صاحب مملكة أغاني الكارتون يتحدث لمصراوي.. في ضيافة كابتن ماجد وماوكلي والمحقق كونان (حوار)
حاوره- أحمد الليثي ودعاء الفولي:
تصوير- محمود بكار:
حينما يبدأ الطفل في إدراك ما حوله، تُصبح كل ذكرى ذات أهميّة خاصة؛ طعم الحليب في فمه، هدهدة الجدّة إياه بحنان، لمسات الأب تمسح على جسده برأفة، وأصوات المقربين يعرفها جيدًا فيطمئن لها. لا يكذب أو يرائي وبمجرد أن يشاهد صورة ملونة تأتيه عبر التلفاز ويسمع كلمات تقول "كابتن ماجد.. عاد إليكم من جديد" يردد الأغنية بتلعثم يُضحك المحيطين. حتى إذا صار كبيرًا بما يكفي، علم أن تلك الكلمات وألحانها جزءً منه، دون معرفة أن صاحب تلك الأعمال هو الملحن السوري طارق العربي طرقان، من أثرى الوطن العربي بتلحين وكتابة أكثر من 150 شارة -تترات- لمسلسلات الكارتون.. لم يكن "ماوكلي"، "كابتن ماجد"، "سيمبا"، "المحقق كونان"، "الحديقة السرية"، "سابق ولاحق"، "بابار الفيل" وغيرها، سوى جزء من موهبة "طرقان" البالغ من العمر 57 عامًا، قضى منها ربع قرن يفكر كيف يبني صغار العرب بطريقته الخاصة.
بمنطقة المهندسين بالجيزة جلس "طرقان" داخل منزله بصحبة العائلة. استندت لوحة بيضاء للحائط، كان ينظر لها بطرف عينيه أحياناً، تارة يصحبه الصمت، وأخرى يشير إليها مُعبرًا عن فخر اعتراه بطلاب جامعة زويل، الذين أنشأوا جمعية للغة العربية، وأرسلوا له تلك اللوحة إعجابًا بأعماله التي رسخت مفرداتها في أذهانهم. بعضهم اكتفى بكتابة "شكرًا عمو طارق"، والآخر خط له جزء من كلمات أغانيه، ثالث أخبره أنه تربّى على تلك الرسوم المتحركة، ورابع اكتفى بوجه مبتسم، فيما كان أكثر ما أثر بـ"طرقان" أن هؤلاء الشباب كان معظمهم صغيرًا للغاية أو لم يولد بعد حين تم إطلاق أعماله في أوائل التسعينات، ورغم ذلك فقد أحبّوا أعماله "الكارتون هو ياللي أنشا الرابط ما بينا". حتى بدا الأمر وكأن الملحن هو والدهم الروحي.
"طرقان" الصغير
في دمشق القديمة، كان ثمة بيت تُسمع من جوانبه الموسيقى، يُعزف فيه الجيتار، الكمان، العود، ومعهم يخرج صوت صفير متقطع، لطفل عمره سبعة أشهر أو يزيد قليلًا. سبق صوت ألحانه المرتجلة كلماته الأولى.. هكذا عاش "طارق" الصغير بين عائلة كبيرة، قوامها العلم والتعلم والموسيقى؛ والدته تكتب الشعر، فيما عزف خاله مع السيدة أم كلثوم حين غنت بسوريا. وكان أحد أخواله الآخر طبيبًا بينما لا يبرحه هوى الموسيقى، فأهدى "العربي" آلة المندولين، قبل أن يُتمم السابعة.
"تسع مكتبات ببيت واحد"، هكذا يصف "طرقان" لمصراوي تنوع اتجاهات أخواله الذين تربّى معهم بمنزل جده. بين التاريخ، الأدب، الموسيقى، كان الملحن يتنقل بسلاسة، يقرأ مما يشاء، كَبٌر على الكتاب كصديق، أحبّ فنونًا لم يعرف لها اسم، إذ كان يطالع مجلة حواء المصرية التي تشتريها خالته بسبب الخياطة، يتسلل خفية أحيانًا فيشاهد الرسوم الكاريكاتورية للفنان بهجت، وما أن أنهى الأعداد كلها، والتي تتخطَ 300 مجلة، انتقل للعمود الصحفي، فلم يكد يمر كاتب مصري من بين يديه إلا وقرأ له.
يوسف السباعي، نجيب محفوظ، طه حسين وأنيس منصور، صاروا أصدقاءَ خياليين لـ"طرقان" فيما بعد، فكلما أعجبه كاتب في المجلة، ذهب للمكتبة ليشتري أعماله، وهناك يتعرف على آخرين، وبينما لم يزد وقتها سنه عن أحد عشر عامًا، تاقت روحه للمزيد "بقيت دودة قراية"، فأخذته قدماه لمنطقة "المسكية" بالسوق القديم بدمشق "وهناك كان فيه كتب مستعملة كتير عم بيشتروها الناس"، فأصبحت تلك المنطقة هي المُفضلة، بجانب المجلات المُخصصة للصغار، كـ"سمير"، "تان تان"، "المغامرون الخمسة" و"أسامة".
لم يكن التلفاز يجذب "طرقان" في تلك السن، وبرامج الأطفال كانت تُقدم وعظًا مباشرًا لا يُحبه كثيرًا "وأظن إنه أبناء جيلي كلو ما تابعوا هاد البرامج بشكل كبير"، أما الرسوم المتحركة الحقيقية، فشاهدها لمامًا في السينما، في فواصل الأفلام المتتالية "كانوا بدل الإعلانات بيشغلوا كارتون"، لكنها لم تؤثر فيه بشكل كبير، إذ كانت القراءة والموسيقى هدفاه في الحياة، وكادت الأخيرة أن تُفسد علاقته بخاله "عبد الرؤوف" الذي أحضر له "المندولين".
فيما كان "عبد الرؤوف" بالسنة النهائية في الطب، أهدى ابن أخته جيتار "عمري وقتها كان 13 عاما"، ذُهل الفتى بما جاءه، قضى معظم وقته في العزف، حتى أنه ألف لحنًا أعطاه لصديق له عقب أكثر من 14 عامًا ليستخدمه بأحد البرامج. وبسبب عدم انتباه "طرقان" لدروسه نشبت مشادّة كلامية بينه والخال الذي لم يكبره سوى بثماني أعوام "قاللي اترك الموسيقى لأنه الدراسة أهم وكان هيكسر الجيتار".
التخلي عن التعليم مقابل أي شيء لم يكن مطروحًا بمنزل "طرقان". فجده ظل لسنوات مديرًا لمدارس "الليسيه" في سوريا، وأخواله بمهن مُختلفة، كانت له القدوة، غير أن أكثر من يذكره منهم هو هشام مزيان "ياللي كانوا بيقولواعنه في العيلة فاشل"، فقد ترك التعليم من الصف الثالث الإعدادي من شدة حبه للسينما، وعمل بأحد دور العرض "بيعمل فشار ويضوي للناس وهما داخلين الفيلم"، وبأحد الأيام تلفت آلات العرض روسية الصنع، فعرض الخال على أصحاب السينما أن يُصلحها، فرفضوا بالبداية ثم وافقوا على مضض، وعندما نجح "هشام" في إصلاحها، أرسل الاتحاد السوفيتي طالبًا إياه، فسافر وتعلم الهندسة، وحصل على البكالوريوس، وخلال أشهر عقب ذلك صار مديرًا للإذاعة الروسية ومن بعدها إذاعة بي بي سي وصوت أمريكا.
كلما تأتي قصة الخال على رأس "طرقان" يتذكر أن اتّباع الشغف في حد ذاته نجاح، والثبات على الحلم ليس سهلًا، لذا فتخبط الملحن والمؤلف بين عدة كليات فيما بعد لم يكن سوى دافعًا له ليستمر في نحت هوايته.
صدفة الكارتون
الطب كان المحطة الأولى لـ"طرقان"، غير أنه لم يستمر فيها أكثر من بضعة أشهر، يذكر أيامها ضاحكًا "أول شيء عملناه كان التشريح، فما قدرت أستحمل"، انتقل الشاب وقتها بخفّة للقسم الإنجليزي بكلية الآداب، إذ أحب اللغة كثيرًا وكانت متداولة بالمنزل "كنا عم نسمع أغاني إنجليزية وإسبانية وفرنساوية"، وحين دخل المحاضرة الأولى وجد جحافل من الطلاب تملأ القاعة الكبيرة، وأمامهم يقف المحاضر "قولتلهم كيف بسمعه وبركز مع كل هادا العدد"، فخرج منها ولم يعد.
قبل أن يلتحق بكلية الأحلام، مر بكلية الحقوق أيضا "بحب القراية والألغاز كتير فامتحنت ودخلتها وفضلت فيها سنة وبعدين تركتها". شئ ما بقي ينادي ابن دمشق، يشده بعيدًا عن اختياراته، فيعود عن القرار بعد اتخاذه، غير أنه أخيرًا قرر دلوف الفنون الجميلة، قسم النحت.
التخبط الذي صاحبه في الدراسة، لحقه أيضًا في عمله. لم يتوقف "طرقان" عن التلحين وكتابة الكلمات، لكنه لم يُرد إعطاء تلك الأغاني لأحدهم كي يؤديها "مش عاوز أبيعها"، ولم يرد أيضًا تأديتها بصوته، فقد شعر دومًا أنه لا يمكن أن يقف على المسرح ويُمسك بميكروفون "بشكل عام مكنش بدي أفوت بمجال الغناء". مع الوقت شعر المؤلف الدمشقي أن روحه مُعلقة بالفن، لكنه يريد أن يقول شيئًا مختلفًا، لا أن يكرر نمطًا موجودًا، حتى واتته الفرصة لذلك.
لا يؤمن "طرقان" بالمصادفات، ففضلًا أن كل شيء مُقدر سلفًا، يحتاج الإنسان أن يكون مؤهلًا لاستقبال القدر بشكل سليم. وهو ما حدث معه، فبينما حياته تجري بين تلحين وكتابة أعمال مختبئة في الظلام، والعمل بأحد المطاعم، قابل صديقًا قديمًا له، وهو مهندس صوت يُدعى محمد هاشم، كان يقبع بالمطعم الذي يعمل به منتظرًا أحدهم، وعقب تبادل الأخبار شكا له الصديق من أحد الملحنين "قاللي والله بنتظره لتالت مرة بميعاد وما بييجي.. راح نتفق معاه على كارتون ماوكلي لشركة الزهرة"، كانت تلك المرة الأولى التي يسمع فيها "طرقان" عن الشركة السورية، وفي لحظة لمعت عينا الصديق قائلًا: "طارق مش انت عم تلحن وتكتب.. شو رأيك تعمل لنا شارة الكارتون"، فما كان من الأخير إلا أن وافق قائلًا لصديقه ونفسه: "خليني جّرب وبشوف إذا بعرف".
المرة الأولى التي دخل بها "طرقان" لشركة الزهرة لا ينساها. كان فريق دبلجة الكارتون متواجدين، ومعهم رئيس القناة مناع حجازي، وصديقه "هاشم"، وما أن قال لهم كلمات بداية "ماوكلي" التي لا يتعدى زمنها الـ90 ثانية، حتى بدت ابتسامة على وجوههم. لم يفهم المؤلف ماذا يحدث، ففاجئوه أن كلمات الرسوم المتحركة يجب أن تكون بالعربية الفصحى وليس السورية كما قدمها، فما كان منه إلا تحويلها للعربية على نفس اللحن الذي ألفه فأعجبتهم.
ما أن ذاق "طرقان" حتى عرف أن ثمة فن سيستوعب موهبته، ولكن بشروطه الخاصة، وأن مجموعة من الأطفال سوف يستمعون ويحفظون ما يكتب، وأنه -شاؤوا أو أبوا- سيؤثر في وعيهم، وسيمسي جزءً من ذاكرتهم يستدعونه بابتسامة. في نفسه شعر بالرهبة والإجلال "لأنه الأطفال ما بيكذبوا وما بيجاملوا"، فخاض المغامرة بالألحان والكلمات، ولم يترك زمامها منذ تلك اللحظة عام 1991.
الكارتون بالعربي الفصيح
كتابة الكلمات بالعربية لم تكن عسيرة على ابن دمشق، رغم أنه حتى 21 عامًا، لم يندمج بشكل كبير مع الأغاني الشرقية، ساعده على ذلك أن الجيتار آلة غربية. غير أنه يذكر المرة الأولى التي سمع بها لحنًا عربيًا بامتياز، إذ كان يمكث بالسيارة، عمره لا يُجاوز الحادية عشر، حتى سمع موسيقى ناعمة تأتي من مكان ما بالشارع، وكانت لأغنية "أنت عمري" لأم كلثوم. ومع تعرفه إلى "ماوكلي" وأسرة شركة "الزهرة"، صار كل شيء عربيًا خالصًا.
"200 دولار" هو الأجر الأول لـ"طرقان" جراء "ماوكلي"، لا يزال متذكرًا المبلغ، فيما لم تشغله الماديات قدر استمتاعه بالعمل، لم يكن تخطى عامه الثاني والثلاثين وقتئذ في صيف عام 1991، بينما بقي لست سنوات كاملة يتعامل مع شركة الزهرة للدوبلاج من الخارج قبل أن يتفرغ للعمل به مع مطلع عام 1997.
السر كان احترام عقول الصغار. في تلك المرحلة كان "محمد وديما" ولدا "طرقان"، قد جاءا للحياة، فاستوعب -كأب أولًا- أن الموسيقى الموجودة على الساحة لا تفهم متطلباتهم. يؤمن طارق أن الطفل "معجزة"، صاحب قدرات وموهبة لا تحدها حدود، فلا يجوز الاستخفاف به، فكانت ألحانه تضج حيوية وطاقة، وكذا يضع نصب عينه وهو يكتب أن الكلمات التي تبدو في حاجة لشعر يتلقفها ستمر على أذن الأطفال بيسر "ما تظن أن الطفل لن يستوعبه زد عليه 40 أو 50 ضعفا، وهذا واجب عليك"، فالصغير يحتاج من ينمي ذائقته ومعرفته وأخلاقه وقيمه، فطالما ما سئم الاستخفاف بالصغار في صيغ "ضحلة": "ما ينفع تكون كل رسائلنا لهم عن الأرنب والبط والقط وحروف الهجاء.. هم أذكى من هيك".
الصدفة الأولى التي أدخلت "طرقان" لعالم الكارتون، تبعتها أخرى أكثر غرابة. فبعدما قام الملحن بتسجيل شارة "ماوكلي" بصوته ليغني عليها فنان سيتم اختياره، بدأت مرحلة البحث عمّن يتقن دور غناء البداية، ومع عدة تجارب أيقن العاملون بالشركة صعوبة الأمر "كل اللي غنوا وقتها قالوا الكلمات واللحن بشكل طربي فطلع فيه نشاز"، تسلل اليأس لنفوس الفريق، قبل أن يقول رئيس الشركة: "طارق، اتركها بصوتك هيك وخلاص"، وبالفعل تم إذاعتها كما غنّاها الملحن بالمرة الأولى، وقد تكرر نفس الأمر بالجزء الثاني من كارتون "كابتن ماجد" ثم الثالث والرابع وأصبح "طرقان" هو المغني رسميًا لشارة البدء والنهاية، فيما شارك مرة وحيدة بالدبلجة الغنائية في مسلسل "انستازيا"، وكذلك أدى دور "ببغاء" في أغنية للطيور.
بيت الأطفال والكبار
لم يكن مركز الزهرة للدوبلاج مجرد مكان عمل لـ"طرقان"، بل منزله الأول، الجميع يتعامل بحب، انتماء حقيقي وروح متفانية، الكفاءة والإخلاص مبدأ المشاركة "الشخص اللي كان بيرد على تليفون الشركة صار مذيع مهم في سوريا.. لأنه درس وتعب ع حاله".
كان التعاون ملفت بين أعضاء العمل. يذكر الملحن أنه خلال تسجيل شارة "ماوكلي" احتاج مساعدة البعض ككورال، فساعده في ذلك رئيس الشركة وعازف "الفلوت" رغم أنها كانت المرة الأولى لهما في الغناء "كان عندنا رؤية إن دول أولادنا، ومكنش الموضوع بنظرة تجارية بتاتًا". إذ رفضت الشركة ذات مرة إعلانًا بمبلغ ضخم لأنه يخدع المستهلك "هي الفكرة أنت عندك مبدأ، هتمشي عليه ولا هتصهين، هتبني فكرة وتدافع عنها ولا هتتنازل".
"نسبة الخطأ زيرو" يقولها "طرقان" مفتخرًا، وهو يشير إلى فريق مركز الزهرة، فهو أشبه بأطباء عمليات حرجة؛ الكل رقيب، بدءًا من اختيار العمل مرورًا بالممثلين ومهندسي الصوت، المونتير ومراجعي اللغة، وحتى صاحب المركز "في كارتون لكولومبوس يظهر الشخص العربي كغدار وخائن، اشتغلنا عليه وظهر في صورة مغايرة تمامًا".. وكذلك كان الارتقاء باللغة العربية هدفًا لهم لا يعرف التراجع.
90 ثانية مدة الشارة كانت سبيل "طرقان" للدخول في قلوب محبيه، فهو يؤمن بالتكثيف "مينفعش الطفل يستنى 3 دقايق عشان يشوف الحلقة، ممكن ميكملش". كانت القنوات تطالب بمشاهدة دقيقة ونصف من العمل ومثيلتها للشارة وعلى ذلك الأساس تقبل بعقد الصفقة من عدمها، فكان للملحن دور كبير في عرض الكثير من أعمال الكارتون في دول عدة بفضل ذلك الإبداع.
قناة "سبيس تون"
كانت شركة الزهرة ناشئة حين انضم لها "طرقان"، استطاعوا ترك بصمتهم في السوق مع الوقت، حتى تفتّحت فكرة قناة عربية، تعرض أعمالهم، تُقدم مُحتوى يناسب الطفل العربي، فكانت "سبيس تون".
12 شخصا كانوا اللبنة لفكرة القناة. يحكي "طرقان" عن التفاصيل الأولى للتجربة "كانت مغامرة؛ إزاي تقدم قناة متكاملة للطفل، وتهتم بهويته.. عملنا كونسلتو وبدأنا رحلة العصف الذهني". كان ذلك في مطلع الألفية الجديدة حين وضعت الخطة، من عامل بصري لطرح أفكار مختلفة وتقسيمات الوقت وأشكال البرامج وحتى الفواصل. وكان الأمر بين 3 فئات، الأولى لأصحاب رأس المال "مناع حجازي، المسئول الفني وشريكيه الأخوين فايز الصباغ وماهر الحاج ويس"، والثانية لـ"طرقان" ورفاقه من الموسيقيين ومهندسي الصوت والمونتير ورجال اللغة، وهي نفس مجموعة الزهرة، فيما يحل في المرحلة الأخيرة المدبلجين.
فيما يتحدث "طرقان" لمصراوي، جلس لجانبه ابنه الأكبر محمد والصغرى تالة. لم يكن "محمد" و"ديما-الابنة الوسطى- قد تخطيا العام الرابع حين شاركا في تسجيل شارة "بابار الفيل" بعدما احتاج "طرقان" لصوت أطفال في الخلفية، لذا نشأ الأبناء في عباءة الأب محبين لدنيا الكارتون وكواليسه، فصار "محمد" صوتًا دائمًا في عالم "سبيس تون"، وكذا تشارك ديما وتالة في دبلجة بعض الأصوات وأغاني المسلسلات بالقناة، وبعض الفواصل.
ظلت "سبيس تون" تجربة متفردة، تقدم أفكارًا خلّاقة، جيش صغير يعمل من أجل طفل، ولم يقتصر دورها على الترفيه والتثقيف فقط، إذ امتد لتثبيت كراهية إسرائيل كعدو في قلوب الأطفال. فعقب 6 شهور من إنشاء سبيس تون كتب "طرقان" أغنيته "طلقة" تمجيدًا لاستشهاد الطفل الفلسطيني محمد درة، والتي غنتها الطفلة هالة الصباغ.
لم تستمر القناة على نفس النمط بالنسبة للملحن، فقد أبدى غير مرة عدم إعجابه بـ"سبيس تون" في وضعها الحالي، رغم أنه لا يزال أحد روادها "المفروض يكون أفضل من هيك، كان في اتفاق بالتطور في 2003 وده محصلش، ومينفعش نثبت على نجاح واحد لأن ده معناه تراجع".. فيما يرجع سببًا أخر لبعض الهفوات الصغيرة داخل المحتوى، وهو مغادرة البعض لسوريا عقب الأوضاع الجارية، وهو ما أضعف التواصل نسبيا وفتت بعض الكوادر.
كلهم أبناء "طرقان"
ما أن يطرق أذن "طرقان" اسم عمل له حتى يردد خلفه "هو الأحب لقلبي"، الأمر ليس ككلاشيه "كلهم أبنائي" حسب قوله. كل الأعمال أخذت مجهودًا كبيرًا؛ تنقيح موسيقي، مراجعة للكلمات بدأب "بتفضل رأسي تضوي, بتكون الشارة بتتسجل في الاستوديو وممكن أغير فيها بأخر لحظة.. مهتم بكل حرف وكل معنى". يُدرب "طرقان" نفسه على الإبداع، لا يترك حاله لغرور أو استسلام لنجاح وقتي، يطلق العنان للأفكار تتعارك في رأسه حتى تختمر الرؤية، لا يتخذ طقوسًا للكتابة فهو دومًا في حالة "عصف"، أو كما يحكي ولده الأكبر "كنا بنسوق السيارة وقاللي وقف وقف.. وطلع قلم وكتب كلمات حضرت بذهنه وكنا هنسجلها تاني يوم".
لا يعتمد الملحن السوري على ملخصات الأعمال في كتابة الشارات، وإنما يتخذ سمات عامة في دنيا الطفل، كلماته كالكالسيوم تدعم قوى الصغار، يكتب للبنات على لسان "حنين" وللبنين "سابق ولاحق"، وحين يُرغِب الأطفال في حب الفيلة يقول: "مرةً في حيينا زارنا فيلٌ ظريف، برفقٍ قال لنا: ليس هُنالِك ما يُخيف، نحن الخيرُ بطبعنِا لا نرضى ظُلم الضعيف.. لا يحيى بيننا إلا الإنسانُ الشريف.. بابار الفيل ذكيٌ نبيل وعالمُ الأطفال عالمٌ جميل"، وعندما ينزع عن رأس الصبية تعصب الكرة يدندن: "سجل أهدافا لا تيأس لا تخشى المرمى.. كُن حسنَ الخُلقِ مع الخصِم فأهدافكَ أسمى.. كابتن ماجد عاد إليكم من جديد".
لكلمات "طرقان" فلسفة، ففي "ماوكلي وسيمبا" طاردته الفكرة "كل ما نتخانق سوا نقول: هو إحنا عايشين في غابة"، فيرد بعفوية الطفل داخله "ياريت نعيش في غابة، عالم الحيوان نحنا ظالمينه"، لذا راح يردد ومن خلفه الأجيال "هل شاهدتم ذئبًا في البراري يأكلُ أخاه، هل شاهدتم يومًا كلبًا عض يدً ترعاه، هل شاهدتم فيلاً يكذبُ، يسرقُ، يشهدُ زورا، ينكرُ حقا، يُفشي سرا، يمشي مغرورا بأذاه.. سيمبا".. بقي وقع كلماته وألحانه لا تفارق مخيلة الأطفال في الوطن العربي، وحتى الكبار "في فترة عرض كابتن ماجد، شباب 28 سنة كان بيسيب شغله ويروح يتفرج"، يضحك "طرقان" من سخرية البعض لمجريات أحداث المسلسل الشهير قبل أن يعترف "نحنا كمان كنا نتريق على التسديدة التي تصل لثلاث حلقات.. لكنه كان عمل صادق والكل يتابعه".
مشروعات جديدة..
منذ 5 سنوات استقر الملحن بمصر، حاول استغلال تلك السنوات بأن يشارك بعض من تربوا على صوته مشروعًا للأطفال "شباب كتير عندهم طاقة لأعمال مختلفة.. وأنا كلي سعادة لدعمهم"، خلال رحلة عمله خاض "طرقان" تجارب قليلة لخروج مسلسل رسوم متحركة عربي بالكامل، أبرزها فيلم "محمد رسول الله" بطولة محمود ياسين في 2001، ومشروع لمسلسل باسم "الأشبال" لم يكتمل، وعمل ثالث من صناعة مركز الزهرة "كان اسمه مدينة المعلومات بس مش كارتون بمعناه الاحترافي.. يعني صور وفوتو مونتاج وشوية تركيبات".
مازال صاحب شارات الكارتون يعمل بيديه، يدندن عقله بأفكار جديدة فينقلها للطفل، صارت التكنولوجيا مُبهرة، غير أن الكارتون له جلال لا يموت. ظروف الوطن العربي تغيرت كذلك، نشأ جيل من الأطفال عمرهم أكثر من خمس سنوات لا يعرفون بلادهم كما ينبغي. في سوريا، العراق، اليمن وغيرها، تشوهت حيواتهم بين فقر، مجاعات وحروب، غير أن "طرقان" مؤمن بما يمكن للكارتون أن يفعله لهم "حتى لو كان مهرب من الظروف السيئة فهو على الأقل مهرب جيد"، فيومًا ما سيتسنى للصغار الاستمتاع بما يُقدمه المؤلف ومن مثله، حين تكون الظروف السياسية والاقتصادية أفضل. وحتى يأتي ذلك يبقى الكارتون روح الصغير، يقتنص منه حياة كلما استطاع إليه سبيلاً، يُلقي بنفسه في ذاك العالم، الذي لا يعرف ضيق، أو فقد، أو حزن.
فيديو قد يعجبك: