من المقبرة المسيحية، فيما لا يجد "ضوه" سوى محل يستأذن أصحابه ليجري عملية التكفين، ويصطدم الشاب بتعامل المنظمات الداعية لمساعدة اللاجئين "كنت بتحايل عشان يوفروا لي مكان التكفين محدش يسأل فيا"، وجد "ضوه" نفسه وحيدا، هو ونصيحة من أحدهم بالتوجه إلى المحافظة والمطالبة بتخصيص أرض لدفن اللاجئين.
كان يوم الجمعة الموافق 13 نوفمبر 2015، ما يقرب من 38 يوم مرت على بقاء نحو 70 جثمان بثلاجة المشرحة دون دفن، لم يتردد أهالي اللاجئين الناجون أمام دعوة "ضوه" للذهاب مرة أخرى إلى مقر المحافظة في ليسبوس، للمطالبة بتخصيص أرض لموتاهم، بعد عدم الاستجابة. تولى الشاب الثلاثيني إمامة صلاة الجمع، بعدها تقدم الحديث باسم الأهالي، في حضور عدد من المتضامين والمنظمات، ليستجيب نائب المحافظ على الفور حسب وصفه، وباليوم التالي السبت14 نوفمبر، باتت مساحة 10 آلاف متر مربع بقرية كاتو تريتوس مخصصة فقط لموتى اللاجئين.
صارت أطراف "كاتوتريتوس" معروفة بمقبرة اللاجئين، كما أصبح "ضوه" وجهة محفوظة، كلما حل خبر غرقى جدد، يتصل به مكتب الجنازات، فيترك الشاب الثلاثيني كل شيء، متوجها للشواطئ، أو قاطعا نحو ثلث الساعة من منزله حتى المدفن لإعداد لوازم التكفين.
يفتح "ضوه" الباب الحديدي للمقبرة المحتفظ بمفتاحه، يدلف لينتظر قدوم الراحلين الجدد، يقف بين طاولتين خشبيتين خصصهم للغُسل والتكفين، يتمتم بما تيسر من الأدعية الواردة في صحيح السنة، يوليهم على جانبهم الأيمن قبلة مكة المكرمة، ويستعين بإحدى النساء في حالة وجود جثمان سيدة، ورغم صعوبة ذلك، لكنه لا ييأس، ولا تنقضي مهمة الشاب إلا عقب إقامة صلاة الجنازة والدعاء لمَن يدفنه، بعد إتمام الإجراءات الرسمية، ثم العودة لمنزله مرة أخرى لتسجيل الأعداد والهويات المعلومة للمتوفين، وإرسالها لصانعي الرخامة التعريفية بالقبر.
للموت جلال، لذلك يعقد "ضوه" كل تركيزه على ما يقوم به، يكتم مشاعره تجاه ما يراه من صغار بلا رأس أو تشوهت ملامحهم "مرة جابوا لي بنت 12 سنة كل اللي باقي منها المقعدة ورجلها اليمين"، يجاهد ألا يتزلزل "لو ركزت هتعب"، يُذكر نفسه أن ما يفعله أضعف الإيمان إزاء اللاجئين "مش بإيدي أوقف الحرب أو اخليهم يعبروا البلاد لكن كل اللي بإيدي أكرم الموتى".
في البدء كان دافع "ضوه" هو تكريم مثوى السوريين الغرقى من المسلمين غير المخصص لدفنهم مكان، قبل أن يكتشف حقيقة أكبر، وهي أن الفارين من أوطانهم، الحالمين بحياة أفضل، ومن أجلها يلقون بأيديهم إلى ما لا يأمنون عقباه، هم كثر، فعمل "ضوه" لم يخص السوريين وحدهم، هم يشكلون فقط 30% من المقبرة كما يقول، فيما يشاركهم جنسيات أخرى من العراق، أفغانستان، وإيران، جميعهم فرقتهم السياسات والحياة، وحتى البحر حيث لجأوا، ووحدتهم أمتار ببلد، وشخص سُخر لهم من مكان آخر، ليستقر به حيث يحين ميعاد لقاء ربهم.
مصاعب كثيرة واجهها الشاب المصري، نفسية ومادية، ليس هين أن تدفن جثامين أغلبها من الأطفال -70% حسب قوله- لكنه كلما همّ بذكرها، لاحقته كلمات "سبحان الله هو اللي بيعين"، وغاص في آيات التيسير، التي أبصرها، بدءً من عمله الذي تركه لأجل دفن الموتى طيلة أربع شهور، ليجد مكان آخر، استهل معه العمل منذ مطلع هذا الشهر، وقد تفهم أصحابه ما يقوم به "لما بيجي تليفون يطلبوني للدفن بيسيبوني اروح اليوم ده"، ولا يتوقف الأمر عند أرباب اللحود، فترق نفسه مع هذا المسجى مبتسما، وذاك المضيء طلته وقت الغسل، وإجراءات الدفن التي ما يلبث أن يحمل لها هما حتى ينفرج بسرعة انهائها على عكس ما تخيل.
"كله بيدفن ويمشي" يصف "ضوه" حال اللاجئين الناجين، إذ يضطرون لاستكمال رحلتهم في اللجوء لإحدى دول أوروبا، تاركين كرها ذويهم المتوفين، مكتفين بوصيته في الدعاء لهم، والتواصل معه، فيما تبقى لحود أخرى تحمل تاريخ الوفاة ومسجل عليها عبارة "مجهول الهوية"، وهي الأغلب كما يقول "حارس" مقبرة اللاجئين، منهم عائلات كاملة، تألمت لموتها نفس "ضوه" باستنتاجه هذا بينما يتابع عملية التكفين.
ما أراد "َضوه" الجهر بما يقوم به، تعفف عن أي جزاء أو شكورا، حتى أنه التزم الصمت حتى يناير المنصرف، حين حاولت بعض المنظمات استغلال الأمر بسوء، بعد أن قام عاملين بإحدى المنظمات المدعية مساعدة اللاجئين، بقطع السلك المحيط بالمقبرة، وتسجيل مقطع مصور، لا يكتفون فيه بنسب الفضل لهم، بل المطالبة بجمع الأموال، لذا خرج الشاب المصري عن صمته، بالحديث لإحدى الصحف اليونانية الكبرى قائلا "اضطريت اتكلم عشان الناس تعرف الحقيقة".
المتاجرة بمعاناة اللاجئين، أشد ما اصطدم به "ضوه" منذ تطوع لدفن الموتى "99% من اللي بيتكلموا باسم اللاجئين في اليونان مستغلين والموت أكتر وقت بينتهزوا فيه الفرصة عشان يجمعوا فلوس على حسهم" يقول ابن محافظة الغربية، موضحا سبب استماته لرفض إدارة أي منظمة للمقبرة، وتصديه لهذا الأمر حين اعترضت إحدى المنظمات، ولهذا لا يتردد في إعلان ميزانية التكفين البالغة 14 ألف يورو حتى الآن –بمعدل 200 يوروا لكل جثمان- التي تتكفل بها التبرعات عبر الجمعيات في اليونان.
71 جثمان حتى الآن بمقبرة اللاجئين، آخرهم شخصين تم دفنهم في الثالث والعشرين من مارس المنصرف، بين الحين والآخر يُقرئهم "ضوه" السلام، يُرجع إليهم الفضل بعد الله فيما تغير بنفسه من كسر الخوف مقابل "ترقيق القلب"، واختلاف منظور الحياة لديه "بقى عندي أمل، وقدرت قيمة إن الحياة مالها قيمة إلا بالعمل الصالح"، لذا رغم عودته لعمله كمترجم، لازال "ضوه" رهين إشارة استدعاءه لتكريم مثوى اللاجئين.
فيديو قد يعجبك: