باب الرحمة.. مقبرة ترفض التسليم لإسرائيل ولو على جثة أبنائها
كتب- سارة عرفة وإشراق أحمد:
في موطن الاحتلال لا مكان للتساؤل عن أقصى الجرائم، فكل حدٍ متجاوز، وله مبرراته الواهية، ومَن استباح حرمات الأحياء، لن يَعز عليه "التنغيص" على الأموات بمرقدهم، هو فقط يرغب في موت كل ما يحمل صفة "فلسطيني"، ولو أمكن لقتله أكثر من مرة ليتأكد أنه لن يؤرق ذاته الاحتلالية مرة أخرى. ذلك ما طفا على سطح التصعيدات الإسرائيلية منذ فترة في القدس، في شهر سبتمبر الماضي حين توجهت أقدام سلطات الاحتلال نحو الجزء الشرقي لمقبرة باب الرحمة الملاصقة للمسجد الأقصى، والتي يسعى بشتى الطرق المتجلية قبل نحو 15 عاما للاستيلاء عليها بدعوى إنشاء حديقة "وطنية".
مع مطلع شمس الثاني من سبتمبر الماضي قامت سلطات الاحتلال بحماية موظفي "سلطة الطبيعة والحدائق" لوضع أسلاك شائكة حول نحو 40 % من المقابر، التي تعد أكبر المقابر الإسلامية التاريخية في القدس، أحاطوا المكان بالشريط اللاصق المعروف لمنطقة العمل، وختموا المشهد بلافتة كُتب عليها بالعربية والعبرية "الحديقة الوطنية المحيطة بأسوار أورشليم القدس.. ممنوع إلقاء النفايات.. القبر في المنطقة ممنوع"، ظن رجال الاحتلال أن فعلتهم ستمر، غير أن أهل "سلوان" –البلدة الأقرب- تصدوا للأمر، وتمكنوا من إزالة كل ما هو دخيل على مدفن موتاهم كما قال أحمد الرويضي، أحد سكان البلدة.
"مقبرة باب الرحمة الإسلامية" تشير اللافتة المُعلقة على البوابة الحديدية للمكان، وتضيف لمعرفة الوافد، أنها تعود "للفتح العُمري" عام 15هـ الموافق 626 م، جنوب المسجد الأقصى تقع المدافن الحاوية لجثمان عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عبد العظيم سهلب رئيس إدارة الأوقاف بالقدس، وأشهرهم عبادة بن الصامت –أحد السبّاقين إلى دخول الإسلام بعد إعلان التوحيد، شهد كل غزوات النبي، كان بين الفاتحين للشام، والذي قال عنه الأوزاعي إنه أول قاض لفلسطين، ووصفه عمر بن الخطاب "رجل يعد في الرجال بألف رجل"، وكذلك تضم المقابر جثمان شداد ابن أوس –شقيق الصحابي حسان بن ثابت، وكان من العلماء الذين مكثوا ببيت المقدس حتى وفاتهم، مئات الراحلين منذ الفتح الإسلامي للقدس وحتى اليوم يوارون الثرى، على خلفية القبة الذهبية للأقصى متجلية بمشهد يليق لجلال الموت، غير أن الحزن هنا يأتي كضيف عابر، بين عبق تاريخ باقي أثره، ويُنوع شجر عمره من عمر أهل الأرض الصامدين أحياءً وأموات.
محاولة الاحتلال للاستيلاء على أرض المقبرة البالغ مساحتها نحو 23 دونم –الدونم 1000 متر مربع- ليست المرة الأولى لانتهاك حرمة القبور في القدس، فقبل أكثر من 60 عاما منذ وطأ بأقدامه أرض فلسطين عام 48، طمس جنود الاحتلال مقبرة "مأمن الله" الواقعة غرب المدينة، وحل محل رفات الموتى، فنادق وبنايات إسرائيلية، "أقاموا على جثث المسلمين متحف اسموه التسامح" كما قال رئيس إدارة الأوقاف، وما بقي منها حُرِم على العرب الاقتراب منه "باب القدس الغربي ما ضل فيه ولا فلسطيني أو عربي" لذلك كما قال "الرويضي" لم تعد المقبرة التي تبعد عن المسجد الأقصى نحو 5 كيلو متر مستعملة، وبقي للمسلمين بالقدس مقبرة باب الرحمة، وباب الساهرة أو "اليوسفية"، ومقبرة المجاهدين بالقرب من باب الأسباط.
"سلوان" تلك البلدة الصغيرة، "الحامية الجنوبية" كما يطلق عليها المقدسيون لزودها عن الظهير الجنوبي للمسجد الأقصى، هي المتصدي الأول للاحتلال في انتهاكاته لمقبرة باب الرحمة بحكم موقعها في الجنوب، وأنهم الأكثر دفنا بها، فكافة المحاولات للنيل من المقبرة، يتولون وأدها مهما بلغت شدتها، والتي تمثلت فيما حدث مطلع هذا الشهر "المرة الأخيرة هاي كانت الأعنف خاصة أنها تزامنت مع الاعتداءات على المسجد الأقصى" حسب قول "الرويضي"، حيث وصل الأمر إلى إصدار قرار منع الدفن بالمقبرة المسجلة منذ عام 1935 بتبعيتها للوقف الإسلامي حسب قول الرجل المالك عائله لمدفن بالمقبرة العائد عمرها لنحو 1400 عام.
لكن مثل تلك القرارات لأهل "سلوان" كأنها لم تكن "من فترة حاول الاحتلال منع شاب من دفن والده لكن أعداد المتواجدين بالجنازة أرهبتهم"، فقد مضى زمنا طويلا فطن فيه أهل البلدة الصغيرة وفلسطين عامة للعبة الاحتلال الخبيئة في تنفيذ مخططه الثابت وسائله منذ عام 48 "يحتلوا جزء ويدوروا على التاني له حتى يستولوا على المنطقة بأكملها".
لباب المسجد الأقصى "الرحمة" ينتسب اسم المقبرة، وكذلك حالها، فهي من المناطق "المهجورة" حسب وصف محمد قزاز –من القدس، لا فارق بين ما يحدث داخل باحة الأقصى وما تلقاه البقعة الواقعة خلفه بالخارج، فمنطقة باب الرحمة بساحة المسجد لا تُقام بها الصلوات باستثناء ليلة القدر حيث يعج المكان بالمصلين كما قال الشاب العشريني، مما يجعلها منطقة مستباحة للمستوطنين لإقامة ممارساتهم "التلمودية" باتجاه قبة الصخرة بعيدا عن المقدسيين، وأما منطقة القبور فلا تدب بها قدم إلا للزيارة أو فتح قبر جديد، وهو ما دفع "قزاز" لتسميتها بالبقعة "الحزينة"، غير أنه أبى أن يتركها كذلك، لهذا اتفق مع زوجته "لطيفة" على عقد قرانهم بها وليس كما المعتاد إقامته بالمصلى القبلي أو عند قبة الصخرة، ليحملا في حضور نحو 50 شخص من الأهل والأحباب رسالة إحياء للمكان "هذه البقعة لن ننساها".
"سلطة الطبيعة والحدائق" تحت هذا الاسم، تجري إسرائيل عملها لمصادرة الأراضي، بدعوى تواجدها في نطاق مشروعها لإنشاء "الحديقة الوطنية" أو "التوراتية" كما تسميها، حيث يعمل الاحتلال على إقامة حديقة تبلغ مساحتها نحو 1100 دونم ضمن 7 حدائق بمحيط المسجد الأقصى بمساحة مقدرة بـ2680 دونم وفقا لتقرير المركز الإعلامي لشؤون القدس والأقصى "كيوبرس"، غير أن الحديقة المزعم نشأتها جنوب "الأقصى"، هي الأكبر والأكثر خطورة على أولى القبلتين، نظرا لملاصقتها لسوره، إذ تمتد بمنطقة حي وادي حلوة بسلوان، وجنوب غرب أسوار القدس القديمة بمنطقة وادي الربابة، مقتطعة الجزء الشرقي من مقبرة باب الرحمة، لتغطي على السور التاريخي للقدس القديمة من الجهة الشمالية والشمالية الغربية، بامتداد المنطقة الواقعة من باب النبي داوود وباب الخليل، حتى باب العمود، والساهرة بالقرب من المقبرة اليوسفية -أو باب الساهرة كما يطلق عليها.
"بيحاولوا اقتطاع الجزء الشرقي من المقبرة لعمل حديقة وطنية كما يقولون لكن التخوفات تشير لإقامة مصلى يهودي" قال "الرويضي" عما يراه أهل بلدته من ألاعيب الاحتلال، مفسرا ذلك أن المقبرة مطلة مباشرة على المصلى المرواني وبمنطقة "سلوان" التي يسميها اليهود "مدينة داوود" ويصفونها بالمملكة اليهودية، فخبرة الرجل وإجراءه لدراسة دكتوراه عن أساليب "الصهاينة" في الاستيلاء على البيوت والمقابر تؤكد شكوكه، خاصة بعد نجاحهم في تلك المحاولة التي مر عليها نحو 15 عاما، حين اقتطعوا الجزء المجاور للمقبرة من الناحية الشرقية حيث تتواجد أرض وقف لمقبرة يهودية قبل نحو 100 عام "وعملوا تحت اسم توسعة الشارع وزرعوا قبور وهمية وأغلقوا الطريق المؤدي إلى سلوان"، فلا ينسى أهل البلدة الصغيرة فعلة الاحتلال، ولا أمان في الأساس لمحتل.
منذ 1970 حيث احتلال شرقي القدس وتعمل إسرائيل على مخطط متكامل لتهويد زهرة المدائن وفقا لتقرير "كيوبرس" الصادر يونيو المنصرف، غير أن التوسع لم يظهر إلا قبل عشر سنوات، حيث تم تخصيص ميزانيات أكبر لهذا الشأن، وإعطاء سلطة التنفيذ لعدد من الشركات والجمعيات الاستيطانية مثل جمعية "إلعاد"، المعروف نشاطها الاستيطاني بالقدس، ويعدد "الرويضي" عدد المنازل الاستيطانية التي باتت في حضن أحياء بلدة سلوان "40 بيت استيطاني موجود في وادي حلوة و88 في حي البستان".
الادعاء هو كل ما تملكه السلطات الإسرائيلية بشأن أي قرار تعسفي تتخذه، ففي محاولات الاستيلاء على المقبرة، وضعت يدها على أرض بالجزء الشمالي المجاور لها، يملكها العائلتين المقدسيتين "الحسيني والخالدي" وفقا لـ"الرويضي"، بزعم عمل "تلفريك" –قطار معلق- يمر فوق المسجد الأقصى بدءًا من تلال الزيتون، وحتى تلك الحدائق المزعومة، على أن تسقط عمدان "التلفريك" في أرض المقبرة أو الأرض المجاورة.
يؤمن المقدسيون عامة وأهل "سلوان" خاصة بأن المحاولات للاستيلاء على المقبرة ما هي إلا إحدى الذرائع لتحقيق منال أكبر بالسيطرة على الأقصى، وفي المقابل لا تترك سلطات الاحتلال فرصة للتكدير عليهم، فتتعنت لقيام أهالي "سلوان" بتنظيف المقبرة جراء أفعالهم من تقطيع الأشجار وكسر لوحات القبور "أحيانا بيعتقلوا اللي بيشارك بالتنظيف"، وتحاول كسر فرحة الشاب بمنعه من الدخول لساحة المسجد "أحد الجنود الواقفين على باب الأسباط كان سبق له اعتقالي قبل شهرين فاستوقفني ومنعني من الدخول لمدة 20 دقيقة"، كاد يوم "قزاز" السعيد أن يتعكر غير أن إصراره على الدلوف لإتمام عقد قرانه كان له اليد العليا.
أشكال متعددة تحاول بها إسرائيل طمس المقبرة التاريخية، والرحم الأكبر لها "فلسطين"، تعتمد على الزمن، وقوة البلطجة الممارسة، "إذا تمكنوا منها سيزيلونها" كما قال رئيس إدارة الأوقاف، غير أن لـ"باب الرحمة" خاصة -وللأرض المقدسة كافة- رجال، يقفون لكافة الألاعيب بالمرصاد، أشداء على يد الاحتلال الغاشمة، رحماء حتى على موتاهم.
فيديو قد يعجبك: