لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"رحلة يوسف".. كيف وثَق أب وفاة ابنه خلال 54 يوما

02:00 م الخميس 18 أغسطس 2016

كتاب رحلة يوسف

كتبت-رنا الجميعي:

لم يرغب سامح فايز في أن يواري الموت ولده "يوسف" بهذه السرعة، نعم أخذه القدر، لكنه أراد تخليد رحلته التي سار فيها مدة أربعة وخمسين يوما، لم يبكي أو يضحك فيهم، حتى عينيه لم تلمع ببريق الحياة سوى مرة أو مرتين، فقد ابتلاه ربه بمرض في الدماغ، جعل أيامه قليلة، انتهى عُمره سريعًا، ليكتب أباه سيرته بين صفحات كتاب، يذكره فيها، ويسعى في الأرض يشكي حال مراكز الوحدة الصحية بمصر، ويُلملم وجع أطفال مثله.

عن دار الكرمة صدر حديثًا كتاب "رحلة يوسف" لسامح فايز، يمزج الكاتب بين سيرة مرض طفله الصغير، ورحلة للصعيد يُفتش فيها وراء الموت، يبدأ الكتاب بتردد فايز في السعي لرحلته، ويد زوجته المشجعة له، قائلة :"إنه كتاب يوسف، ويجب أن يكتمل".

ينطلق فايز في رحلة للصعيد، بدءًا من أبشواي بالفيوم، يُقابل في طريقه أول محطة له بقرية "بركة"، عيني فايز تنصب حول أوضاع مراكز الوحدة الصحية. مبررًا ذلك بما رآه من مرارة أحوال المستشفيات العامة، والقادمون من المُحافظات مفترشي الأرض أمام البوابات، الذين يقترضون الوقت والمال لعلاج أبنائهم، فلا يجدوا سوى التعسف والتأفف من تكدسهم.

ولكي يبدأ فايز صفحة جديدة من حياته كان عليه الوصول لأصل المُشكلة، وهي المراكز، فيطرح عليه صديقه الطبيب بمركز "يوسف الصديق" في قرية "بركة" سؤالًا: فهمني انت محتاج تعرف ايه بالظبط؟، فيرد الكاتب والصحفي: الحكاية بسيطة، عاوز أشوف الناس وانت بتكشف عليهم.

الإجابة التي لا يستوعبها الكثيرون ممن يُقابلهم فايز في طريقه، بدأت من رحلته في علاج ابنه الذي وُلد مريضًا، مع كل يوم منتهي يمرر الأب القلم على الورق ليكتب آخر أخباره، وخلال 54 يوم كتب فايز ما حدث، متى عرف بمرض ابنه، وكيف قضى أيامًا يستغيث بالأطباء ليفهم ما الذي ألّم بابنه، وكيف الشفاء منه. نثر آماله على باب مستشفى أبو الريش، والاتصالات بالأصدقاء ليحضر دواء لا وجود له سوى بالسوق السوداء، تغير فايز مع الوقت، يقول في اليوم الثاني عشر: "في الأيام العشرة الأولى، كنت أميل إلى التخاذل وعدم إدراك المسئولية التي أتحملها، كأنني كنت طفلًا يهرول وراء طفل آخر".

مع يوميات يوسف الموجعة، لم تقضَ على حس السخرية والمنطق في حديث والده، يذكر بعض الدروس التي تعلمها في سعيه، والانفعالات التي يخلعها على باب المستشفى "الصبر مفتاح الفرج، والبرود مفتاح أبو الريش، اترك كرامتك على الباب وإذا وجدت تركها صعب فاحرقها واحرق نفسك معها". كما تتحوّل سيرة يوسف لسيرة مشابهة لأي طفل مريض بأبو الريش، ووصف لحال المشفى، من زحام وظروف طبية سيئة، وبؤس اعتلى ملامح الكثير ممن تعرضوا لنفس الظروف، بجانب اليوميات هناك ملحوظات يكتبها فايز تفيد المنضم لطابور المرضى على باب أبو الريش، كمواعيد العيادات وأعداد المستقبلين، حيث يدخل في اليوم حوالي 200 حالة مرضية لتخصصات بعينها.

جاء يوسف للحياة في 17 إبريل لعام 2014، ورحل في العاشر من يونيو لنفس السنة، مع الإنهاك الجسدي الذي تعرض له فايز خلال تلك الأيام، لكن ظل الأمل يُخايل نفْس فايز، غير أن الموت اصطحب يوسف سريعًا، وندم اعتصر قلب أبيه "أنا من فتحت له باب الدنيا، من دون أن أتأكد من قدرتي على غلق باب الموت أمامه"، ذهب يوسف ببساطة تختلف عن صعوبة مجيئه للدنيا، حيث قال له أحد الموظفين "ادفنوه عادي، في الموت مالوش لزوم الورق".

في كتاب يوسف يقول فايز "لماذا لا أدون صرخات الألم، ربما أجبر الآخرين على سماعها، لماذا لا أنتحل صفة أب مرض طفله فخرج من بيته بحثًا عمن يداويه، لماذا لا يكون ذاك الطفل المتخيل هو يوسف، لماذا لا أعيده للحياة ولو لأيام"، وتبدأ الأوجاع التي مرت بسمع فايز بقصة الفتاة المريضة في قرية "بركة"، التي لا يُعالجها والدها "معندناش بنات بتكشف"، ومن تلك القرية ثم "قصر الجبالي" إلى مسقط رأسه قرية "الحمام" ببني سويف، يسأل فايز خاله عن الوحدة الصحية بقريته فيقول له "لو ذهبنا إليها لن نجد الطبيب، وإذا وجدنا الطبيب لن نجد الدواء، ولو وجدناهما فالطبيب لن يكتشف حقيقة مرضك، إذ ترسل لنا مديرية الصحة طلابًا حديثي العهد بالطب، يتدبرون في أجسادنا".

مع تواجد فايز في قريته زار قبر يوسف الموجود ضمن مدفن العائلة أعلى الجبل، يتأسف لديه أنه لم يزره منذ عام، يحكي له عن ندمه لجهله بكيفية علاجه، ويناجيه برحلته هذه، واكتشافه أنها ليست لسرد أسفار المرض فقط، وإنما ليستكشف في "جنبات حكاياتهم وسيلة راحة" أو ليلاقي نفسه التي تلاشت.

من كفر غطاطي إلى قرية "أبو عزيز" بمركز مطاي، في محافظة المنيا، ومنها إلى سوهاج ثم الصوامعة، شرق مركز أخميم، وتلاهم محافظة قنا وقرية الشبكية ومستشفى دراو بكوم امبو، لتنتهي رحلته بمؤسسة مجدي يعقوب في أسوان، في كل تلك البلاد سعى فايز لالتقاط الحكايات، كذلك المفارقات بين أراضي تقدمت بالكهرباء والتكنولوجيا، لكنها لم تصل إلى الصحة وأحوال المعيشة. يشرح في رحلته كيف دخل عدة مراكز للوحدة الصحية، ورأى فيها بعينيه كم الإهمال داخلها، أو أنه لم يجد أطباءها بالأساس، مفسرًا ذلك بأن التكليف قد جاء بهم لمناطق بعيدة جدًا عن أماكن سكنهم.

أنهى فايز رحلته بزيارة مؤسسة مجدي يعقوب، جاءت المؤسسة بخلاف ما شاهده في مراكز الوحدة الصحية أو المستشفيات الحكومية، تستقبل المؤسسة الحالات حسب خطورتها، وتوفر سكنًا لمن لا يملكون القدرة على تدبيره، بين عائلات فقيرة وأخرى غنية حضرت للشفاء من داء القلب، تجوّل فايز ليصف ما رآه بعينيه، وبعض الأمل الذي سلبته منه حال مستشفيات مصر، استعاده ثانية هناك بالمؤسسة، ليقرر أنه سيهب نصف أرباح كتابه لها. التقى فايز أثناء تجوله بالمؤسسة بالطفلة "سمر"، أثارته بضحكتها التي لا تٌقارن مع بتر أطرافها. فيكتب في نهاية رحلته مُحدثًا يوسف أنه أخيرًا وجد الله، استطاع جمع شتات نفسه خلال تلك الرحلة، وصادف أن التقى بالمحبة التي ملأت قلبه تجاه يوسف، ولده الذي لم يعش سوى 54 يوما.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان